ما أحوجنا اليوم إلى رجُل يتحلىّ ببُعد النظر، وصدق التضحية يجمع شمل الأمة ويسير على الهدى ويُسدِّد الخُطى وينشر السلام والوئام فيخرج بهذا العالم من الضياع إلى الحزم. ومن الشتات إلى الاجتماع، ومن الضعف إلى القوة. إنّ الحسين (ع) لم يفرق بين أصحابه أبداً. فيهم العرب والموالي وفيهم الحُر والعبد والأبيض والأسود وفيهم الحضري والقروي، عاملهم على أنّهم أخوة في الله وساوى بينهم ليُعلِّم الناس المساواة التي نادى بها القرآن الكريم: (إنّ أكرمَكُم عندَ الله أتقاكُم). قال لهم:.. صبراً يا بني الكرام. أغلب علماء الاجتماع يرون بأنّ التأثير الأساسي لعامل الدين يتمثل في محو التفاوت الطبقي وخلق التجانُس والتضامن الاجتماعيَّين فمن وجهة نظرة الدين أنّ جميع الناس متساوون أمام الله تعالى. وقد قال تعالى: ﴿يا أيها الناس إنّا خَلَقناكُم من ذكرٍ وأنثى وجَعَلناكُم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرَمكم عند الله أتقاكُم﴾ (الحجرات/ 13).
ومن ميزات مراسم إحياء ذكرى عاشوراء التي تُلفت النظر وتثير الانتباه لمن يتأمل فيها قليلاً انّها يشترك فيها جميع الناس من كلّ الطبقات الاجتماعية، يشترك فيها الرجال والنساء ويختلط فيها العامل، وصاحب العمل، والفلاح والتاجر، الطبيب والمهندس، أهل المدن وأهل القُرى والأرياف، الرئيس والمرؤوس، العالم والمتعلِّم، الأستاذ الجامعي والطالب، دون تمييز بينهم، وفي ظل وضع واحد، ويدفعهم شعور واحد لذلك تتوفّر في هذه المراسم فُرصة ثمينة جداً لإذابة الفوارق الاجتماعية ونشر أجواء التآلُف والمحبة وهذا الأمر ليس قليلاً في زمن تعددت فيه وجهات النظر وعمت الفرقة. وفي زمان ظهر فيه الاختلاف حتى بين أبناء الفرقة الواحدة، وعمّ التنافس على المناصب الحكومية والمراكز الاجتماعية. فالإيثار هو أحد الأسس الأصلية للأخلاق، ومن الإلهامات الواضحة لثورة الحسين (ع)، بينما لا معنى لهذه اللون من القيم الأخلاقية في المجتمعات الحديثة. إنّ من القيم المتكررة الأخرى لذكرى عاشوراء التعارض بين العدل والظلم، والحث على التمرُّد على الظلم عن طريق رمزيّة تاريخ عاشوراء.
كان الحسين (ع) يعلم منذ خروجه من المدينة أنّه مُقبل على مواجهة كارثة ومأساة مُروِّعة. ولكن الحسين (ع) كان لا يبالي بالرزايا والمحن التي سوف يواجهها ما دامت تُرضي الله تعالى ورسوله وتحقق للأمّة الإسلامية شيئاً من العزة والكرامة ورفض التبعية. وما دامت ملحمته تكون صرخةً مدويّة في ذاكرة الزمن ضدّ الظلم. كان يعلم أنّ للحياء ثمناً تقتضيه الحياة نفسها: فالحياة ليست قضاء أعوام معدودة قليلة أو كثيرة على الأرض. ولكنها خطوة بالجماعة في موكب الحضارة، أو زيادة في قوة عوامل الوحدة التي تجمع بعض أطراف الأمة إلى بعض. أو إقامة دليل على صحة مبدأ. ولا يكون بعض ذلك ممكناً أحياناً إلّا إذا بذلنا في سبيله أثمن ما في الحياة- إذا بذلنا الحياة نفسها. إنّ الحسين (ع) يعني استمرار الجهاد من أجل إزالة مآسي البشرية، وكلما ازدادت هذه المآسي كلما اشتدت الحاجة إلى الحسين (ع).
وما أشرف الإنسان المجاهد حتى فيما لو لم يملك الماء والخبز؟ ولأننا لا نعبد الأجساد، فليس اهتمامنا بالإمام الحسين (ع) لأي اعتبار جسدي، وإنما لاعتبارات نضالية وأيديولوجية. فلا يجوز أن يقال لنا: لقد قتل الحسين بن عليّ مرة واحدة، فلماذا تهتمون بمقتله كلّ سنة؟ ذلك لأنّ الذي قتل من الإمام الحسين (ع) كان هو جسده الطاهر. أما الذي بقي منه فهو نوره وفكره وطريقة حياته وجهاده. كلّ ذلك لم يمت من الإمام ولن يموت، بل يزداد يوماً بعد يوم وتزداد الحاجة إليه يوماً بعد يوم أيضاً. ونحن إذ نشعل كلّ عام في أعماقنا شموع الحزن عليه، فليس لأجل أن تخلد مأساته، وإنما لأجل أن نتعرف – في ضوء شموع الحزن – على طريقة حياته ونوعية جهاده وكيفية تضحيته من أجل عقيدته.
وهكذا فسّر الجيل السابق أحداث البطولة لدى الطليعة المؤمنة بقيادة الحسين (ع) على أنّها قضاء الله وقدره، فكان قدر الحسين (ع) أن يكون قتيلاً تحت أسنة الرماح الأموية، وكان قضاءً أن تسبى عائلة الحسين (الشهيد)، وتتعرض لأصناف العذاب والهوان. وأصبح عاشوراء موعداً لتمديد الحزن على الحسين والمأساة، من دون تفاعل بعاشوراء كقضية يعيشها الإنسان في كلّ لحظة. فجسموا الثورة في أُطر لا تتعدى حروف الكلمات وأشعار الرثاء وقصائد البكاء، فكان أن تخلفت الأُمّة عن واقع عاشورائها وحسينها، فأصبحت على ما هي عليه.
في صراع الحياة المستمر من أجل احتلال مركز القيادة وتوجيه الشعب، تتصارع قوتان: قوة تريد الحياة لها فقط، فالأموال في قبضة يدها، وقدرات الجماهير تحت سيطرتها، فتعطل وتجمد تيار الحياة المتدفق من عطاء الأُمّة وإبداعها، وتضرب بيد من حديد على جماهير الأُمّة فتخنق حريات الناس، وتمارس الحكم الدكتاتوري حيث تعتبر نفسها فرضاً على الكلّ، والوريثة الشرعية لقيادة الأُمّة وتوجيهها وتسلط سيفها على الناس فتخنعهم وتستعبدهم، وتستنزف ثروات الأُمّة وتعبث بمبادئهم ورسالتهم، وتظل تقتل المعارضين الذين يقفون بدمائهم ليسجلوا موقفاً عنيداً ضد تلك السلطة الدكتاتورية، ويبعثون بدمائهم فجراً جديداً للأُمّة تخلع فيه عن نفسها لباس الذل والسكوت والخنوع.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق