◄إنّ جميع الفلسفات: قدمها وحديثها، لا يُمكن فهمها، إلا بإرجاعها إلى نوع الثقافة التي كانت قد نشأت فيها، وكانت صدى لها.. وجميع الفلاسفة عندما قاموا بوضع فلسفاتهم، كانوا مُتجاوبين ولا شك مع العناصر الثقافية المختلفة لمجتمعاتهم، إذ أنّ التفكير الفلسفي، ليس ترفاً فكرياً، وليس كما يَدّعي بعض الفلاسفة: بأنّهُ: بحثاً عن الحقيقة المُطلقة، في معزل عن الثقافة التي يعيشون فيها، ولكنه دائماً وأبداً تعبير عن وجهة نظر فيلسوف أو أكثر، تجاه الأحداث الاجتماعية، والمؤسسات، والقيم، والنظم، التي تسود عصره، والتي تقوم عليها ثقافته، وسواء أكانت نتيجة هذا التفكير الفلسفي، دفاعاً عن الثقافة، أو هجوماً عليها، أو توفيقاً بين مصالح مُتعدّدة، فأنّه في النهاية، تعبير بشكل ما عمّا يسود هذه الثقافة، أو صدى لِما يعتمل فيها، من أنواع الصراعات المُختلفة.. وفي التحليل النهائي نجد: "أنّ كُل فلسفة من هذه الفلسفات، ليس سوى مجموعة من القيم والتحيّزات، تعكس موقف الفيلسوف الاجتماعي، من مُشكلات عصره الأساسية وتعبير عن برنامجه للعمل الاجتماعي، إزاء هذه المُشكلات، ولذلك يمكن القول: إنّ الفيلسوف، يعكس دائماً وابداً واقع عصره، وأنواع الصراعات القائمة فيه، وأطماع الناس، وأمالهم وآلامهم، حتى لو كان يُناقش مُشكلات تتعلق بالعلوم الطبيعية، أو يُناقش مشكلات عصر تاريخي آخر غير عصره، أو مُشكلة من المُشكلات الفلسفية الشكلية المألوفة، وهو بطبيعة الحال يعكس هذا كله من زاويته الخاصة، وبأسلوبه الخاص، في إطار المعارف العلمية والثقافية القائمة في مُجتمعه"[1].
ومن هنا كان لابُدّ لنا، لمعرفة فلسفة مُعيّنة أن نلجأ إلى التحليل الثقافي، الذي نشأت فيه هذه الفلسفة، وبذلك تعود الفلسفة مرّةً أخرى، إلى رحم الثقافة التي فيها نبتت، وفي أحضانها نشأت، وبذلك أيضاً تنفي الفكرة القائلة: بأنّ الفلسفة لابدّ وأن تعيش في برج عاجي، وأن تهرب من الواقع، وأن تبحث عن اللامحدود والمُطلق.
ومن هنا نرى: أن تعريف الفلسفة على أنّها (حُب الحكمة)، هو تعريف يأتيه الباطل من الكثير من جوانبه، ذلك لأنّ الفلسفة (أيّة فلسفة) لم تكن أبداً بعيدة عن التحيز، وإنما كانت تخدم وظيفة إجتماعية مُحدّدة مُعيّنة منذ البداية، ويتّضح لنا إرتباط الفلسفة بالثقافة، وتحيز الفيلسوف لوضع فلسفي مُعيَّن، يؤدي إلى القضاء على أنواع الصراعات المختلفة في المجتمع، ويؤدي كذلك إلى الأبقاء على وضع إجتماعي مُعيّن، يتّضح كل هذا، إذا مادرسنا علاقة الفلسفة بالطبيعة البشرية، فكل فلسفة إجتماعية، وكل فلسفة سياسية، تسود عصراً من العصور، ومجتمعاً من المجتمعات، تظهر لنا بعد الفحص الدقيق: أنّها تتضمن وجهة نظر خاصة ومعيَّنة عن الطبيعة البشرية، من حيث: نوع هذه الطبيعة البشرية، ومن حيث علاقتها بالطبيعة المادية كذلك، ومن عَجَبٍ: أن تجمع الفلسفة (أية فلسفة) آراءها عن العنصر السائد في الطبيعة البشرية، من مُلاحظات للنزعات التي تتجلّى في الحياة الجماعية المُعاصرة، ثم تضمّ هذه النزعات بعضها إلى بعض، وتجعل منها قوة سيكولوجية تُميّز بها الطبيعة البشرية، ثمَّ تُحاول بعد ذلك أن تُفسّر بها النزاعات السائدة في الحياة الجماعية المعاصرة.
وإنّ بالأمكان هنا: أنّ نُشير إلى "فلسفة إفلاطون"، التي توصل من الخلالها إلى أنّ النفس البشرية مُقسّمة إلى ثلاثة أقسام: تكون الشهوة في أسفلها، وإنّه توصّل إلى هذه الفلسفة، التي إستطاع أن يُعيّن بها مقومات الطبيعة البشرية، ويُحدّدها، فقد قال: "إنّ الطريقة المُثلى هي أن ننظر إلى صورة الطبيعة البشرية، وهي تتجلّى في خطوط عريضة، مُقرّرة في نظام طبقات المجتمع، قبل أن نحاول النظر إليها، ونتبيّن معالمها، في النسخة المُصغّرة الغامضة، أي الفرد، فعلى أساس النظام الاجتماعي المعهود له، وَجَدَ إفلاطون: أنّه لما كان في المجتمع طبقة عاملة تكدح في سبيل الحصول على الوسائل اللازمة لسد حاجاتها، وشهواتها، وطبقة من الجنود الوطنيين المُخلصين كل الأخلاص لقانون الدولة، وَلَو أدّى بها إخلاصها إلى الموت، وطبقة ثالثة من المُشرَعين الذين يضعون القوانين، فكذلك يجب أن تكون النفس البشرية، فهي مُقسّمة إلى ثلاثة أقسام: الشهوة، في أسفلها، (وأسفل هنا لها معناها المزدوج)، ودوافع كريمة حميمة، تتّجه إلى ما وراء الذات، والمِتّع الشخصية، على حين تكون الشهوة مسفولة بما يُشبعها ويرضيها، وأخيراً نجد العقل، أي نجد القوة التي تُشرّع للناس، وتضع لهم القوانين"[2].
ثمّ إنّ إفلاطون: ينتقل من فكرته هذ عن الطبيعة البشرية، إلى الناحية الأخلاقية فيؤكد: أنّ فضيلة العدل: هي أن تقوم كل طبقة في المجتمع: بما خُصّص لها من أعمال، وأن يُقدّم كل قسم في النفس البشرية: بما تَخصَّص فيه.. وعلى هذا كان مفهوم العدل في نظره: قاصراً مُبتَسراً، يؤدي إلى الابقاء على وضع إجتماعي مُعيّن، ولا يكون عدلاً بأي حال من الأحوال: أن تقوم طبقة من طبقات المجتمع، بغير ما خُصّص لها، ولا نظن أنّ مفهوم العدل في وقتنا هذا، يشبه هذا المفهوم، لا من بعيد ولا من قريب.
إنّ إفلاطون، وبعد قيامه بهذا البحث في المجتمع، وتوصله نتيجة لذلك إلى هذه الأمور الثلاثة، في الطبيعة البشرية، وبعد أن توصل كذلك إلى مفهومه عن العدل، في الفرد والمجتمع، فأنّه لم يُصادف أيّة مشقّة في الرجوع إلى النظام الاجتماعي ليُبرهن على صحة نظريته، وعلى أنّ هناك: طبقة يجب أن تُفرض عليها القوانين والقواعد من أعلى، حتى يستقرّ فيها النظام، وحتى تقوم بعملها على خير وجه، وبدن ذلك يكون هلاكها، إذ تصبح أعمالها دون ضابط يوجهها، ويُحدّد لها متى تقف، وبدون ذلك أيضاً، لا يوجد الانسجام، ويفقد النظام أهم عناصره، كل ذلك باسم الحرية، والعدل، ثمّ أنّ هناك طبقة أخرى تتجه ميولها نحو إطاعة القوانين، والاخلاص لها، كما تتّجه نحو الأخذ بالمُعتقدات الصحيحة، وإن كانت هي نفسها عاجزة عن أن تستكشف الغايات التي ترمي إليها هذه القوانين، ثمّ على رأس هاتين الطبقتين يقوم بالحكم في كل نظام اجتماعي مُنسَّق: طبقة تُمثّل أولئك الذين أهم صفاتهم ومواهبهم الطبيعية العقل، بعد أن تكون التربية قد صنعته وكوَّنته التكوين الصالح السليم.
وهذا يعني: أنّ كلّ حركة فلسفية، تهدف إلى إستكشاف الأسباب والمصادر السيلولوجية، للظواهر الاجتماعية هي في الواقع حركه عكسية، إذ ترى النزعات الاجتماعية، اللذائعة، قائمة في تركيب الطبيعة البشرية، ثُمّ تستخدم هذه النزعات لتفسير الأمور ذاتها التي منها تمّ استنباطها.
وعليه، فإن المثال الذي سبق ذكره عن فلسفة إفلاطون، كان في غاية الوضوح، في بيان شيئين مُهمّين فيما يتعلق بالفلسفة:
أوّلها: إنّ وجهات النظر الفلسفية المُختلفة، سواء أكانت تختص بناحية سيكولوجية: كموقومات الطبيعة البشرية، ونوعها، أو تختص بناحية أخلاقية: كمفهوم العدل والحرية، أو غيرهما، التي تسود عصراً معيّناً، ومجتمعاً مُعيّناً، تكون مُستمدّة عادة من الأوضاع الاجتماعية السائدة، ومن التيارات الاجتماعية المعاصرة، وهذه التيارات: إما أن تكون ظاهرة بارزة، وإما أن تكون حركات إجتماعية ليس لها ما للتيار من وضوح وتأثير.
وثانيهما: أنّ الإشارة إلى مقومات مُعيّنة لفلسفة مُعيّنة، ولمبادئ سيكولوجية بعينها، لا يُفسّر لنا أي حدث إجتماعي، ولا يُقدّم لنا نصيحة أو توجيه، وإنّما هو يُقرّر واقعاً يراه صاحبه.
لذا فأننا نرى: أنّ الفلسفة عند نشأتها كانت مُتَّصلة بالحياة الاجتماعية، وبالتيارات الثقافية، إتصالاً كبيراً، عَمَل الفلاسفة بعد ذلك على أن يفصلوا بينهما.. لذا فأن على الفلسفة أن تعود مرةً أخرى، لتتصل بالحياة، ولتُعالج المُشكلات الاجتماعية، ولتُساعد الأفراد والجماعات في هذا الخظم الواسع من الصراعات المُختلفة، إذا ما قُدّر لها أن تحضى بثقة الأفراد والجماعات، وأن تعرف مسؤولياتها، وترتقي إلى مستوى هذه المسؤوليات.
الهوامش:
[1] صادق سمعان، الفلسفة والتربية- محاولة لتحديد ميدان فلسفة التربية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1962، ص:49. وانظر د.محمد لبيب النجيحي، المصدر السابق، حاشية (1)، ص: 22.
[2] جون ديوي، الحرية والثقافة، ترجمة أمين مُرسي قنديل، مكتبة الأنجلو، القاهرة، 1955، ص: 153- 154. وانظر د. محمد لبيب النجيحي، حاشية (1) ص: 23.
المصدر: كتاب الفلسفة وفلسفة التربية
ارسال التعليق