• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإنسان بين التوكل والمسؤولية/ ج1

الإنسان بين التوكل والمسؤولية/ ج1

المقدمة:

الحمد لله كما يحبّ أن يُحمد، والصلاة والسلام على خيرته من خلقه محمّد، وعلى أهل بيته الطاهرين، وأصحابه الميامين. تقوم عقيدة الإنسان المسلم على أنّ الله تعالى لا يعجزه شيء، فبيده كلّ الأسباب والعلل. وأنّه تعالى لا يخفى عليه شيء، فقد أحاط علمه بكلّ شيء. ولهذا فإنّ التوكل على الله تعالى، يصبح أمراً اعتقادياً وطبيعياً بالنسبة لكلّ مسلم، بأن يستمد منه تعالى اللطف والرحمة في إيجاد العلل والأسباب، بما لديه عزّ وجلّ من قدرة مطلقة، وأن يختار له الصلاح، بما لديه سبحانه من علم واقعي بحقيقة الاُمور. فليس من الإسلام في شيء أن ينيط الإنسان نتائج اُموره بما لديه من قدرات وإمكانات ويقطع صلته بالقادر العالم المحيط المدّبر العليّ القدير.. وكذلك، ليس من الإسلام في شيء أن يترك الإنسان السعي والكدح والعمل، ويشلّ طاقاته التي أودعها الله تعالى في جسمه، ويعطّل إمكاناته التي وهبه إيّاها الخالق البارئ المصوّر سبحانه، معتمداً في ذلك على الخوارق أو الصدف والمناسبات. بل، إنّ المنهج الإسلامي الصحيح يقوم على ممارسة جميع ألوان السعي والجد والعمل، والمثابرة على التحصيل والانتاج والإعمار، في ظل عقيدة موصولة بالله تعالى، وإيمان يقيني يقوم على أن: "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن". وقد توهّم بعض الجّهال فزيفوا معنى "التوكل" واتهموا هذه العقيدة العلمية الصادقة، بأنّها ضرب من الكسل والخمول والتنصل من تحمل المسؤولية، ولم يقفوا على أسرار عقيدة التوكل وأنها مثار الانطلاق الجاد نحو العمل المثمر، والاجتهاد البنّاء، والسعي الحثيث، في ظل طمأنينة النفس، وثبات العزيمة، وإشراقة الطموح غير المحدود، والشعور بالمسؤولية الملتزمة. وأسرة البلاغ إذ تهدي لقُرّائها الأوفياء بحث "الإنسان بين التوكل والمسؤولية" لتبتهل إلى الله تعالى أن يردّ كيد أعداء الإسلام إلى نحورهم، وأن يبدّد شملهم، ويشتت جمعهم، وأن يسدّد خطانا جميعاً لبيان حقائق الإسلام العظيمة المغمورة، ليقف الجيل المعاصر على عظمة الشريعة الغرّاء، ويدرك أنّ الإسلام هو المنهج الإلهي الخالد، الذي حمل مشعل هدايته محمّد (ص) وأهل بيته الطاهرون (ع)، فانقذوا الناس من الجهالة وحيرة الضلالة، وجعلوا منهم خير اُمّة اُخرجت للناس.. "ربّنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير".   - التوكُّل: التوكل: هو الإعتماد على الله، وإحالة الأمر إليه، والثقة به، وعدم الإيمان بأي مؤثر حقيقي في الوجود غيره. (.. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ...) (هود/ 123). التوكل واليقين: لا شكّ في أنّ التوكل نتيجة اعتقادية سامية تنتجها مسلّمات الإيمان اليقيني الراسخة في النفس. لأنّ التوكل يعبّر في لغة الإيمان والمعتقد عن فهم الإنسان لعقيدة التوحيد وعلاقته بالله سبحانه. ولا يكون التوكل عقيدة ويقيناً يحتلّ موقعه في نفس الإنسان ووعيه إلاّ إذا أصبح ذا تأثير فاعل في سلوك الإنسان وتفكيره، وفي فهمه للكون والوجود وما يجري فيه. ولا يأتي التوكل بمعناه الحقيقي هذا إلاّ إذا قام على أساس فهم واع وعميق لمعنى التوحيد، وإلاّ إذا انطلق من إيمان راسخ بالله سبحانه. فالعلاقة وثيقة بين عقيدة التوحيد وبين التوكل على الله سبحانه، لذلك ورد في الحديث الشريف: "الإيمان على أربعة أركان: التوكل على الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، والرضى بقضاء الله. وأركان الكفر أربعة: الرغبة، والرهبة، والغضب، والشهوة"[1]. فالتوكل إذا نظرنا إليه من الجانب الإلهي رأيناه يقوم على أساس إيمان الإنسان بأن: الله هو وحده الخالق والمؤثر في تسيير الحوادث، وتدبير الوجود وتنظيم الكون، وأنّ كلّ ما في الوجود مسخّر لإرادته، ومسيّر بقدرته، وأنّ وعاء الوجود الطبيعي والاجتماعي الممتلئ بالأسباب والحوادث، لا يستقل بوجوده عن الله سبحانه، وليس لسبب، ولا لحادث أن يكون، أو يعطي نتيجة في الوجود إلاّ بتقدير من الله سبحانه، وأنّ كلّ شيء في الوجود قائم بأمره، ومرتبط بحكمته وإرادته. قال تعالى: (.. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ...) (هود/ 123). لذا فإنّ الإنسان المؤمن الذي تكشّفت له هذه الحقيقة عن وعي ومعرفة يستطيع أن يتجاوز بهذا الوعي اُطر العالم وقوانينه، وأسبابه ونتائجه وحوادثه إلى السبب الأعمق، والعلّة الاُولى (الله سبحانه) الموجد لهذا العالم، والمقرر لكلّ ما في الوجود من أسباب، وحوادث، ونتائج.. حقائقها، ووجودها، ومكانها في سلسلة الأحداث، وزمنها في ترتيب الحوادث. إنّ المؤمن بالله يدرك أن ليس للإنسان إلاّ إجراء الأسباب والدخول في سلسلة الحوادث كحقيقة مؤثرة بفعل القانون الكوني العالم الذي اُودع في هذا العالم، وليس هو قوّة مستقلّة بذاتها، أو مؤثرة بقطع النظر عن التقدير الإلهي المسبق للحوادث والأسباب. وهذا الإيمان هو الذي دعا الإنسان المسلم إلى أن يثق بالله وحده، ويتوكّل عليه، ويعتمد على قدرته مشيئته، ويحس بانتصار الإرادة الإنسانية والقوة الذاتية على كلّ العقبات والصعوبات في كلّ موقف يقرّره أو فعل يمارسه في الحياة. فهو بهذا الإيمان يشعر أنّه الأقوى في عملية التعامل والصراع مع الأسباب والقوانين الطبيعية والاجتماعية التي يتعامل معها.. لأنّ هذه القوانين ليست هي سيّدة المواقف النهائية، وليست هي القوة القاهرة في هذا الوجود، بل فوقها من يدبرها، ووراءها من يسيرها، وهو الله سبحانه. لذلك فالإنسان المسلم يحتفظ بإرادته، وبقوّة عزيمته النفسيّة دون أن يشعر بالتردّد، أو يخشى الفشل وهو يدخل ميدان العمل، ويجرّب ساحة الكفاح. ومن وضوح هذه الحقيقة نستنتج أنّ التوكل لا يقود إلى نتيجة استسلامية، ولا يجعل من الإنسان كائناً فاقد المسؤولية والتأثير، بل يقرّر بكل تأكيد دور الإنسان ويعترف له بالإرادة والتأثير، ولكن لا بمعنى الاستقلال والمقابلة لإرادة الله، بل بمعنى انطواء حركة الإرادة الإنسانية تحت الإرادة الإلهية، واحتلال هذه الإرادة البشرية لموقع الشرط والسبب المؤثر في إجراء الحوادث والنتائج. فالأسباب، والعلل، والقوانين الكونيّة على الرغم من وجودها، وتحقق فاعليتها في مجال تأثيرها، فإنّها لا تملك التصرّف التلقائي في الوجود، بل هي مسخّرة وخاضعة لسلطان الحكمة والمشيئة الإلهية: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ...) (الأعراف/ 194). (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ...) (يونس/ 3). (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال/ 17). (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ...) (التوبة/ 14). (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المجادلة/ 10). فتلك الآيات مجتمعة وأمثالها كثير تشير إلى أنّ الله سبحانه هو الفاعل الحقيقي في هذا الوجود، وأن لا شيء يقع إلاّ من بعد إذنه، وإن بدا لنا أنّ الإنسان هو الممارس، وهو السبب الأوحد في إعطاء النتيجة، إلاّ أنّ هذه الممارسة لا تعدو كونها أحد الأسباب الطبيعية والإرادة الظاهرة، وليست القوة المتصرّفة في الوجود دونما معارض أو مدبّر. وبذا يكون دخول الإنسان إلى سلسلة الأحداث والالتحام معها واحتلال موقع الفاعلية والتأثير فيها يحتاج إلى اكتشاف السبب وتقدير النتيجة. وهذا الاكتشاف يحتاج إلى العلم والإرادة والقدرة، وليس العلم والقدرة الإنسانية دائماً محيطان بالأشياء ومقدران لنتائجها تقديراً مضمون النتيجة والنجاح، كما أنّهما ليسا بقادرين على اكتشاف كلّ سبب وشرط يحتاجه الفعل والحدث الإنساني: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ...) (الأعراف/ 188). بل يبقى أمر اكتشاف القانون السببي وترتيب الأحداث والأفعال والمواقف يحتاج إلى توفيق إلهي: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود/ 88). (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (الكهف/ 24). (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى/ 3). ذلك لأنّ أيّ حدث في الوجود لا يمكن أن يكون إلاّ بمشيئة الله، وإلاّ بتطابق هذا الحدث مع الحكمة والمشيئة لوجود تخطيط إلهي مسبق وتقدير شامل متقدّم في هذا الوجود، هدفه حفظ النظام والموازنة، وتحقيق الحكمة الإلهيّة البالغة، ولو لا ذلك الضبط والتخطيط والتقدير المتقن لتعرض الوجود – الطبيعي منه الاجتماعي – إلى حالة من الارتباك والفوضى والانهيار. لذلك فإننا نشاهد أثر هذا التقدير والتنظيم الكليّ للوجود من خلال الصيغة العقلية المتقنة للعالم، والتدبير المحكم في تتابع الأحداث وميلادها الزمني والذاتي والمكاني، ونشاهد الضبط في مقدارها، وأثرها، ومردودها في الطبيعة والمجتمع بشكل يبعث على الدهشة والإعجاب، ويدعو إلى التسليم والإيمان بتدبير خفي، وتوجيه شامل يخضع لضبط حسابي وغائي متقن. قال تعالى: (.. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرّعد/ 8). (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (الكهف/ 23-24). (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الإنسان/ 30). وقد جاء الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنواراً كاشفة، وأداة فكرية معبّرة عن تفسير الإسلام للعلاقة بين الحوادث وبين الله سبحانه. فقد ورد في هذا الحديث: "لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع: بمشيئة، وإرادة، وقدر، وقضاء، وإذن، وكتاب، وأجل"[2]. وبذا كشف الحديث عن أنّ المشيئة الإنسانية ليست إلاّ تقديراً فكرياً للأشياء، ورغبة داخلية في تحصيل الأحداث، والنتائج التي يتصوّرها الإنسان ويظن أنّها تحقق خيره، وتنسجم مع مسيرة الوجود، ووحدة نظامه وهدفه. ولذا فإنّ هذا التصوّر ليس ضرورياً أن يتطابق مع ما يجب أن يكون ويحدث في الوجود، لذلك نهى القرآن الكريم النبي العظيم عن الجزم بحدوث شيء وحصوله اعتماداً على تقديره الإنساني الخاص ما زال هذا الشيء مطوياً في ضمير الوجود وغيباً لم يتحقق بعد، ووجّه نظره إلى أنّ المشيئة الإلهيّة التي سبقت مشيئة الإنسان هي القوة الماضية في التقدير والإيجاد: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (الكهف/ 23-24). (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير/ 29). فليس للإنسان مشيئة تستطيع الشذوذ أو الاستقلال عن مشيئة الله إلاّ بعد أن يأذن الله بذلك. وقد جاء هذا المعنى واضحاً بقوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة/ 102). فكلّ شيء منطو تحت مشيئته، ومتوقف على إذنه، ولولا تلك الإحاطة والهيمنة لتعرض الكون والحياة إلى العبث والفوضى بعد فقد التقدير المتقن، والحساب الموزون: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر/ 21). (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/ 49). فلو كانت الإرادة الإنسانية تتصرّف بلا حدود، والأسباب الطبيعية تنتج وتولد بلا تخطيط وتدبير وتقدير مسبق، لما أمكن ضبط الوجود، ولما كان هناك نظام في الطبيعة ولا في المجتمع. ونحن نشاهد في الحياة اليومية الاعتيادية أمثلة كثيرة تؤيد عدم قدرة الأسباب الطبيعية على الاستقلالية والتحكم الذاتي في الوجود. ومثال ذلك أنّ الأسباب المنتجة للمطر قائمة ومتوفرة في الوجود، وفي الطبيعة بمختلف العصور والأزمان، وإمكان توالد بعضها من بعض حسب منطق القانون الطبيعي أمر ممكن، ومع هذا فإنّّ هذه الإمكانية السببية لا تستطيع أن تؤدي دورها دائماً، ولا أن تعطي نتائجها بطريقة ميكانيكية محضة، لذا نشاهد الجفاف واحتباس المطر محنة يعاني منها الإنسان. فنشاهد اختلاف مقاديره من عام إلى عام، ومن فترة إلى فترة، ولو كان الأمر طبيعياً صرفاً لكان إنتاجه واحداً، ومقداره ثابتاً في أمكنة وأزمنة محدّدة: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ...) (المؤمنون/ 18). وفي الحياة الإنسانية نشاهد أنّ نسبة الذكور إلى الاُناث ثابتة تقريباً، وهي زيادة عدد الاُناث على عدد الذكور في المجموعة البشرية، وإنّ هذه العلاقة لا تتغيّر على الرغم من أنّ الأسباب الطبيعية للإيجاد الذكري والاُنوثي متوفرة بدرجة واحدة، ولكن ميلان معادلة الإيجاد إلى جانب عدد الاُناث هو الساري في الوجود، ممّا يعبِّر عن حكمة وتخطيط إلهي مسبق. وسبحان الله القائل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى/ 49-50). ولو قدّر للإنسان أن يغيّر في نوعية المواليد عن طريق التأثير على الحيامن أو البويضات، فإنّه سيعرض وجوده الإنساني إلى كارثة فادحة تؤدي إلى اختلال النظام العددي والاجتماعي في تركيب الحياة. ويجب أن نلتفت إلى أنّ هذا الذي سيحدثه الإنسان – لو قدّر له الحدوث – ليس بغالب لمشيئة الله وتقديره، فالعملية بكامل وجوها لم تخرج على قوانين الطبيعة والتكوين التي قدّر الله سبحانه لها النتائج المتباينة في الظروف المتباينة. وإنّما يحدث من محاولات لتغيير النوع، وحرف لنظام الطبيعة، إنّما يعبّر عن النتيجة التي ينتهي إليها تفكير الإنسان الذي لا يؤمن بعدل الله وحكمته: (.. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام/ 137). وفي الحديث الشريف القدسي المروي عن الإمام الصادق (ع) نقرأ: "يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي. جعلتك سميعاً بصيراً، قويّاً، ما أصابك من قوّة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أنّي أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منّي، وذاك إنّني لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون"[3]. وهكذا يشهد كلّ شيء في الوجود على أنّ الله سبحانه بحكمته ومشيئته جعل الأسباب والعلل قادرة على التأثير والإيجاد، وهو الذي مكّن الإنسان من إيقاع كلّ أفعاله ومقرراته وفق قانون السببية، لذا كان هو المسؤول عنها والمحاسب عليها، ولذا كان التوكّل لا يتعارض مع دور السبب المؤثر في الوجود. فالدواء سبب للشفاء. وطلب العلم سبب للمعرفة. والقوّة سبب للنصر في القتال. والعمل سبب لتحصيل المعاش. والجاذبية سبب لتنظيم العلاقة بين الكواكب. والحركة سبب للتغيّر. والظلم سبب لشقاء الإنسان واختلال نظام المجتمع.. إلخ. وعند تحليل دراستنا التي عرضناها آنفاً وتركيز الأفكار الرئيسة فيها، نصل إلى نتيجة نهائية في مفهوم التوكل وهي: أنّ التوكل هو الاعتماد المطلق على الله سبحانه، وتفويض الأمر إليه، والاعتقاد بأنّه هو المؤثر، والفاعل، والمقدّر للاُمور، وأنّ الأسباب التي نشاهدها في الحياة، ما هي إلاّ شروطاً جعلها الله سبحانه لتنفيذ إرادته ومشيئته، وما هي إلاّ أسباباً جعلها الله بحكمته أساساً لتسيير الوجود – حسب طبيعته وتكوينه – ولا يمكن للإنسان أن يهتدي إليها، أو تأخذ تلك الأسباب دورها الطبيعي في سلسلة الأحداث إلاّ بإرادة وعلم من الله سبحانه: (.. وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا...) (الأعراف/ 89). لذا فإنّ الإستغناء عن الله، والاعتماد على الأسباب أمر غير ممكن في عالم الوجود، وإن بدا لذوي الفهم السطحي والسذّج من الناس أنّ الأسباب الطبيعية هي القوة المؤثرة في الكون والحياة الإنسانية، وهي المولّدة للنتائج والأحداث المشاهدة على صفحة الوجود: (.. وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران/ 160). وسبب هذا التوهّم هو خفاء المشيئة والإرادة الإلهيّة التي قدرت، وضبطت كلّ شيء، وساقت الأسباب، والشروط الطبيعية لإيجاد المقدّر، وتحقيقه وفق حكمة وتقدير متقن ومصان من العبث والفوضى والاضطراب: (.. يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ...) (يونس/ 3). وبذا يأتي التوكّل كنتيجة للإيمان اليقيني في نفس المؤمن، فيفوض أمره إلى الله، ويسلم بأن الله هو المدبّر، وهو المسيّر، وهو الموفق للإنسان في أفعاله لإصابة الأسباب، وإيجاد شروط تكوين الأفعال والأحداث، لتحقيق النتائج التي سبق علم الله إليها، وجرى قضاؤه بتكوينها، فتكون إرادة الإنسان أحد الأسباب والشروط الطبيعية لإيجاد الأفعال، وتقرير الحوادث، لأنّ الوجود بأسره يسير نحو تحقيق النتائج التي انطوى عليها وجوده – بما فيها أسباب التحقق والإيجاد – فهو يسير نحو غاية مرسومة، ووفق شروط وأسباب تترتب زمنياً وذاتياً حسب ما تقتضيه النتائج. فالنتائج والأحداث هي المقررة سلفاً بسابق علم ومشيئة وتقدير من الله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية/ 23). والأسباب – بما فيها إرادة الإنسان واختياره – تترتب ذاتياً وزمنياً لإعطاء نتائجها، لذا كانت الإرادة تحتل موقع السبب والشروط في إيجاد الحوادث والأفعال الإنسانية المرتبطة بها، لذا كان الإنسان مسؤولاً عنها ومحاسباً عليها، لأنّه يملك سبب إجرائها وإيقاعها وبذا يكون الإنسان مريداً ومختاراً، لأنّه اُعطي القدرة على الدخول في دائرة الأحداث أو الانسجاب منها كسبب مؤثر ومنتج في هذا الوجود. وعلى أساس هذا المفهوم الإيماني جاء الدعاء المأثور: "اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً". لأنّ المؤمن لا ينظر إلى شيء في الوجود ذا قيمة وقدرة تستطيع الاستقلال عن الله، لذا فهو لا يثق بشيء، ولا يعتمد على شيء غير الله منطلقاً من إيمانه بأنّ الله عالم، قادر، حكيم، عادل، رحيم، لطيف بالعباد.. إلخ. فهو لا يجهل شيئاً، ولا يعجز عن شيء فيه خير الإنسان، وهو لا يعبث ولا يظلم، ولا يقسو على أحد من خلقه، لأنّه رحيم بالإنسان عطوف عليه، يريد هدايته وخيره وتسديده. لذا فإنّ الإنسان يطمئن كلّ الطمأنينة بالتوكل على الله، وتفويض الاُمور إليه والثقة به، لأنّه يعتقد أنّ الله الذي يتولّى أمره سيكفيه ويغنيه عن غيره: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق/ 3). فيتصرّف ويعمل، وهو يرجو تحقيق خيره من الله موقناً أن كل ما يملك الإنسان من قوة ووسائل وإمكانات لا يمكن الاعتماد عليها أو الاطمئنان إليها. فلم يعد يعتمد على ماله، ولا على قوّته وسلطته، أو مركزه الاجتماعي، أو علمه، أو أيّ من وسائله، لأنّه يعلم أنّها لا تكفيه حق الكفاية، ولا تغنيه عن الله سبحانه، ولا يمكنه أن يستفيد منها إلاّ بعد إذن الله ومشيئته. لذا فإنّ المتوكّل يعيش مستقر النفس، هادئ البال، مطمئناً إلى أن كل ما يقع عليه، ويحصل له هو خير له، لأنّه معتمد على الله في كلّ اُموره موقناً أنّ الله لا يفعل إلاّ الصالح بعباده، بعكس من لا إيمان له، ولا اعتماد على الله في نفسه، فإنّه يعيش مرتبطاً بما حوله من أسباب وظروف وحسابات بشرية، فهو أبداً هلع النفس قلقاً غير مطمئن، ولا واثق من نتيجة، فهو يخشى على ما في يده من الضياع، ويخاف عمّا يرغب بإيجاده من عدم التحقق، ويعاني مرارة الحزن ممّا قد فاته، فهو يرسم في تحرّكه النفسي وعلاقته بالأشياء خطاً متكسّر الأبعاد غير متوازن الحركة. فالماضي والحاضر والمستقبل يشكّلان قلقاً له ومخاوف تنغص عليه عيشه وسعادته. وقد جاءت الأحاديث والروايات مصرحة بأهمية التوكل وبأثره في نفس المتوكل على الله سبحانه. فقد جاء عن الرّسول (ص): "مَن سرّه أن يكون أغنى الناس، فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يده". والغنى الوارد في الحديث هنا ليس المقصود به غنى المال والثروة وحدهما، بل الغنى والكفاية في كلّ شيء. وجاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "أوحى الله إلى داود (ع): ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفتُ ذلك من نيته، ثمّ السماوات والأرض، ومن فيهنّ إلا جعلتُ له المخرج من بينهنّ". ويتطابق هذا الحديث تطابقاً تاماً من قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (الزمر/ 36). وهكذا يكون التوكل حصيلة لليقين؛ ودرجة عليا من درجات العبادة، وحسن العلاقة بالله سبحانه، وله آثار ومردودات نفسية كثيرة، منها الثقة بالنفس، بعد حصول الثقة بالله، والتخلّص من الحيرة والتردّد والنكوص والسلبية، وتحول السلوك الإنساني إلى سلوك مقدام واثق لسلامة النتائج التي سيصل إليها، لأنّه يثق بربّه الذي يتوكّل عليه، فيعيش حالة من الاستقرار، والرضى بكلّ ما يمكن أن يحدث بالنسبة إليه، فيتمتع بشعور نفسي دائم بالطمأنينة والسعادة، لأنّه بعيد عن الخوف والقلق والحيرة والتشاؤم، لإيمانه بأنّ الله يكفيه ويساعده ويسدّده في الحياة. وهذه الحالة الفكرية والنفسية التي يعيشها الإنسان المؤمن هي التي توصله إلى التعبير عن علاقته بالله سبحانه وثقته به، فيقول صادقاً: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر/ 44).  

يتبع...

الهوامش:


[1]- الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص160، عن الإمام عليّ (ع). [2]- الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق، أصول الكافي، ج1، ص149. [3]- الكليني، المصدر السابق، ج1، ص152.

ارسال التعليق

Top