• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف تربي الأُمم الحية أخلاق أبنائها؟

كيف تربي الأُمم الحية أخلاق أبنائها؟

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون) (آل عمران/ 10).

تتعرض الأُمم في مسيرة حياتها إلى أخطار كبيرة، منها العارض الزائل، ومنها الملحُّ المدمِّر، وليس في العالم كلِّه أمة لم تتعرض لمثل هذه الأخطار. فإذا كان الخطر جسيماً لا قِبَلَ للأُمّة به، فإنها قد تلجأ إلى مَن حولها من الأُمم والأقوام التي تشاركها الحياة والمصير فتعقد معها محالفاتٍ لمواجهة الخطر المشترك الذي يتهدَّدُهم جميعاً، ولكنها ربما لا تجد من يَقْبَلُ بمساعدتها إلا بشروط ثقيلة لا قِبَلَ لها باحتمالها، فتجلو عن أرضها، وترتحل إلى مكان آخر يتوفر لها فيه الأمن، وقد تفضل البقاء والخضوع للغزاة إذا لم تجد بدّاً من ذلك.

وقد تفضل مواجهة المصير أيّة كانت عواقبه، لأنها تجد في الخضوع للطغاة بلاءً يفوق في قسوته الموت في سبيل الدفاع عن الشرف والعرض والمصير.

وسواء وجدت الأُمّة من يساعدها على مواجهة الصعاب التي تتعرض لها، أم لم تجد، فإنها لابدّ لها من الاعتماد على نفسها قبل كلّ شيء، وفرض التضحية على أبنائها، باستنهاض همم الرجال وإذكاء حماس الأبطال، واستثارة النخوة الكامنة في نفوس الأجيال، وإعداد الناس جسميّاً ونفسيّاً لتحمل أعباء الدفاع عنها، ليكونوا سيفها الذي تضرب به، وترسها الذي تتقي به الأذى، فيندفع الناس يملأ الحماس قلوبهم، ويضاعف الإيمان قوتهم، ويتسابق الأطبال ذوو النجدة والشهامة إلى ميدان المعركة ليذودوا عن حياض الوطن، ويردوا الأذى عن الأهل والعشيرة، غير عابئين بالأهوال والمخاطر.

وللأُمم طرائق شتّى وأساليب مختلفة في استنهاض همم الرجال، وحثّهم على الإقدام، تختلف باختلاف مستواها الحضاري، وباختلاف ثقافتها وعاداتها، وتماسكها الاجتماعي، وما تعتبره مقدماً في الحرمة والقدسية على غيره.

فقد كان العرب قبل الإسلام أكثر الناس اهتماماً بالحفاظ على العرض والحُرُم والسمعة، سمعة الشخص، وسمعة العشيرة، فكان من عاداتهم أن يصطحبوا النساء إلى ميادين القتال، اعتقاداً منهم أنّه لا شيء يمكن أن يثير نخوة المقاتلين، ويدفعهم إلى الثبات والتضحية، مثل وجود النساء والذرية وراء المقاتلين، ومن كان يفرُّ منهم مخلفاً حَرَمَه وأولاده لأعدائه، كان يبوء بسُبَّةِ الدهر، ولم يكن عربيٌّ ليرضى بذلك. وقد اصطحبت زعامات قريش نساءها يوم بدر، حينما التقوا بالمسلمين، وأنشدنهم شعراً حماسياً، ومنع وجودهنّ في ساحة المعركة خسران قريش في تلك المعركة من أن ينقلب إلى هزيمة شاملة.

وساقت هوازن الحُرُمَ والأبناء والأموال القتال الرسول في معركة حنين، وفي ظنها أنّ المقاتل من أبنائها لا يمكن أن يفر من المعركة مخلفاً أهله وحرمه وماله للمسلمين.

ومن الأُمم من كانت تصطحب معها إلى ميادين الحروب تماثيل آلهتها تبركاً بها، وإثارة لحماس المقاتلين، وحثّاً لهم على الثبات دفاعاً عن المقدسات لكيلا تقع في أيدي الأعداء.

وفي أوّل ظهور الإسلام جرت حرب بين الفرس والروم، فدفع ملك الروم هرقل بالصليب الأكبر أمام المقاتلين تبركاً به، وحثّاً لهم على الثبات.

إلى هذا الأمر أشار الرسول الكريم (ص) حينما قال: "ما ترك قومٌ الجهادَ إلا ذلُّوا". وعاد فكرر هذا المعنى بصيغة أخرى فقال: "ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارهم إلا ذلُّوا". فالشعوب التي ألِفَت الجهاد، وخوضَ الشدائد، وشنَّ الحروب على الأعداء، هي الشعوب التي يكون الروح الحربي فيها قد تأصَّل، واعتاد الناس فيها استعمالَ السلاح، ومعاناةَ الشدائد، وأعدوا للحروب عدتَها على ضوء تجاربهم وخبرتهم العملية، فأصبحت الشجاعة متأصلةً فيهم يفاخرون بها، ويتسابقون إلى الموت بدافعها.

لو كان في الألف منا واحدٌ ودعوا *** مَنْ فارِسٌ خالهم إياه يعنونا

على أنّ النفوس تَضِنُّ بالتضحية إذا لم يكن لها قضية تدافع عنها وتشعر في الدفاع عنها بالرضا، وإذا لم تؤمن بأنها إنما تدافع وتضحي في سبيل شيء خاص بها، مقدس لديها. فالعبد لا يبذل الجهد في الدفاع عن سادته، إذا كان يستشعر منهم الظلم والطغيان عليه، وهو لا يخلص في بذل نفسه ولا يضحي بها ولا يعرضها إلى المخاطر الجسيمة من أجلهم حينما تكون نفسه تشتعل بنار الحقد عليهم، وقلبه يقطر دماً من سوء معاملتهم.

وقد ذكرت كتب الأدب قصة عنترة يوم كان عبداً يرعى لأبيه الإبل، وأبوه يأبى تحريره من نير العبودية والاعتراف بنسبه، فقد وقف موقف المتفرج من حرب شنها أعداء بني عبس على مضاربهم، في غيبة من فرسانهم ورجالهم، ولم يتحرك حينما حثه أبوه على الدفاع عن الأهل والحرم، وقال لأبيه: العبد لا يحسن الكرَّ، وإنما يحسن الحلابة والصرَّ. فأدرك أبوه صدق هذا القول، لذلك حرره وألحقه بنسبه، ثمّ طلب منه أن يكر، ففعل الأعاجيب بالأعداء.

وسَخِرَ فارسٌ عربيٌّ من قومه وعشيرته التي لا تذكره إلا عند الشدائد وخوض الحروب، وتعريض النفس للمخاطر، بينما يتصدر غريمه "جندب" المجلس، ويترأس الولائم، ويستقبل الضيوف، ولا يتحمل شيئاً من الغُرْمِ والمخاطر، فقال ساخراً من عشيرته:

وإذا تكون كريهةٌ أُدْعَى لها *** وإذا يحاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُندبُ

وأبلى عمرو بن معدي كرب الزبيدي بلاء حسناً في معركة القادسية، وأسهم إسهاماً كبيراً في تحقيق النصر، ولما جاء وقت اقتسام المغانم بين المقاتلين – ولم يكن إذ ذاك قد استقرت الطريقة التي تقسم بها المغانم – اقترح بعض القادة أنّ تقسم المغانم وفقاً لما يحفظه كلُّ واحد من المقاتلين من القرآن الكريم، وكان عمرو بن معدي كرب حديثَ عهدٍ بالإسلام، ولم يكن يحفظ من القرآن إلا عدداً من قصار السور التي تجوز بها الصلاة، فاحتج على ذلك وقال:

إذا قتلنا وما يبكي لنا أحد *** قالت قريش ألا تلك المقاديرُ

نُعْطَى السويةَ من طعن له نَفَذٌ *** ولا سويةً إذ تُعطَى الدنانيرُ

ومن أقصى الأشياء على نفس الإنسان عامة، ونفس العربي خاصة، شعوره بالغبن والظلم من الناس عامة، ومن أهله وعشيرته بصورة خاصة، فظلم الأباعد يستطيع الإنسان أن يتصدَّى له بالثأر والثورة وبالقتال وبالاستعداء، إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، أو بالهجرة والنزوح عن الأرض إذا لم يستطع دفع الحيف عنه. أما الأهل فهم الموئل وهم السند فإذا جاء الضيم والشر منهم فبمن يستعين الإنسان عليهم؟ ولذلك قال طرفة:

وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مَضاضَةً *** على النفس من وقعِ الحسامِ المهنَّدِ

 

المصدر: مجلة رسالة الجهاد/ العدد 58 لسنة 1987م

ارسال التعليق

Top