• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

معوقات ذكر الله سبحانه

زهير الأعرجي

معوقات ذكر الله سبحانه

◄يشتغل القلب أحياناً بقضايا دنيوية لها بريق خاص، وهي الأموال والأولاد والتجارة والبيع والشراء وغيرها من الأمور الدنيوية، وهي إذا زادت عن حدها الطبيعي انقلبت إلى قضية تذوب فيها كلّ شخصية الإنسان فتصبح الإله الذي يعبده.. فينسى عبادة الخالق عزّ وجلّ، فتموت روحه، ويتجمد ضميره، ويصبح حجارة صماء تدور في فلك الحياة.. ولذلك أكّد القرآن المجيد على المؤمنين بأن لا تلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله سبحانه وتعالى.. لأنّ الانغمار الكلي في الحياة الدنيا لا يورث إلّا الخسران والندم والحسرة يوم القيامة.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون/ 9). فالاشتغال بزينة الحياة الدنيا يوجب الإعراض عن ذكر الله سبحانه، يقول تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف/ 46)، وما نسيان ذكر الخالق العظيم إلّا دليل على أنّ الانبهار بزينة الحياة، تأخذ كلّ قلب الإنسان، فلا يبقى مجالٌ لتذكر الله سبحانه.. يقول تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة/ 67)، ويقول أيضاً: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة/ 16). فذكر الله سبحانه، إذن، أسمى من البيع والشراء والأموال والأولاد، وكلّ ما يمتّ إلى ماديات هذه الحياة.. وخشوع القلب لله سبحانه هو القيمة الحقيقية والهدف الأسمى لوجود الإنسان على كوكب صغير في كون ليست له حدود..

ويدعو القرآن الكريم، المؤمنين، إلى ترك البيع، والتجارة بشكل عام، وقت حلول صلاة الجمعة، والتوجه نحو الله سبحانه لممارسة الواجبات التعبدية.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الجمعة/ 9-11). وقد اتفقت الروايات على أنّه وردت المدينة قافلة معها تجارة وكان ذلك يوم الجمعة، والنبيّ (ص) قائم يخطب فضربوا بالطبول والدفوف لإعلام الناس، فانفضّ أهل المسجد إليهم وتركوا النبيّ (ص) قائماً يخطب ومعه عدد قليل من المؤمنين فنزلت الآية..

والعمل التجاري، لا يزال مستحباً، إذا بقي مضبوطاً ضمن الإطار الشرعي، كأن يتذكر التجار حقّ الله سبحانه، ويمارسوا عبادة الخالق، كما يمارسوا تجارتهم.. ويتذكروا أنّ البيع والشراء، ما هما إلّا وسيلة من وسائل العيش.. فالتجارة ليست الأساس في حياة الإنسان.. وإنّما عقيدة التوحيد وحب الخالق سبحانه وذكره وتسبيحه هو الأساس في هذه الحياة القصيرة.. ولذلك يدعو القرآن المجيد إلى ذكر الله ذكراً كثيراً.. (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).. وذلك أنّ كثرة الذكر تفيد رسوخ المعنى المذكور في النفس، واستقراره في الضمير، وثبوته في الذهن، فتنقطع الغفلة وينقطع النسيان.. ويتهدم أهم معوِّق يمنع الإنسان من ذكر الله، ألا وهو، حب الدنيا ومتاعها..

ويصوّر القرآن الكريم، مجموعة من المؤمنين، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، بأنّ لهم نوراً يستنيرون به ويهتدون إليه بأعمالهم الصالحة وهو نور المعرفة والإيمان، وكأن هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة تشتعل بزيت في غاية النقاء فتتلألأ الزجاجة كأنها كوكب دري، ليزداد نوراً على نور.. هذا المصباح موضوع في بيوت الله التي يؤمّها رجال لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله.. يقول تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النّور/ 35-38). فتلك العصبة من المؤمنين لا تلهيها عن ذكر الله تجارة أو بيع أو لهو يمتد إلى هذه الحياة الدنيا، لأنّ أبصارهم مشدودة إلى يوم القيامة، يوم الفصل، يوم تنصرف القلوب والأبصار عن الرؤية الدنيوية الشاغلة عن ذكر الله، إلى الرؤية بنور الإيمان والمعرفة، كما قال تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/ 22)، وكذلك قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزّمر/ 47). فالرؤية الحقيقية في ذلك اليوم، للقلوب المؤمنة، والنفوس المبصرة، والضمائر الواعية.. تلك الحقيقة يجسدها القرآن في مشهد رائع من مشاهد يوم القيامة حين يتساءل الإنسان الذي غرته الدنيا بمباهجها وزينتها فنسي ذكر الله، يتسائل: يا ربِّ لمَ حشرتني أعمى بعد أن كنت بصيراً في الحياة الدنيا، وكأنّ العيون وحدها التي تبصر! وينسى أنّ الله سبحانه سلب منه بصيرة القلب يوم القيامة، فأخذ يتخبط، لا يهتدي إلى طريق الحقّ، طريق الجنّة، طريق مرضاة الله سبحانه وهدايته.. يقول تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه/ 124-127).

إنّ الإيمان الحقيقي بالله سبحانه وتعالى، هو المنقذ الأساسي من محنة يوم القيامة.. ذلك اليوم العظيم.. حيث ترى الإنسان ينظر بنور الله سبحانه وهو نور الإيمان والمعرفة إن كان مؤمناً، يقول تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) (الحديد/ 12)، وترى الإنسان الآخر الذي عبد المال والتجارة والدنيا ونسي الله سبحانه، قد أعمى الله بصيرته، فهو لا يرى طريق الهدى، ولا يبصر طريق السعادة.. يقول تعالى: (إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) (السجدة/ 12)، ويقول أيضاً: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطفِّفين/ 15). ويقول أيضاً: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) (الإسراء/ 72).

ومن معوقات ذكر الله سبحانه وتعالى اشتغال بعض الناس، بتصوير الخيال وتزويقه، وكأنّه واقع.. في حين أنّه خيال لا يمتُّ إلى الواقع بشيء، وهذا هو الغي في المفهوم القرآني، وهو خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع، فالرشيد هو الذي لا يهتمّ إلّا بما هو حقّ واقع، والغويّ هو السالك سبيل الباطل.. المخطىء طريق الحقّ. وخير ما يصرف الإنسان عن تأمل واقعه الذي يعيشه، ويضعه في عالم الخيال، هو الشعر المبتذل المنحط، والأفكار الخيالية الوهمية، لأنّ الشعراء المفسدين لا يتبعهم إلّا الغاوون لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد.. وقد استثنى الله سبحانه وتعالى شعراء المؤمنين الذين يذكرون الله كثيراً في أعمالهم وأقوالهم، لأنّ الإيمان والعمل الصالح يردع الإنسان عن قول الباطل، والتملق للظالم.. يقول تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء/ 224-227). فالفرق واضح بين الشاعر أو الفنان الذي يستهويه جسد المرأة، فيبقى يتغنّى به طول حياته، وبين الشاعر المؤمن الذي له هدف واضح في الحياة، وهو مرضاة الله سبحانه، عبر بناء جيل مثقف سليم، فالكلمة المؤمنة الطيبة لها أثر راسخ في النفوس، والنصيحة، والتذكير بالله، والدعوة إلى عقيدة التوحيد كلّها لها انعكاسات عميقة في نفوس الناس، ولا يستطيع أحد أن يبثّها للناس غير الشعراء المؤمنين الصادقين، الذاكرين الله كثيراً..

إنّ المعوق الرئيسي عن ذكر الله سبحانه وتعالى، هو حب الدنيا، بتجارتها وأموالها، وزخرفها من أولاد ونساء، وغير ذلك من الأمور.. وإنّ الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من قيود حب الدنيا، بدون أن يجد له لذة وطمأنينة في الانصراف لله سبحانه والإخلاص له في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا ما لا يجده الآخرون في أي متعة من متع الحياة الدنيا.. إنّ وقفة ساعة أمام الله سبحانه وتعالى، في جوف الليل، حيث يركن الناس فيها إلى النوم، وقفة، يستغفر فيها الإنسان ربّه، ويسبحه، ويذكر نعمه وآلاءه، ويدعوه وفي قلبه أمل بأنّ الله سيستجيب دعاءه.. هذه الوقفة كفيلة بأن تفتح له أبواب السماوات، فيطير قلبه مع ملائكة الجنّة، وتنفتح بصيرته، فلا يرى إلّا نوراً يرى به الأشياء، وهو نور الإيمان والمعرفة وحب الله.. ويرجع الإنسان في الصباح إنساناً عاملاً منتجاً مجدّاً ذاكراً لله في كلّ موقع، وفي كلّ ساعة.. ليجسّد قول الله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). تلك هي ميزة الإيمان.. استقامة في التفكير.. شفافية في الروح.. بصيرة في النفس.. واتصال وثيق بالله الخالق الجبار..►

 

المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية/ ج2

ارسال التعليق

Top