بعد أن وصل الفتية أصحابُ الكهف إلى هذه المرحلة من البحث والاهتداء، وبعدما علموا قوَّتَهم وقدرتَهم بالنسبة لقوة قومهم وقدراتهم، وأنّهم عاجزون عن المواجهة والتغيير، قرروا اعتزال القوم، وآثروا الذهاب إلى الكهف، ونادى بعضهم بعضاً قائلين: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا) (الكهف/ 16).
أي: بما أنكم قررتم اعتزالَ قومكم الكافرين، واعتزالَ عبادتهم الباطلة للآلهة من دون الله، فاذهبوا إلى الكهف، وأووا إليه، فهو أفضل مكان للعزلة، وهنان يبسطُ الله عليكم فيه من رحمته، وينشرُها عليكم نشراً، ويهيء لكم ما يصلح لإقامتكم فيه.
- متى اعتزلوا قومهم؟
والسؤال الذي يطرح نفسه: متى قررا الفتية المؤمنون اعتزال قومهم؟
والجواب: إنهم قرروا الاعتزال بعد دراسة للواقع الذي يعيشونه، لقد نظروا في قوة قومهم الكافرين، فوجوهم يملكون كل وسائل القوة والسلطان، ونظروا في أنفسهم فإذا بهم لا يملكون من تلك القوة المادية شيئاً.
وهذا يعني أنهم إذا واجهوا قومهم وحاربوهم، فإنّ المعركة ستكون غير متكافئة، وستكون نتيجتُها معوفة مسبقاً. إنهم لن ينتصروا فيها، فلماذا يخوضونها؟.
ثمّ نظروا في موقف قومهم، فإذا بهم مُصرّون على الكفر، لا يسمعون كلمة في الدعوة إلى الإيمان بالله، ولا يستجيبون لصاحب تلك الدعوة. بل سيلجأوون إلى الفتك به، وإيذائه وتعذيبه، وقتلِه وسفك دمه. إذن لا فائدة من الجدال معهم أو دعوتهم.
ونظراً لذلك، فقد علم الفتية المؤمنون أنّه لا فائدة من وجودهم مع قومهم، ولا إمكانية للبقاء معهم، بل يُخشى أنّه يفتنهم قومهم، وأن يردوهم عن إيمانهم.
فلم يبقَ إلا الاعتزال، والذهاب إلى الكهف، ليعيشوا إيمانهم، ويعبدوا فيه ربهم.
لقد كان قرارُهم بالاعتزال والذهاب إلى الكهف صائباً وصواباً، ويتفق مع حالتهم وواقعهم. ولذلك استجاب الله دعاءهم، وبسط لهم من رحمته، وهيأ لهم في كهفهم مِرْفقاً.
- هل نقتدي بهم في العزلة؟
وقد يثير بعض المسلمين تساؤلاً حول اعتزال أهل الكهف لقومهم، فيقول: بما أنّ أهل الكهف مؤمنون، وأنّ قرارهم بالعزلة كان صواباً، وقد أثنى عليهم القرآن لموقفهم، أفلا يجوز أن نقتدي بهم في هذا؟ وماذا علينا لو اعتزلنا قومنا، وذهبنا إلى الكهوف والجبال؟ أو اعتزلناهم وأوينا إلى بيوتنا؟
وللإجابة على هذا، نقرر أنّه لا يجوز للمسلم أن يعتزل الناس عزلة مادية حسية، لا يتصل بهم ولا يخالطهم ولا يدعوهم ولا ينصحهم. ولا يجوز له أن يقتدي بأهل الكهف في هذا.
- من الفروق بيننا وبينهم:
هنا فروق جوهرية بين واقع المسلمين وبين أهل الكهف، وهذه الفروق تمنع أن يُقاس واقع المسلمين على واقع أهل الكهف. ومن هذه الفروق:
1- لأهل الكهف شرعٌ غيرُ شرعنا، وإن شرعهم أجاز لهم اعتزال قومهم، وأعذرهم في عدم تبليغهم، ونحن لا نقتدي بهم في هذا الحكم، والراجح عند الأصوليين أنّ شرع مَن قبلنا ليش شرعاً لنا.
2- شرْعُنا صريح في منع العزلة، وفي وجوب التبليغ والدعوة، وفي القرآن آيات صريحة في ذلك منها:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة/ 67).
وقوله تعالى: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) (الجن/ 22-23).
إنّ الإسلام لا ينتشر إلا بمخالطة الناس ودعوتهم، وإنّ المسلم لن يقوم بواجبه، ولن ينجو من المساءلة والعذاب، إلا عن طريق الدعوة والتبليغ والبيان.
3- الرسول (ص) يحثُّنا على مخالطةِ الناس، والصبرِ على أذاهم، وينهانا عن اعتزالهم.
ونكتفي من توجيهاته حول هذا الأمر بهذا الحديث. فقد روى ابن ماجة عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله (ص): "المؤمنُ الذي يُخالِطُ الناس، ويَصبِرُ على أذاهُمْ، أعظَمُ أجْراً مِنَ المؤمِنِ الذي لا يُخالِطُ الناس، ولا يصْبِرُ على أذاهُمْ"[1].
إنّ مخالطة الناس تكون من أجل نُصحهم وتذكيرهم، ولا يجوز أن تكون على حساب الدين والتقوى والطاعة، فلا يجوز للمسلم أن يتفلّت من دينه، أو يتخلى عن مبادئه، أو يمارس المنكرات والمحرمات، بحجة مخالطة الناس.
وكم كان الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – دقيقاً وذكياً وموضوعياً ومتوازناً عندما قال: "خالِطِ الناسَ، ودينَكَ ولا تكْلِمَنَّه"[2].
والكَلْم هو الجرح.
أي خالط الناس بتوازن وتناسق، فإيّاك أن تَكْلِم دينك وتجرحه، من خلال ارتكاب المحظور، وفعل المنكر، وترك الواجب.
4- ثمّ هناك فرق رابع بيننا وبين أهل الكهف، وهو الواقع الذي نعيشه، لقد كانوا يعيشون بين قوم كافرين، مصرِّين على كفرهم، رافضين الدعوة والنصح، فكان لابدّ من الاعتزال.
أما نحن فإننا نعيش وسط أناس مسلمين – غالباً – توجَد بيننا وبينهم مادةٌ مشتركة – وهي الإسلام - يمكن أن ننطلقَ معهم منها، وأن نبنيَ عليها، وأن نعيدهم من خلال المخالطة، إلى دائرة الالتزام والطاعة.
ومن الواجب أن نشير هنا إلى العزلة الشعورية، والفرق بينها وبين العزلة الحسية المادية.
والعزلة الحسية المادية هي أن تغادر الناس، وتعتزلهم بجسمك وبدنك وحياتك، وتختار أن تعيش في عقر بيتك أو في الكهوف والجبال. وعرفْنا أن هذا لا يجوز.
أما العزلة الشعورية، فهي المخالطة للناس، مع التميز عنهم بالفكر والتصور، والأخلاق والسلوك، هي أن تعتزل ما هم عليه من الباطل بشعورك وتصوُّرك، وأن لا تأخذ إلا من إسلامك، وبهذا تخالطهم لتؤثر فيهم، وأنت في مناعة عن التأثر بهم!
- بين ضيق الدنيا وسعة الكهف:
قرر الفتية المؤمنون اعتزالَ قومهم، وأووا إلى الكهف، آملين أن ينشر عليهم ربهم من رحمته، واستجاب الله لهم، وحقق لهم أملهم ورجاءهم، فنشر عليهم في الكهف من رحمته.
وإنّ الإنسان ليعجَب من هذه اللقطة:
لقد ضاقت على أولئك الفتية المؤمنين، الدنيا الواسعةُ العريضةُ التي كانوا يعيشونها مع قومهم الكافرين. ضاقت عليهم على سَعتها، لأنّها خالية من الإيمان، ضاقت بهم لأنها امتلأت كفراً بالله.
وتضيق الدنيا والحياة، عندما تخلو من الإيمان، وعندما يعمها الكفر والفسوق والضلال. فيراها المؤمن ضيقة، تكاد تكتم أنفاسه.
أما الكهف – الضيق – فقد اتَّسَع من حولهم، فأحسّوا أنّه واسع عريض، فمن أين جاء هذا الإحساس؟.
إنّه إحساس حقيقي، وليس وهماً أو تسلية أو ظناً، إنّ المؤمن يشعر بأُنس وراحة وانشراح، عندما يمارس إسلامه ويعيش حقائق إيمانه.
وهذا ما وجدوه في الكهف. لقد عاشوا داخلَه مؤمنين، وتذوقوا فيه لذة العبادة، وأنس المناجاة، وحلاوة الإيمان، فشعروا بسَعته.
إنّ التي جعلت كهفهم واسعاً هانئاً ميسّراً للحياة، هي رحمة الله التي طلبوها، فاستجاب لهم، ونشرها عليهم (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) (الكهف/ 16).
لقد نشر عليهم ربهم من رحمته، فملأتْ عليهم كهفهَم، فعاشوا بها سعداء هانئين. وصدق الله القائل: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (فاطر/ 2).
ما أقسى الحياة بدون رحمة، وما أضيق الدنيا بدون رحمة. إنّ الرحمة الربانية الحانية ما نُشِرتْ على شيء إلا سهَّلتْه وهيأتْه وجعلته هانئاً صالحاً للحياة، وإنّ الرحمة الربانية الحانية، ما شملت مؤمناً إلا جعلتْه هانئاً سعيداً مسروراً، يعيش حياته بعزة وكرامة وسعادة وهناء.
الهامش:
[1]- ابن ماجة كتاب (36) الفتن. باب (23) الصبر على البلاء، حديث 4031.
[2]- رواه البخاري – تعليقاً – في كتاب (78) الأدب، باب (81) الانبساط إلى الناس، في ترجمة الباب.
المصدر: كتاب مع قصص السابقين في القرآن/ 2
ارسال التعليق