قبيلة عاد من القبائل العربية الذين بادوا وانقرضوا. من أجل ذلك كان الأساس الأوّل والأخير في معرفة أحوالهم هو القرآن، وهو الكتاب الوحيد الذي تعرض لأخبارهم دون سائر الكتب السماوية. لقد أرسل الله هوداً إلى عاد كما أرسل نوحاً إلى قومه في قصة سابقة في القرآن الكريم.
(قَالَ يَا قَوْمِ).. بهذا التودد، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم، لعلَّ ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول. فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغشّ قومه.
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (الأعراف/ 65)..
إنّها نفس الرسالة، ونفس الحوار، ونفس العاقبة.. إنّها السنة الماضية، والناموس الجاري، والقانون الواحد..
إنّ قوم عاد هؤلاء من ذراري نوح والذين نجوا معه في السفينة، وقيل: كان عددهم اثنا عشر.. وما من شك أنّ أبناء هؤلاء المؤمنين الناجين في السفينة كانوا على دين نوح (ع) وهو الإسلام – كانوا يعبدون الله وحده، ما لهم من إله غيره، وكانوا يعتقدون أنّه رب العالمين، فهكذا قال لهم نوح: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف/ 61)، فلمّا طال عليهم الأمد، وتفرقوا في الأرض، ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية، وقادهم من شهواتهم – وفي أولها شهوة الملك وشهوات المتاع – وفق الهوى لا وفق شريعة الله، عاد قوم هود يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (الأعراف/65).
القولة التي قالها نوح من قبله، والتي كذب بها قومه، فأصابهم ما أصابهم، واستخلف الله عاداً من بعدهم. وكانوا يسكنون بالأحقاف، وهي الكثبان المرتفعة على حدود اليمن ما بين اليمامة وحضرموت – وقد ساروا في الطريق الذي سار فيه من قبل قوم نوح، فلم يتذكروا ولم يتدبروا ما حلّ بمن ساروا في هذا الطريق، لذلك يضيف هود في خطابه لهم قوله: (أَفَلا تَتَّقُونَ) استنكاراً لقلة خوفهم من الله ومن ذلك المصير المرهوب.
ها هو ذا هو (ع) يدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده:
(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)..
القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة. ولعلّ أوّل خطوة في هذا الانحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حُملت في السفينة مع نوح! ثمّ تطور هذا التعظيم جيلاً بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة؛ ثمّ تتطور هذه الأشياء، فإذا هي معبودات، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدّعاة – في صورة من صور الجاهلية الكثيرة.
ذلك أنّ الانحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق. الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا لله وحده. الانحراف خطوة واحدة لابدّ أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله.
على أيّة حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول: (إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ) (هود/ 50)..
مفترون فيما تعبدونه من دون الله، وفيما تدعونه من شركاء لله.
- نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة.. دعوة توحيد العبادة والعبودية لله، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)..
ولقد أوضحنا "العبادة" لله وحده بأنّها "الدينونة الشاملة" لله وحده. في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة. ذلك إنّ هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي.. فإنّ "عَبَد" معناها: دان وخضع وذلل. وطريق معبد مذلل ممهد. وعبَّده جعله عبداً أي خاضعاً مذللاً.
ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أوّل مرّة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية. بل إنّه يوم خوطب به أول مرّة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنّما كان يفهم منه عندما يخاطب به أنّ المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله؛ وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره.
ولقد فسَّر رسول الله (ص) "العبادة" نصاً بأنّها هي "الاتِّباع" وليست هي الشعائر التعبدية. وهو يقول لعدي بن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً:
"بلى. إنّهم أحلُّوا لهم الحرام وحرَّموا عليهم الحلال. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم"..
وقد أطلقت لفظة "العبادة" على "الشعائر التعبدية" باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون.. صورة لا تستغرق مدلول "العبادة" بل إنّها تجيء بالتبعية لا بالأصالة! فلمّا بهت مدلول "الدين" ومدلول "العبادة" في نفوس الناس صاروا يفهمون أنّ عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلاً! وأنّه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح مسلماً.
وهذا وَهْمٌ باطل، وانحسار وانكماش، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ "العبادة" التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه – وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن. وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة؛ والذي نصَّ عليه رسول الله (ص) نصاً وهو يفسر قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة/ 31).
وليس بعد تفسير رسول الله (ص) لمصطلح من المصطلحات قول لقائل.
ونجد في قصة هود كما يعرضها القرآن لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه؛ وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها؛ وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). إنّه لم يكن يعني: يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله! كما يتصور الذين انحسر مدلول "العبادة" في مفهوماتهم، وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية! إنّما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها؛ ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها.
والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله.. فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده – أي الدينونة له وحده – إنّما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي: جحودهم بآيات ربهم، وعصيان رسله، واتباع أمر الجبارين من عبيده: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (هود/ 59). كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين..
لقد دعا هود قومه إلى السبيل الرشيد والفكر السليم في حجة واضحة تبدد ظلمات الشك والحيرة..
(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء/ 123-127).
فهي الكلمة الواحدة يقولها كل رسول: دعوة إلى تقوى الله وطاعة رسوله. وإعلان للزهد فيما لدى القوم من عرض الحياة، ويرجع عن قيم الأرض الزائلة، وتطلع إلى ما عند الله من أجر كريم.
ثمّ يزيد ما هو خاص بحال القوم وتصرفاتهم، فينكر عليهم الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة، والإعلان عن الثراء، والتكاثر والاستطالة في البناء؛ كما ينكر غرورهم بما يقدرون عليه من أمر هذه الدنيا، وما يسخرونه فيها من القوى، وغفلتهم عن تقوى الله ورقابته:
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (الشعراء/ 128-129).
والريع المرتفع من الأرض. والظاهر أنّهم كانوا يبنون فوق المرتفعات بنياناً يبدو للناظر من بعد كأنّه علامة. وأنّ القصد من ذلك كان هو التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة. ومن ثمّ سماه عبثاً. ولو كان لهداية المارة، ومعرفة الاتجاه ما قال لهم: (تعبثون).. فهو توجيه إلى أن ينفق الجهد، وتنفق البراعة، وينفق المال فيما هو ضروري ونافع، لا في الترف والزينة ومجرد أظهار البراعة والمهارة.
ويبدو كذلك من قوله: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (الشعراء/129)، أنّ عاداً كانت قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغاً يذكر؛ حتى لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور، وتشييد العلامات على المرتفعات؛ وحتى ليجول في خاطر القوم أنّ هذه المصانع وما ينشؤونه بوساطتها من البنيان كافية لحمايتهم من الموت، ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء. ويمضي هود في استنكار ما عليه قومه:
(وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء/ 130)..
فهم عتاة غلاظ، يتجبرون حين يبطشون؛ ولا يتحرجون من القسوة في البطش. شأن المتجبرين المعتزين بالقوة المادية التي يملكون.
وهنا يردهم إلى تقوى الله وطاعة رسوله، ليُنَهْنِه من هذه الغلظة الباطشة المتجبرة:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء/ 131).
ويذكر نعمة الله عليهم بما يستمتعون به ويتطاولون ويتجبرون. وكان الأجدر بهم أن يتذكروا فيشكروا، ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم، وأن يعاقبهم على ما أسرفوا في العبث والبطش والبطر الذميم!
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء/ 132-135).
وهكذا يذكرهم بالمنعم والنعمة على وجه الإجمال أوّلاً: (أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ). وهو حاضر بين أيديهم، يعلمونه ويعرفونه ويعيشون فيه، ثمّ يفضل بعض التفصيل: (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الشعراء/ 133-134)، وهي النغم المعهودة في ذلك العهد؛ وهي نعمة في كل عهد.. ثمّ يخوفهم عذاب يوم عظيم. في صورة الإشفاق عليهم من ذلك العذاب. فهو أخوهم، وهو واحد منهم، وهو حريص ألا يحل بهم عذاب ذلك اليوم الذي لا شك فيه.
أنذرهم – ما أنذر به كل رسول قومه –: (.. أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأحقاف/ 21)، وعبادة الله وحده عقيدة في الضمير ومنهج في الحياة؛ والمخالفة عنها تنتهي إلى العذاب العظيم في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما على السواء. والإشارة إلى اليوم (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).. تعني حين تطلق يوم القيامة وهو أشد وأعظم.
المصدر: كتاب قصص الرحمن في ظلال القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق