دخلنا ونحن نبتهل إلى المولى جلّ وعلا أن يزيد البيت تشريفاً وتعظيماً، وبدأنا من حيث بدأ المؤمنون من الحجر الأسود، وبدأ الطواف.. الكل ينادي المولى ويرجوه سبحانه، تتغيّر وتمر الأفواج تلو الأفواج، وجميع الألسن تلهج بالأدعية فيعطي سبحانه، ولا تنضب خزائنه ولا تنقص.
أرهفنا السمع قليلاً للمضطرين المبتهلين المتوسلين، فها هو شاب يطلب من الله الإعفاف والزواج، ومن ورائه شابة تتوسل إلى الرحمن ببكاء وذل وخشوع أن يهبها الذرية ولو بنتاً واحدة، وبجوارها امرأة تسأله سبحانه الولد، فعندها من البنات أربع، ورجل مسن يسأله الصحة والمال، وآخر تحركه عصاه ولا يردد سوى "لا إله إلا الله"، فيخرج من حوله من الغفلة عن الذكر، فمتطلبات الدنيا قد احتوت دعاءهم، ومجموعة وراء قائدهم، يرددون ما يدعو به، ويتحركون بعجلة لا يكادون يستوعبون ما يقول، وآخر يحرك القلوب المتحجرة من بكائه لله حتى يرفع عنه المرض العضال.
أدعية مختلفة متنوعة لإله قادر يسمع الجميع ويبصرهم، ولا يخشى أي من عبيده إو إمائه أو يشوش على دعائه أدعية الآخرين، فالكل يعلم أنّ الله سميع واسع عليم، أقرب لكل منهم من حبل الوريد، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك/ 14).
والمسلم يسلم دوماً أموره إلى المولى ويردها إليه بيقين وثقة، فهو سبحانه الآمر الناهي، لهذا نجد في حياتنا المعتادة أننا بأوامره سبحانه نحاول منع الإختلاط في الحفلات وفي الأعراسوحتى في الزيارات، ونجد المرأة المنقبة تتباهى بنقابها، أمّا عند الطواف فإنّنا نجد الرجال مع النساء في أعلى درجات المساواة في العبادة لله سبحانه، ونرى المنقبة تخلع نقابها طاعة لخالقها وهي تطوف حول البيت، ويراها الرجال في موطن قد سمح الله فيه بذلك، فهي لا تطيع سواه، أمر عجيب حقاً أنّ المرأة تصلي عند المقام بالرغم من الزحام والإختلاط بالرجال ولكن الذكر الأنثى سواسية عند خالقهم في العبادة والثواب، العمل الصالح له نفس الأجر بصرف النظر من قام به من ذكر أو أنثى، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
والحمد لله فتمييز الأعمال بين الجنسين فقط في الحياة الدنيا، والآخرة عند الجميع خير وأبقى، والأعجب في الأمر أنّ المسلمين غير المعتادين على الإختلاط بين الجنسين في أمور حياتهم العادية يسيرون في الطواف بجانب بعضهم بعضاً بلا حرج ولا تكبر، فكل منهم مشغول بمناجاة الله، ورحم الله علي (ع): "لو كان الدِّين بالرأي لكان المسح أسفل الخف أولى من ظاهره"، فيقيناً الطاعة هي الفيصل بدون أسباب ولا مسببات.
- مهمة العسكر الحقيقية:
ويشعر المرء في الحرم بالأمان والطمأنينة، ونجد العسكر يؤدون مهمتهم الحقيقية، وهي مساعدة الناس وتنظيم كل شيء ليكون الأمر أكثر يسراً وسهولة، ننظر إلى لباسهم العسكري وقد ارتاحت العين إلى مرآه، فهم يقفون صفاً لمد يد العون، وليس للزجر والردع أو الإعتداء، كما اعتدنا في الكثير من البلاد، نجدهم شباباً في مقتبل العمر، الإبتسامة على ثغور الكثير منهم، وقد أعانهم الله على تنظيم خروج مئات الألوف من المصلين بعد كل فرص بيسر وسهولة، كما نلاحظ أنّ المصلين يستمعون إلى أوامرهم بهمة ونشاط وطاعة، فهم يشعرون أنّ ذلك لصالحهم، ومن أجل تيسير أمورهم، وليت العسكر في كل مكان يُشعرون الناس أنهم معهم وليسوا عليهم، حتى لا نجد تلك الإضطرابات والمظاهرات والشغب والضيق الذي يكتم على الأنفاس، حتى أصبحت العين لا ترتاح لمرأى الزي العسكري.
- خفقات القلوب:
أمّا عند الصلاة فنجد المصلين بأنفسهم ينظمون صفوفهم بدقة ما وسعهم ذلك، يركعون معاً ويسجدون معاً، في أروع منظر يمكن أن تقع عليه عين ناظر، وأثناء الفروض يتوقف كل شيء: الطواف، والسعي، وقد أرهفت الأسماع للقرآن، وأشرقت القلوب بنور الآيات.
أمر رائع فالكل متجه إلى مولى واحد وإله عظيم، فلم لا تنجذب هذه القلوب إلى بعضها بعضاً، إنّ هذا ما يحدث فعلاً.. المصلون يقتسمون طعام الإفطار، ويتسابقون في سقي مياه زمزم لبعضهم بعضاً، ويتعارفون ويتجاذبون أطراف الحديث.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).
وبدأت بعض الحكايات تنساب من بين الشفاه لعلنا نلتمس فيها العبرة والفائدة:
- سعادة لا يراها الآخرون:
امرأة في الثلاثين من عمرها لا تريد أن تغادر الحرم، فهي من صلاة المغرب تمكث حتى بعد شروق اليوم التالي، فاقتربنا منها لنسمع حكايتها، هي أُم لست بنات، ولكنها تحمد الله عليهنّ كثيراً، وتقول: إن كل أخوة زوجي عندهم أولاد إلا أنا، وكثير من الناس ينظرون إليَّ وزوجي بشفقة، ووالدتي تعتصر ألماً كلما أنجبت أنثى، ولكن ما لا يعلمه الآخرون أن عطايا الله سبحانه أحدها مرئي، والآخر لا يراه إلا من استشعره، فإنّ الله سبحانه قد حباني حبّ القرآن فدرسته وحفظته، وقمت به مع زوجي ومع بناتي وجيراني وأهلي، وزوجي بفضل الله حُبب في الصلاة في المسجد فكل صلواته جماعة، وقد حباه الله بالرزق الوفير، فينفق منه في طاعة الله، ويصل به الرحم، وبناتنا كالشمعات المضيئة في حياتنا، فهنّ طائعات متحببات لنا، وقد أكرمني سبحانه بالعمرة، ولم يكرم من حولي من أهله وأهلي، ونشر بسعادة لا يراها الآخرون، ولكننا قد غمسنا فيها برحمة المولى سبحانه.
أمر جميل أن يبحث الإنسان عن مواطن سعادته، ويؤكِّدها ويذكرها، فتزيد وتربو، فتنقشع مواطن التعاسة والألم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق