تغطِّي الصحراء معظم بقاع الدنيا وتشكِّل حلقة تحيط بالعالم من شرقه إلى غربه، وتكثر الأراضي القاحلة عادة على امتداد مدار السرطان Tropic of Cancer في نصف الكرة الشمالي ومدار الجدي Tropic of Capricorn في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. فعلى امتداد الخط الأوّل في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية توجد الصحراء العربية وصحارى شمال افريقيا التي يُطلق عليها مجتمعه "الصحارى Sahara"، والصحراء الإيرانية "صحراء لوط مثلاً"، والصحراء الهندية وصحراء غوبي Gobi في الصين، وصحارى امريكا الشمالية (صحارى نيفادا وأريزونا مثلاً). وأما في الجزء الجنوبي على امتداد مدار الجدي فتوجد صحارى استراليا، وصحارى افريقيا الجنوبية (مثل صحراء كالاهاري) وصحارى أمريكا الجنوبية مثل صحراء أتاكاما في شيلي وصحراء بوتاكانيان في الأرجنتين. ويُطلق عادة على الأراضي التي تقلّ الأمطار فيها عن (10) إنشات في السنة وذات الحرارة المرتفعة أثناء النهار في معظم أيام السنة اسم المناطق الصحراوية "حسب مقياس د. كوبن 1918 Dr. W. Koppen Univ of Graz Austria" وتغطِّي هذه الصحارى 14% من مجموع مساحة الكرة الأرضية، حيث يبلغ مجموعة مساحتها 46 مليون ميل مربّع، وأكبرها جميعاً صحراء شمال افريقيا.
- تكيف الكائنات الحيّة لحياة الصحراء:
لقد حبا الله سبحانه وتعالى جميع الكائنات التي تعيش في الصحراء حياةً خاصة تستطيع بها أن توفر الحماية لنفسها من جفاف الصحراء وشدّة حرّها. فهناك النباتات الخاصة التي امتازت عن غيرها بصغر أوراقها وقساوتها ووجود الأشواك فيها لكي تمنع تبخر المياه منها ومتانة وزيادة حجم السيقان فيها لكي تخزّن أكبر كمية من المياه عند الحاجة.
وهذا التكيّف البالغ الدقّة قد منحه الله سبحانه وتعالى لهذه النباتات لكي تحافظ على إدامة حياتها وعلى جميع فعالياتها الحيوية. فجميع النباتات الصحراوية الموسمية التي تنبت خلال الربيع فقط، خلق الله سبحانه وتعالى لها بذوراً خاصة قوية الجدران تحمي بها نفسها من الجفاف وحتى حلول موسم الأمطار حيث تنبت هذه البذور الصلبة وبشكل سريع حتى تصبح نباتات كاملة لكي تثمر وتنتج بذوراً أخرى صلبة حين انتهاء المواسم الممطرة انتظاراً لموسم مطر آخر.
أما الحيوانات فلها تكيّفات قد منحها الله سبحانه وتعالى لها وهي تكيفات عجيبة وغريبة تمتاز بها دون غيرها من سائر الحيوانات الأخرى التي تعيش في البيئات الأرضية الاعتيادية. ولنبدأ بالحيوانات الراقية ذات الفقرات The Vertebrates ابتداء من الأسماك.
1- الأسماك الصحراوية:
قد يكون من العجيب جدّاً أن توجد أسماك خاصة بالصحراء. ولا يخفى على الجميع ما تحتاجه الأسماك من المياه الغزيرة لكي تديم بها حياتها التي لا تتم إلا بوجود الماء، خاصة وهي تتنفس الهواء المُذاب في الماء. فهناك عدة تكيفات أوجدها الخالق عزّ وجلّ في الأسماك الصحراوية هذه لكي تتكيف لمثل هذه الحياة القاسية الجافّة. وأوّل هذه التكيفات هي تحمّلها للحرارة الشديدة للمياه الموجودة في الصحراء. وثانيها تحمّلها للملوحة العالية في المياه الصحراوية، كمياه العيون أو مياه غدران الماء التي قد تكون الملوحة فيها في معظم الأحيان أعلى من الملوحة الاعتيادية للبحار. وتعيش مثل هذه الأسماك التي تبلغ أنواعها 20 نوعاً في المياه المتجمِّعة في الغدران أو البرك أو العيون، خاصة في الواحات وقد تنتشر وتنتقل من مكان إلى آخر بطريقة غير مباشرة وذلك بانتقال البيوض الملقّحة بالتصاقها بأرجل مختلف الحيوانات والطيور خاصة. ومن أغرب أنواعها أسماك صغيرة يبلغ طولها أقل من إنش واحد تدعى بـ"Devil Hole pup-fish" تعيش في مياه الكهوف الدافئة الموجودة في صحراء نيوادا في وادي الموت Death Valley المشهور في أمريكا الشمالية الذي سمي بهذا الاسم لندرة وجود الحياة فيه، وهو يشبه بذلك صحراء الربع الخالي في الصحراء العربية، كما أنّ هناك أنواع أخرى غريبة تعيش في كهوف المكسيك شبه عمياء شفّافة اللون، تعتبر اليوم من أجمل أسماك الزينة التي انتشرت في أنحاء العالم وتدعى هذه الأسماك بـ"Anaptich thys sp"، وتوجد أسماك أغرب منها في العراق لا يوجد لها مثيل في العالم تدعى Typhlogarra sp. وهي صغيرة الحجم عمياء تماماً شفّافة تعيش في المياه الجوفية ويمكن مشاهدتها في بركة صغيرة في منخفض من الأرض على مقربة من مدينة (حديثة) في العراق.
كما تتكيّف بعض الأسماك للحياة الصحراوية ولقساوتها بحيث انها تستطيع أن تعيش داخل قوقعة من الطين تبنيها بنفسها وتعيش داخلها لمدة سنين، حتى حلول موسم الأمطار وعندها تخرج من قوقعتها. كما هي الحال في الأسماك الرئوية. فالسمكة الرئوية الأفريقية African Lung fish مثلاً، عندما يبدأ الماء بالجفاف من البرك التي تعيش فيها هذه الأسماك وتبدأ بقية الأسماك الاعتيادية بالموت بشكل متوالٍ كل حسب قابليته لمقاومة الملوحة وقلّة الأوكسجين، تبدأ بحفر حفرة في قاع هذه البرك، ثمّ تفرز على نفسها غشاوة من اللعاب اللزج المخلوط بالطين، وتبدأ رحلتها الطويلة في العيش داخل هذه القوقعة حتى حلول موسم الأمطار المقبل. لقد أعطى الله سبحانه وتعالى القابلية لهذه الأسماك للمعيشة داخل هذه القوقعة كالمومياء الحيّة!! ولمدة قد تزيد على أربع سنوات بدون حراك ولا تنفس وتقلّل من فعالياتها الحيوية إلى حد الصفر بحيث تتيبّس وتستحيل إلى قطعة من لحم السمك اليابس. ولكن بمجرد رجوع الماء إلى تلك البرك من جديد، تبدأ هذه الأسماك باسترجاع الماء الذي فقدته، وتتشرب بالماء من جديد كما تتشرب الاسفنجية بالماء، وتدبّ الحياة إليها من جديد وتسبح وتعيش وتتكاثر مرة ثانية في هذه البرك الجديدة.
- البرمائيات الصحراوية:
وإذا انتقلنا إلى حيوانات أقل اعتماداً على الماء في حياتها من الأسماك، ألا وهي البرمائيات، لوجدنا بين هذه المجاميع أنواعاً أخرى خلقها الله سبحانه وتعالى بحيث تكون أكثر تكيّفاً للمعيشة الصحراوية. فهناك العديد من الضفادع Frogs والعلاجيم Toads وهي ضفادع أكبر وأخشن من الأولى وحتى السلمندرات الرقيقة الشبيهة بالأسماك، التي تقتصر حياتها في هذه الحالة على مياه الكهوف والمياه الجوفية. إنّ أغرب أنواع البرمائيات هذه وأعجبها هي علاجيم المجرفة (Spade Foot). هذه الضفادع الكبيرة عندما تشعر بالجفاف وقلّة الماء في البرك تبدأ رحلة السبات الطويل، التي قد تستمر لأكثر من تسعة شهور، إذ تحفر لنفسها حفرة في الطين بواسطة قدميها الأماميتين الشبيهتين بالمجرفة، ثمّ تعيش في داخل حفرتها محيطة نفسها بغلاف من المواد الجيلاتينية الممزوجة بالطين الذي يحمي جسمها من فقدان الماء، وحتى أن أعضاءها وأجهزتها المختلفة تغطّ في سبات ونوم عميق يستمر طيلة الأشهر المذكورة، وحتى تبدأ أوّل بوادر الأمطار. عندها تستيقظ هذه الضفادع وتحفر في الطين من جديد خارجةً من فوقعتها متجهةً إلى أول بركة قريبةٍ منها، ثمّ تبدأ الذكور بمناداة الإناث بنقيقها المتصاعد لإيقاظها من سباتها حتى تلتحق بها، ثمّ تضع الإناث البيوض بسرعة مذهلة وتلقّح ويتم فقس البيوض في غضون يوم أو يومين. وخلال أسبوع واحد فقط تكون الصغار مكتملة ويمكنها السباحة بسهولة في البرك الصغيرة، ثمّ تنمو هذه الضفادع الصغيرة بسرعة فائقة بحيث أنّها تبلغ خلال فترة أقل من شهر وتكون قابلة للتكاثر من جديد خلال هذه الفترة القصيرة. وفي غضون شهر واحد فقط من بداية هطول الأمطار هذه، قد تستعد الذكور والإناث للقيام بالحفر من جديد والدخول في دوامة سبات آخر أثناء فترة الجفاف.
وصدق الله سبحانه وتعالى حيث يقول في محكم كتابه المجيد:
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الاعراف/ 57).
وقال تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر/ 9).
والبلدُ الميتُ هذا هوَ مثل هذه الصحارى الجرداء، والثمرات كل هذه النباتات والحيوانات التي تينعُ وتنتعشُ وتتكاثر عندما يردها الماء مداراً. وخروج الموتى والنشور الواردان في الآيتين الكريمتين السابقتين، ما هما إلا واقع يتمثلُ بخروج أمثال هذه الكائنات الحية التي تخرج من سباتها العميق الأقرب منه للموت من جديد لكي تعيش وتتكاثر ثمّ تموتُ "مؤقتاً" ثمّ تعود حية من جديد. فسبحان الله تعالى عن حسن خَلقه وعلى نعمه كلها وسبحان الله تعالى عما يصف المبطلون والماديون وعما يروجونه من الشك في النشور والمعاد وفي بدء الخلق، بل في مبدأ خلق هذه الكائنات ومنحها هذه القدرة العالية من التكيف لهذه الأجواء والظروف غير الملائمة والادعاء بأنّ هذه الكائنات قد تطورت وتكيفت لمثل هذه الأجواء منذ الأزل.
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 9 و10 لسنة 1989م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق