إن ظاهرة النبوة في حياة البشرية لهي من أعظم الظواهر التي أثرت في الإنسانية، وربطت عالم الغيب بعالم الشهادة في سفارة مقدسة وشريعة متكاملة.
ولذلك فإن الاعتقاد بالنبوة العامة يرجع إلى الإيمان بلطف الله وحسن الظن به، والاعتقاد بالنبوة الخاصة لسيدنا محمد (ص) يعد من أصول الدين الذي يدخل حامله في زمرة المسلمين.
• هل يستغني الإنسان عن الأنبياء
إن الله تعالى قد أبدع وخلق العالم المادي كمقدمة لوجود الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات ومورد التكريم الإلهي. وخاصّةُ الإنسان التي يستطيع بفضلها أن ينال أرفع درجات المخلوقات هي الإختيار.. ولهذا كان مورداً للتكليف الإلهي. فإذا عمل حسب ما يمليه عليه ذلك التكليف فإنه سيظفر بأرفع الكمالات وسينال أكثر ألوان السعادة واللذة دواماً.. وذلك لأن الحياة الدنيا مقدمة للحياة الأبدية الأخروية: "الدنيا مزرعة الآخر".
لكي يستطيع الإنسان أن ينتخب الطريق الصحيح في الحياة فإنه يحتاج إلى القدرة على الإدارة وإتخاذ القرار وقد زوده الله بها، ويحتاج إلى الرغبات المختلفة وقد غُرست في فطرته، ويحتاج إلى وسائل القيام وقد وُفرت له، وبالإضافة إلى ذلك فهو محتاج إلى شرط مهم وأساسي وهو "معرفة الطريق".
الإنسان يستطيع أن يتمتع بمعارف مختلفة والشيء الذي يعمّ الناس جميعا هو المعرفة الحسية والمعرفة العقلية. فهل هما كافيتان لتضعا تحت الإنسان العلم الصحيح بالطريق.
ونقصد بالإدراك الحسي ما يحصل بواسطة الحواس الظاهرية ومن خلال الإرتباط بالعالم الخارجي المادي..
ونتيجة لكون الإدراك الحسي ذا بُعد محدود فإنه لا ينبغي أن يُتوقع منه تزويدنا بمعرفة "الطريق الصحيح" في الحياة بجميع أبعادها وبالتالي الوصول إلى "الهدف النهائي".
أما الإدراك العقلي فإن ما يدركه العقل بمفرده هو مجموعة من المفاهيم الكلية الخاصة أي "البديهيات الأولية" (المفاهيم البديهية التي لا تحتاج إلى استدلال مثل عدم جواز اجتماع النقيضين وأن لكل معلول علة وأن الكلّ أكبر من جزئه...)
فإن مثل هذه البديهيات الأولية للعقل لا تنفع بذاتها في معرفة الطريق الصحيح للحياة بكل أبعادها.
• ولدينا لون آخر من الإدراكات وهو الحاصل نتيجةً للتعاون بين الحس والعقل ونستطيع تسميتها بالإدراكات التجريبية..
والآن نتساءل: هل هذه الإدراكات الحاصلة عن طريق الحسّ وحده، أو عن طريق العقل وحده، أو نتيجة للتعاون بين الحس والعقل، كافية لمعرفة الطريق الصحيح للكمال في جميع أبعاده وشؤونه وفي جميع الأزمنة والأمكنة أم لا؟؟
لدينا طريقان نثبت بهما أن هذه الإدراكات غير كافية:
1. الطريق التجريبي: "استقراء التاريخ":
بالنظر إلى مسيرة الفكر الإنساني عبر تطوره وتقدمه في العلم والمعرفة، نجد أن الإنسان قد عجز عن حل المسائل المتعلقة بالأعمال والسلوك والقيم، وكل ما وضعه الإنسان من دساتير وقوانين فإنها ناقصة وغير وافية بمتطلبات الإنسان بجميع أبعاده.
وهذه علامة واضحة على قصور الحس والعقل عن إيجاد حلول لمثل هذه المواضيع..
2. الطريق الآخر هو أن نقوم بتقييم الحسّ والعقل وكيفية نشاطهما لنعرف هل يمكن أن نتوقع حل مسائل الحياة بمساعدتهما أم لا؟
كما إن الحس لا يستطيع أن يبيّن لنا إلا الظواهر الجزئية المحدودة بالظروف والمكانية الخاصّة.
وبناءً على هذا فإن الحس ليس قادراً بمفرده على حل وتبيين المسائل المصيرية ولا سيما علاقة سلوك الإنسان بنتائجه الأخروية..
العقل وحده عاجز أيضاً عن تحقيق هذا الأمر. فالبديهيات الأولية للعقل محدودة جداً. وكذا التعاون بين الحسّ (أَي التجربة). فنحن نسطيع أن نخضع الظواهر المادية للتجربة ونتعرّف على عللها المادية، وأما الأمور اللامادية فإن شباك التجربة الحسية لا تصطادها.
ثم كيفية ارتباط هذا العالم بالعالَم الأبدي، فليس لدينا أي سبيل لمعرفة ظواهر الآخرة، فلا حسّنا وحده، ولا عقلنا بمفرده، يستطيع أن يعرف الظواهر الأخروية ولا التعاون بين الحسّ والعقل قادر على توضيح حقائق ذلك العالَم.
وما دمنا غير عالمين بنوعية تأثير حياتنا في الحياة الآخرة، فإننا لا نسطيع أن نصوغ حياتنا في شكل صحيح، ولا نسطيع أن نضع لها منهجاً ومخططاً سليماً. إن الله تعالى _الذي خلق هذا الإنسان بهذه الإدراكات المحدودة وبهذة الخصائص التي ذكرناها، وقد خلقه من أجل أن ينال سعادته الأبدية عن طريق أعماله الإختيارية لو لم يزوّده بالمعارف اللازمة لذلك فإن فعله تعالى يصبح لغواً وعبثاً.
وللمثال: إذا دعا إنسان شخصاً إلى بيته وأصرّ عليه كثيراً، حتى انتهى به الأمر إلى تهديده بالعقوبة إن لم يأته، لكنه لم يدلّه على الطريق إلى البيت ولم يزوده بعنوانه: في أي مدينة يكون هذا البيت؟ لا يدري. بأي وسيلة لا بد من الذهاب إليه؟ ليس معيناً. من الذي نسأله في هذا المجال؟ لا أحد يعرف. ومع ذلك لا بد أن يزور بيته. إن هذا حقاً لتصرف سفيه!! فإذا كان الإنسان قد خُلق من أجل هدف قطعاً، ولا بد أن يصل إليه، ووصوله إليه يجب أن يكون عن معرفة، وأن يقطع هذا الطريق باختباره، فإنه يلزم تزويده بمعرفته.
فالحكمة الإلهية إذن تقتضي أن تُضع تحت تصرف الإنسان المعارف اللازمة لذلك. ولا بد أن يُعين له طريقاً يستطيع الإنسان من خلاله أن يتعرف على الهدف وعلى كيفية الوصول إليه، وليس هذا إلا طريق (الوحي والنبوة).
• ضرورة ارسال الأنبياء:
إذا كانت العبودية ضرورة، والخالق الإله هو المربي للإنسان، فإن طريق هذه التربية التي هي طريق كمال الإنسان أيضاً لا بد أن تحدد وترسم من قبل الإله.
وبما أن الإنسان موجود يفكر ويعمل، والفهم بدون العمل أو العمل بدون الفكر لا يحقق له كماله، فلا بد أن يكون الكمال الإنسان في ظل العلم الذي يهدي إلى العمل، والإنسان في هذا العلم وهذا العمل يحتاج إلى الهداية الإلهية، وهنا يقف العقل عاجزاً لوحده عن الهداية.
في هذا المجال يستدل القرآن بهذا النحو:
"رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" (النساء /165)
إذ لو كان العقل كافياً وهادياً لما قال تعالى أنه لو لم نرسل الرسل لما استدل الناس.
هناك من أنكر الرسالة مثل بعض علماء الهند القدماء حيث قالوا: إن كلام الأنبياء إما أن يوافق العقل أو يخالفه، فإذا خالفه فهو مردود، وإذا وافقه فلا يعود له ضرورة. وقد ردّ علماؤنا (كالعلاّمة الحلّي) عليهم في الكتب الكلامية بهذا الدليل: كثيرة هي الموارد التي تخرج من نطاق العقل. فكيف يمكن أن يقضي العقل بصحتها أو بخلافها؟ هنا يفهم أن رسالة الأنبياء ضرورة لحل هذه الموارد.
إذاً وكما ورد في الآية السابقة أنه لو لم يرسل الله الرسل لما اكتملت وتمت الحجة على الناس، ومن هنا يفهم القول: "إن العقل مصباح وليس طريقاً".
بالإضافة إلى ذلك نجد أن علوم البشر قد تبعث أحياناً على الغرور وإلى اتخاذ موقف مقابل الأنبياء، كما يقول القرآن الكريم.
"فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ" (غافر /83)
فهم يفرحون بما عندهم من العلم ظنّاً بأنه كاف لسعادة الناس، لكن القرآن الكريم يؤكد بأن علمهم حتى في المجالات الدنيوية ناقصّ:
" وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء /85)
فبدون الوحي هناك أمور كثيرة لن تعرفوها.
ولأنكم لستم مادة فقط، فإن علم الإنبياء يلازمكم إلى الأبدية، لكن العلم الذي هو عصارة فكر البشر لن يلازمكم دوماً.
العلوم الأبدية:
العلم الذي يأتي به الأنبياء (ع) أبدي ويبقى ملازماً للإنسان، لكن العلوم التي هي حاصل فكر البشر إلى زوال، وإذا اكتفى الإنسان بها فسوف تكون عاقبته بعد الموت لا يعلم شيئاً.
إن الإنسان يبقى ببقاء الروح، وهذه الروح تبقى بعد الموت، ولا بد أن يبقى الاحتياج إلى العلم الذي ينبغي أن يكون أبدياً وباقياً كالروح ومصوناً من الموت.
هذا العلم وهذه المعرفة هي التي تأتي عن طريق الوحي.
معرفة الله وصفاته وعدله، ومعرفة الوحي والرسالة والولاية والعصمة، ومعرفة القيامة والجزاء والثواب والميزان والجنة والنار و.. و.. هذه العلوم هي دائماً موجودة. علم أصول الدين هو العلم الذي يظهر أكثر بعد الموت، وعلمنا بالوحي والنبوّة والرسالة، ومعرفتنا بالروح وتجردها بعد الموت تتضح أكثر. هذه هي العلوم الأبدية والمؤمّنة لسعادة الإنسان، وهي في نفس الوقت تهيمن على بقية علوم الناس وتهديدها إلى الوجهة الصحيحة لكي لا تصبح سلاحاً فتّاكاً.
إن علوم الناس تفنى بعد الموت ولا يبقى لها دور في سعادة الإنسان، فلا الطبيب يبقى طبيباً، ولا المهندس يواجه بعد الموت ما ينبغي أن يخططه ويعده للبناء. لماذا؟ لأن موضوع هذه القضايا ينتفي في ذلك العالم.
وعلى هذا الأساس فإن العلوم التي تأتي عن طريق الوحي تبقى خالدة، وتزول العلوم التي كانت حصيلة الفكر البشري. كما يقول تعالى:
"مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ" (النحل/96)
وهكذا فالعلوم التي تنبع من الوحي الإلهي هي لإحياء الناس، والعلم الذي يحقق السعادة هو العلم الذي ينتهي إلى العمل،إذ أن العلم بحد ذاته ليس موجباً لكمال الإنسان وهذا ما يؤكده القرآن الكريم والروايات الإسلامية.
ففي الروايات التي وردت في باب العقل والجهل، جعل الجهل مقابل العقل وليس مقابل العلم، أي أن الإنسان سواء علم ولم يعمل أو لم يعلم فإنه في كلا الحالين يكون جاهلاً. وفي كتاب أصول الكافي ذُكر أولاً كتاب العقل والجهل ثم جاء بعده كتاب العلم. لماذا؟ لأن العقل أهم من العلم، والاعتماد ليس على العلم بل على التعقّل. يقول أمير المؤمنين (ع):
"ربّ عالِم قد قتله جهله".
المصدر: أشجار السعادة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق