• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نظرة الإسلام إلى قيمة الوقت

نظرة الإسلام إلى قيمة الوقت
◄إنّ كلّ مفقودٍ عسى أن تسترجِعَهُ إلا الوقتَ فإنه إن ضاع لم يتعلّق بعودته أمل. قال رسول الله (ص): "لا تزولُ قَدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عُمِرهِ فيما أفناهُ، وعن جسده فيما أبلاهُ، وعن مالِهِ من أين اكتَسَبَهُ وفيما وضَعَهُ، وعن عِلمِه ماذا عمل فيه؟".

فالوقت أنفسُ ما يملكهه إنسانٌ. وعلى العاقل أن يستفيد من وقته كما يستفيد من ثروته، لا يفرِّطُ في قليله وكثيره؛ بل يحرص على أن يستفيد من كلِّ لحظةٍ تمرُّ في حياته..

عندما يحسُّ أحدُنا أنه موجودٌ، ويُلقي نظرةً وراءهُ يتبيّن بها اللحظةَ التي بدأَ فيها المسيرَ في هذه الحياة ليُحصي ما مرَّ به من أيام وأعوام!..

لن يطولَ به الفكرُ لأنه ينظرُ إلى تجمّع السنين الطّوال فإذا هي وكأنها يومٌ واحد. وهذا ما يستشعرُهُ الإنسانُ يومَ القيامة عندما يقفُ للحساب.

قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) (يونس/ 45).

وقال تعالى: (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا) (طه/ 103-104).

وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعات/ 46).

إنّ هذا الإحساس على ما به يَلْذَغُ الذين توهَّمُوا الخلودَ في الأرض وربطوا مصيرهم بترابها؛ ولكنه إحساسٌ مخدوعٌ مُضَلَّلٌ لمن مرّت به الأمسيات وكرّت عليه الشهور والدهور، وغدا وراح وتَعِبَ واستراح. ومع ذلك فهو في غفلةٍ عن يومه وغَدِهِ. وظلَّ يعبثُ ويسترسلُ في عبثه حتى إذا استرخت أجفانُهُ على عينيه ودخل ظلامُ الموت، تيقَّظَ بعُنفٍ، وهيهات لقد صحا بعد فوات الوقت: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/ 19-22).

إنّ شأن الناس في الدنيا غريبٌ؛ يلهون والقدرُ معهم جادٌّ وينسون وكلُّ ذرّة من أعمالهم محسوبةٌ: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة/ 6).

إنّ المسلم الحقّ يُحافِظُ على الوقت محافظةً شديدة لأنّ الوقت عُمُرهُ. فإذا سمح بضياعه فهو ينتحر بهذا المسلك الطائش. ومن الخداع للنفس أن يحسب المرء نفسه واقفاً والزمن يسير.

والإسلام دينٌ يعرف قيمة الوقت ويُقدِّر خطورة الزمن. فهو يؤكِّد الحكمة القائلة: "الوقتُ كالسيف إن لم تقطَعْهُ قَطَعَكَ"، ويجعل من دلائل الإيمان أن يعي المسلم قيمة وقته (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (يونس/ 6).

انظروا كيف ينظِّر المؤمنُ إلى الوقت: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (آل عمران/ 190-192).

ويعتبرُ الإسلامُ الذّاهلين عن غدهم الغارقين في حاضرهم المسحورين ببريق العاجلة قوماً خاسرين سفهاء: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس/7-8).

لقد وزَّع الإسلامُ عباداته الكبرى على أجزاء اليوم. فالصلوات الخمسُ تكتنفُ اليومَ كُلَّهُ. والمقرَّرُ في الشريعة الإسلامية أنّ جبريل (ع) نزلَ بأمرٍ من الله ليرسُمَ أوائل الأوقات وأواخرها ليكوّن من ذلك نظاماً محكماً دقيقاً يرتِّبُ الحياة الإسلامية ويَقيسُها بالدقائق من مَطلَعِ الفجر إلى مَغيبِ الشَّفَق.

قال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (الروم/ 17-18). حتى الليل فلَهُ عبادته وله تربيته (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) (المزمل/ 1-6).

لكنّ الزمن الذي يطوي الآجالَ ويَفني الحضارات هذا الزمن نفسه هو فرصةٌ لإيقاظ الأذكياء لفعل الخير وإسداء المعروف.

قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (الفرقان/ 61-62).

فالليلُ يَخلُفُ النهار ويخلُفُ النهارُ الليلَ، وربُّ العالمين لم يَخلُقْ ذلك عبثاً. والليل والنهار هما المجالُ الذي يذكُرُ العبدُ فيه ربَّهُ ويشكر نِعَمُهُ. أما الذاهلونَ عن هذه المعاني، الهائمون وراء منافعهم العاجلة فهم لا ينتصحون من حكمة ولا تؤثِّر فيهم الفتنة.

قال تعالى: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (التوبة/ 126).

زلازلُ هنا، وعواصفُ هناك، وحروبٌ، وأحداثُ تمرُّ بالناس فلا يخطرُ بذهنِ أحدِهِم أنّه قد يكون ضحية هذا الزلزال أو تلك العاصفة أو هذه الحروب. ويِبقى غارقاً في معصيته، لا يتوب إلى الله ولا يلجأ إليه، ولا يعتبر بما حدث وتمرُّ به الأيام والليالي وكأنّ شيئاً لم يكن..

إنّ الإسلام نظرَ إلى قيمة الوقت في كثير من أوامره ونواهيه. فعندما جعل الإعراض عن اللّغوِ من معالم الإيمان (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 3)؛ إنّما أراد محاربةَ طوائف المتبطّلين الذين ينادي بعضهم بعضاً: تعالَ نقتل الوقت بشيءٍ من التسلية، تعال لنجلس ساعات طويلة في مقهى ليس لنا شأنٌ إلا المراد والجدال غير المُجدي والغيبة، والنميمة، وأكل لحوم الأخوة والأصحاب..

إنّه لَمِن فضل الله سبحانه وتعالى وتوفيقه على العبد أن يُلهِمَهُ استغلال كلّ ساعة من عمره في العمل أو الراحة من جُهدٍ استعداداً لجُهدٍ آخرَ.

قال تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص/ 73).

ومن المؤسف أنّ بعضَ الناس لا يبالون بإضاعة أوقاتهم سدىً، بل يضمّون إلى هذه الجريمة السطو على أوقات غيرهم؛ فهم يقتحمون على رجال الأعمال خلواتهم الجادّة ليشغلوهم بالشؤون التافهة.

وصدق رسول الله (ص): "نِعْمَتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ الصحةُ والفراغُ".

ومن استغلال الإسلامِ للوقت بأفضل الوسائل حَثَّ الإسلامُ المسلم على مداومة العمل وإن كان قليلاً. قال النووي: "إنّما كان القليلُ الدائمُ خيراً من الكثر المُنقَطِع".

وقال رسول الله (ص): "يا أيّها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملُّ حتى تملّوا. وإن أحبّ الأعمال إلى الله ما دام وإن قَلَّ".

ومن محافظة الإسلام على الوقت حَثّ المسلم على التبكير، ورغَّبَهُ أن يبدأ أعمال يومه باكراً مكتمل العزم. ونظامُ الحياة الإسلامية يجعل ابتداءَ اليوم من الفجر، ويكرهُ السَّهر الذي يُسبِّب تأخير صلاة الفجر ووقتها المسنون.

قال (ص): "اللّهمّ بارِكْ لأُمّتي في بكورها".

وإنّه لمن الغفلة أن يعتاد أقوامٌ النوم حتى الضحى فتطلّع عليهم الشمس وهم يغطون في نومهم، على حين تطلع الشمس على آخرين وهم منهوكون في وسائل معاشهم ومصالح معادهم.

بعضُ الناس ينظرون إلى الأحداث ويذهلون عن مرسلها، ويذوقون السرّاء والضرّاء، ويجهلون من يذيقهم طعومها. فإذا ضاقوا ذرعاً بأمر ما لعنوا الأيام وما تفدُ به، وهذا ضربٌ من الجهل بالله والغفلة عن أقداره في عباده.

عن النبيّ (ص): "يقول الله عزّ وجلّ: يُؤذيني ابنُ آدمَ يَسُبُّ الدهر وأنا الدَّهرُ بيدي الأمرُ أقلِّبُ الليلَ والنهار" يعني أنّ الزمن لا يصنعُ بالناس خيراً ولا شراً مما يفرحُ الناس به أو يحزنون له، وإنما يسوقُ ذلك ربُّ الزمان والمكان (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء/ 35). والله سبحانه وتعالى لا يسوق الأحوال المختلفة على الناس إلا بحكم يتدبَّرها العارفون فيزدادون بالله إيماناً وبلقائه يقيناً: (يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرّعد/ 2). والسُّفهاء من الناسِ تمرُّ بهم الأحوالُ الحسنةُ والسيئةُ فلا يستفيدون من اختلافها شيئاً.

فليس بمؤمنٍ حقاً من لم تهذّبهُ التجارب وتُقوّمهُ الأيام. وهل تعترضُ الآلام الناس إلا ليتعلّم بها الجاهلُ، ويصحو الذاهِلُ، ويتوب إلى الله من ابتعد عنه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حُسنَ التدبّر والتوفيق في أعمالنا لنملأ أوقاتنا بطاعته، ونُشغِلَها بما يُرضيه عنّا. هو حسبُنا ونِعمَ الوكيل، هو المُوَفِّقُ والهادي للصواب والحمد لله رب العالمين.►

ارسال التعليق

Top