◄ـ تُشبه البيئة الاجتماعية في مضمونها وتأثيراتها وإيحاءاتها، تأثير البيئة الطبيعية، فكما أنّ البيئة الطبيعية الملائمة لتربية الإنسان، من حيث ما يتنفسه أو ما ينظر إليه أو يسمعه أو يلمسه أو يشمه، تنفتح به على عالم من الفرح والطمأنينة والاسترخاء والجمال وما إلى ذلك، والبيئة غير الملائمة تثير في داخله الضيق والتشنج والحزن وما إلى ذلك. فإنّ تأثير البيئة الاجتماعية مشابه لذلك تماماً؛ ولكن على المستوى المعنوي لا المادّي، فالبيئة الاجتماعية التي تختزن الفرح والتسامح والمحبّة والقيم الروحية والأخلاقية والإيمان، تترك تأثيراً إيجابياً في شخصية الطفل والكبير أيضاً، بينما البيئة المشحونة بالعداوة والبغضاء والانحراف واللاإيمان والقسوة وما إلى ذلك، تؤثر سلباً في الطفل خصوصاً، باعتبار أنّ مثل هذه المعاني السلبية تقتحم عليه مشاعره وتحكم أفكاره وانطباعاته عن العالم.
لذلك، فإنّ تأثير البيئة هو تأثير حتمي في جانب السلب والإيجاب، لأنّ كيان الإنسان يتنفس أجواء البيئة الاجتماعية، كما يتنفس أجواء البيئة الطبيعية بشكل عفوي ولا شعوري، فهو لا يختار أفكار البيئة ولا هي تختاره، بل إنّ تأثيراتها تنفذ إلى مسام إحساسه وشعوره ومعقولاته بشكل غير مباشر. لذا، فإنّ تأثير البيئة يتعاظم في حالات الغفلة التي يعيشها كحالة استسلام لا شعوري للمحيط. وقد أكَّد الإسلام تأثير البيئة القوي في الحديث الشريف: "ما من مولود إلّا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
وفي هذا الحديث، تأكيد لدور الوالدين المباشر في التربية قبل أي مؤسسة أخرى. ولذا، نهى الإسلام عن الزواج من خضراء الدمن في الحديث الشهير: "إياكم وخضراء الدمن: قالوا: "وما خضراء الدمن، قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"، بلحاظ أنّ منبت السوء يترك تأثيره السلبي في داخل الحسناء، فيجعلها قبيحة الداخل في الوقت الذي تحمل مظهراً خارجياً جميلاً، ولذا، وعند حدوث أي مشكلة تربوية عند الطفل، على المربين أن ينفذوا إلى داخله، ليدرسوا مدى تأثير المفردات البيئية السلبية في شخصيته، تماماً كما يدرس الطبيب تأثير الجراثيم في وضع الإنسان الصحّي. وعليهم بعد ذلك معالجة المشكلة، إمّا بطريقة العزل عن البيئة، أو بإيجاد دفاعات داخلية تقتل تأثيرات البيئة السلبية من الداخل، عن طريق الجرعات التربوية الملائمة من الحنان والاحتضان والنصيحة وما إلى ذلك.
إنّنا نتصوّر أنّ للبيئة تأثيراً كبيراً في شخصية الإنسان الطفل والشاب والشيخ والمرأة؛ لكنّها مع ذلك، لا تغلق أمام الإنسان كلّ منافذ التنفس من الجوّ النظيف.
وعلى المربين الاستفادة من هذه الثغرة التي تتركها البيئة في الشخصية الإنسانية عادة، لينفذوا منها إلى تهيئة الوسائل العلاجية الملائمة لأي مشكلة يعيشها الإنسان، وهذا ما تؤكّده التجربة الإنسانية التي نجحت أحياناً كثيرة في تجاوز مؤثرات البيئة بطريقة أو بأُخرى. وممّا لا شك فيه، أنّ المسألة تحتاج إلى دقة وحكمة ووعي وذكاء في فهم طبيعة المؤثرات وطبيعة العلاجات.
ـ إنّ الراديو والتلفاز والصحيفة والمدرسة والكتاب، كل هذه الأدوات تمثّل مفردات بيئية يتأثر بها الإنسان عندما يتنفس مشاهدها وأفكارها وما إلى ذلك.
وفي هذا العصر الذي تحوَّل فيه العالم إلى قرية صغيرة، أصبح منع مشاهدة التلفاز، أو سماع الراديو، أو استعمال الإنترنت، من الأعمال الشاقة، كما أنّ منع الطفل من ذلك كلّه، يترك تأثيراً سلبياً في الطفل، فهو يشعره بالحصار الخانق، بحيث يفسد ما نريد أن نعلمه إياه من هذا الحصار جانباً آخر من شخصيته، لأنّنا نوحي إليه بالاضطهاد والقهر. هذا الواقع يستدعي أن نعطي الطفل بعض الحرّية، مع دراسة المؤثرات الخارجية، وتطويقها بطريقة أو بأُخرى.
ويفترض بنا أن نعيش في حالة طوارئ لجهة تجديد الأساليب التي نعتمدها في التربية، ذلك أنّ مشكلة المربين عندنا، سواء كانوا علماء دين أو أساتذة أو أهل، أنّهم ما زالوا يعتمدون الأساليب التقليدية، في وقت نجد أنّ الولد ينمو في أجواء مختلفة تماماً عمّا كانت عليه الأُمور في السابق.
من هنا، علينا أن نلاحق المتغيرات بكلّ ما تطرحه من إشكالات جديدة، ونضع العلاجات لذلك، تماماً كما يفعل الطبيب مع الجراثيم التي تتطوّر وتستوعب المضادات التي استعملت للقضاء عليها. إنّ علينا أن نلاحق ذلك، فإنّ تكرار استعمال مضاد حيوي في مكافحة أي جسم جرثومي، كما نعلم، يؤدِّي إلى تعايشه مع المضادات، بحيث يكف المضاد عن كونه مضاداً، وهنا، يكون من واجب الطبيب خلق مضادات حيوية جديدة.
وكذلك الأمر في القضايا التربوية والأخلاقية والروحية، فإنّ مشكلة كثير من الناس الذين يسقطون أمام الضغوط، أنّهم يستعملون في مواجهة المشاكل التي تصادفهم، الأسلوب الوحيد الذي توارثوه أو تعلموه من الغير، ولا يفكّرون في إنتاج حل جديد لمشاكلهم المستجدة. إنّنا عندما ندرس حركة الاكتشافات التي تلاحق المرض، نتعلّم أنّ مواجهة المشاكل تحتاج إلى تطوير في وسائل العلاج والمواجهة مع تطوّر المشاكل والأمراض.
لابدّ للأهل، إضافة إلى المؤسسات التي تتولى مهمة التربية، أن يعملوا على التشاور فيما بينهم، كي يتمكّنوا من السيطرة على المشاكل، سواء كانوا علماء دين، أو علماء نفس، أو علماء اجتماع وتربية وما إلى ذلك.
إنّ شعور الأهل والمربين بالإحباط ليس بالأمر المبرر، على الرغم من تعقد الحياة اليوم. ومشكلة الأهالي والمربين عموماً أنّهم لا يستنفدون جهدهم في المحاولة... ففي الإسلام، هناك مبدأ راسخ يدعونا إلى عدم اليأس من إمكانية الوصول، وهو أمر يمكن أن نستفيده من تجارب الأنبياء الذين يمثلون الرمز للإنسان الذي نبحث عنه، ويفترض أن نستمر في البحث عنه إلى أن نلتقي به، ولا نيأس مهما واجهنا من تجارب فاشلة.
وربما نستفيد هذا المعنى من تجربة النبيّ نوح (ع)، الذي عاش تسعمئة وخمسين سنة وهو يجرّب، حتى إذا استنفد كلّ المحاولات، دعا ربّه لأن يغير المجتمع. إنّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فلنجرب المرة الواحدة بعد الألف.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق