الدين القويم إيمان الله واستقامة في التصرف.
وقد أوحى الله إلى جميع رسله وأنبيائه ديناً واحداً هو الإسلام؛ ولكن جعل لكل منهم شريعة مختلفة عن الآخر، أي منهاجاً وسبيلاً وطريقاً للدعوة إلى الدين تختلف عن منهاج وسبيل وطريق غيره. فشريعة موسى (ع) هي الحق، وشريعة عيسى (ع) هي الحب، وشريعة محمد (ص) هي الرحمة التي تلطّف الحق بالحب وتخفّف الحب بالحق. وتطبيقات كل شريعة على أحداث الحياة ووقائع الناس توجد أحكام الشريعة. والمجتمع الرشيد هو الذي يرعى روح الشريعة فيُعْمل معناها على كل واقعة وفي كل تطبيق ومع أي تصرّف. وكما أنّه لا ينبغي أن يتجمد الدين في شعائر معينة، فإنّه يتعين ألا تتوقف الشريعة عند أحكام محددة. فطبيعة المنهج تقدم، وطبيعة الطريق تواصل، وطبيعة السبيل استمرار. إنّ آيات القرآن ستة آلاف آية، وما يتضمن أحكاماً للشريعة – في العبادات أو في المعاملات – لا يصل إلى سبعمائة آية، منها حوالي مائتي آية فقط هي التي تقرر أحكاماً للتعامل المدني أو للجزاء الجنائي، وترجع علّة ذلك إلى أنّ القرآن قصد – في الدرجة الأولى – أن يصبّ الإيمان صباً في النفوس وأن يعيد صياغة الضمائر على روح الشريعة وبهدي الدين، فيكون كل فرد في المجتمع باراً رحيماً عادلاً فاضلاً تقياً، ويصبح المجتمع من ثمّ مجتمع البر والرحمة والعدل والفضل والتقوى. فالضمير هو الأساس في الدين، والروح هي الأصل في الشريعة، وإذا استقام الضمير وقويت الروح لم يقتصر الإنسان على الامتناع عما هو محظور لكنه يسعى إلى التفضّل بفعله والتبرّع بذاته. فالأحكام الجنائية عموماً تفرض عقوبات على الجانحين – وهم في العادة نسبة ضئيلة من أفراد المجتمع – لكنها لا تدفع إلى البر والفضل والإحسان. والضمير الراقي والخلق الرفيع والنفس المؤمنة هي التي تُلزم نفسها الواجب وما يزيد على الواجب من تفاضل وتراحم وتجامل. فالجزاءات هي لمن يخطىء ويتدنى من أفراد المجتمع، لكن الضمير لمن يسمو منهم ويترفع. ودائرة الأفعال المؤثّمة تشمل جزءاً صغيراً من دائرة أوسع وأشمل تضم الأخلاقيات والبر والتعاطف والمجاملات مما لا يمكن تأثيمه، ويتناول كل تصرفات الفرد مع نفسه ومع أسرته ومع جيرانه ومعارفه وأصدقائه، وفي المجتمع على العموم. لهذا عُني القرآن بتنقية الضمير وترفيع الخلق، لأنّ هذا وذاك هما الأصل في التعامل وهما الأساس الذي ينهض به المجتمع واللبنات التي يشمخ بها بناؤه، ثمّ نص القرآن على جزاءات تُوقّع على من يخطىء من الناس أو يأثم منهم، وهم في مجتمع المؤمنين قليل. فالقرآن لم يقف عند حد وضع جزاءات للآثمين – شأن قوانين العقوبات – بل قصد الحثّ المستمر على ما هو أكثر من مجرد الامتناع عن الجرائم المؤثمة، وهو الدعوة المستمرة إلى العدل والفضل والبر والتقوى والعفو والإحسان: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2)، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 104)، (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة/ 195). وحتى في مجال الأحكام التي تنظم المعاملات المدنية والتجارية وعلاقات الأحوال الشخصية ركن القرآن دائماً في تطبيق الاحكام إلى ضمائر الناس وأخلاقهم حيث يتفضلون ويتعافون ويتسامحون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1). (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة/ 237)، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران/ 134). فالاقتصار على تطبيق أحكام الشريعة في الجزاءات أو في المعاملات يحصر الشريعة في نطاق محدود جزئي، أما قيام المجتمع على روح الشريعة فهو يعني ما هو أزيد من أحكام الجزاءات والمعاملات وأشمل: أن يكون المجتمع باراً تقياً عادلاً فاضلاً محسناً عفُوّاً، فيتجاوز كل فرد فيه دائرة الأفعال المؤثمة ودائرة الأحكام المحددة إلى دائرة أوسع تشمل التفاضل والتراحم والتجامل، وتقوم على التقوى والعدل والفضل والعفو والإحسان، وبذلك لا يقتصر امتناع كل فرد عن أي فعل مؤثم بل يشمل الامتناع عن أي فعل مستهجن أو محتمل الإساءة إلى الغير؛ ويطبق كل فرد العقود بما ورد فيها وما يزيد على ذلك، فضلاً من عنده وعفواً لأخيه وإحساساً للمجتمع؛ ويبادر إلى كل فعل بار بالأهل والجيران والأصدقاء، وكل فعل محسن للناس وللمجتمع، بدافع من نفسه ووازع من ضميره، لا يرجو به مثوبة ولا يخشى فيه عقوبة. وفي خلاصة موجزة: إنّ قيام المجتمع على روح الشريعة يعني أن يلزم كل فرد فيه نفسه أحكام الشريعة وأن يلزم نفسه ما لا يلزمه به أحد من فضل وعفو وبر ورحمة وإحسان، ارتقاء بضميره وابتغاء وجه ربه. مثل هذه الروح السمحة الفياضة لا ترهق النصوص بتأويلات تبعدها عن الغاية منها أو تحريفات تصرفها عن المعنى الواضح؛ لأنّها لا تتلمس الخروج على النصوص والهروب من الأحكام والبحث عن منافذ التحلل، وإنما هي تقصد إلى تنفيذ النصوص وتطبيق الأحكام بحرفها وروحها، وتُلزم نفسها الوفاء بما عليها، ثمّ تفرض على نفسها ما لا يُلزمها إلا بالضمير الراقي والخلق الرفيع، فتتفضّل دائماً وتتراحم أبداً وتتجامل في كل مناسبة. على أنّه في إعمال أحكام الشريعة تنبغي التفرقة بين هذه الأحكام التي وردت في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة للنبي وبين آراء الفقهاء واجتهادات المجتهدين وشروح الشراح وتطبيقات القضاة، فهذه الآراء والاجتهادات والشروح والتطبيقات ليست أحكاماً في مستوى الأحكام التي وردت في القرآن أو في الأحاديث الصحيحة، وإن كان التقدير الخاطىء يخلط هذه الأحكام وتلك ثمّ يُحْدِث مطابقة بين الأحكام التي تتضمن الآراء والاجتهادات والشروح والتطبيقات وبين الشريعة ذاتها، فيعتبر – خطأ – أنها هي الشريعة، ثمّ يثحدِث مطابقة ثانية بين الشريعة والدين فيظنهما أمراً واحداً. وهكذا ينتهي هذا التقدير الخاطىء إلى أن يعتبر ما يصدر عن البشر من رأي أو اجتهاد أو شرح أو تطبيق هو بذاته الدين. والنتيجة التي ينتهي إليها هذا الخلط والاضطراب والبلل أن لا يُقصد بتطبيق الشريعة تطبيق روحها أو تطبيق الأحكام الواردة في القرآن أو في السنة الصحيحة، ولكن يرمي إلى تطبيق التراث الإسلامي بكل ما فيه من آراء واجتهادات وشروح وتطبيقات كانت وليدة ظروفها وأثراً لثقافتها ونتاجاً لأحداث عايشتها، وهي – من بعد – قد تكون في حاجة إلى آراء جديدة واجتهادات متتالية وشروح عصرية وتطبيقات مستحدثة حتى يمكن أن تلائم ظروف العصر وأحوال الناس، وإلا تكون قد حكمت على المجتمع بأن يظل سجين الماضي أسير قبضته، لا يحيا زمنه ولا يعيش حاضره. المصدر: كتاب جوهر الإسلاممقالات ذات صلة
ارسال التعليق