• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

معايير البحث العلمي في العلوم الإنسانية

د. إبراهيم الديب*

معايير البحث العلمي في العلوم الإنسانية

◄الباحث ابن عصره، ينطلق من هموم ومشكلات وتطلعات واقعه لينتج له الأفكار والحلول والرؤى المتجددة، وإلا هو عالة على عصره؛ حيث أوهمهم بتحمل مسؤولية البحث لكشف حقيقة أمراضهم وعلاجها، فذهب ثمّ عاد ليشغلهم ويستنزف عقولهم ومواردهم وأوقاتهم بالمتكرر من الجدال والسفسطة، وترك أمراضهم لتتفاقم وتتعقد.

تطالعنا كلّ عام مئات الأبحاث في العلوم الإنسانية، وللأسف لا تتجاوز أرفف الجامعات، وشهادة ورقية لا أكثر من ذلك، حيث لا أثر ولا فاعلية في علاج مشكلات الواقع، وتطوير الإنسان والمجتمع الذي هو عامل مشترك في كلّ هذه الدراسات والرسائل.

نوقن بأنّ الأمور بمقاصدها ونتائجها، وإذا كان هذا الكم الهائل من الرسائل لم يحقق أهدافه ومقاصده المرجوة، ولا نتيجة له ولا أثر في عالم الواقع، كان لابدّ لنا من التوقف وفهم حقيقة تلك الخدعة الكبرى التي نعيشها؛ فدعة الدراسات والبحوث والرسائل العلمية في مجال العلوم الإنسانية.

 

قص ولزق:

عبر العديد من الدراسات التي أطلع عليها، أو أشرف عليها، أو أحكمها، وجدت أغلبها ينحصر في عمليات تجميع وقص ولزق من كتب التراث القديم والمعاصر مع بعض التعليقات والشروح السطحية البسيطة.

مما أعده أحد أمرين؛ الأوّل: الجهل بحقيقة وأصول وقواعد ومعايير البحث العلمي الرصين الفاعل.

والثاني: عملية ممارسة لخداع ونصب علمي لأجل الحصول على شهادة علمية لا قيمة ولا فاعلية لها، مع تكريس لحالة التخلف البحثي والعلمي والحياتي التي نمر بها.

وهذا ما دعاني لضرورة وضع هذه المعايير لضمان استعادة مسار الدراسات والبحوث والرسائل العلمية في مجال العلوم الإنسانية إلى بوصلته الصحيحة من المجتمع وللمجتمع بدون أي فجوات بينية.

 

معايير البحث العلمي:

أوّلاً: أن يستند إلى دراسة وتحليل نقدي معمق للتراث القديم والحديث الذي له علاقة بالموضوع محل البحث؛ ليضمن لنفسه البداية من حيث انتهى الآخرون، وأن يتجاوز تقديس التراث والتعامل معه على أنّه حقائق مطلقة وصندوق أسود لا يجوز تجاوزه والخروج منه، فيما هو أشبه بالسجن الذاتي للعقل، بل هو نتاج فكري لعلماء عصر من العصور اختلفت فيه مكونات العصر وطبائع البشر عن واقعنا المعاصر، وربما يصلح منه شيء من الأفكار أو التطبيقات لهذا العصر، وربما لا يصلح كله لهذا العصر لاختلاف المتغيرات وميول واتجاهات البشر.

وتجربتي الخاصة مع التراث تقول: إنّه وسيلة لرسم خريطة أولية لمحاور وفروع الموضوع محل البحث، أو لفتح آفاق جديدة حول الموضوع، أو لتوثيق فكرة توصلت إليها.

ثانياً: إجراء مسوحات ميدانية حية حديثة؛ لتعطي بيانات ونسباً دقيقة وواقعية تمنح الباحث الموضوعية والعملية الكافية لدراستها وتحليلها واستخلاص النتائج الواقعية الحقيقية بنت الميدان، لا الكتب العتيقة البعيدة عن الواقع، خاصة أننا نعيش عصر السرعة وحكمة المعرفة، حيث تتغير ميول واتجاهات، ورغبات الناس بسرعة بالغة تحت تأثير الآلة الثقافية والإعلامية والسياسية الموجهة بكل قوة، كما أنّه وبطبيعة الحال تتغير التحديات والمشكلات والتطلعات الخاصة بالمجتمع كما تتغير القيم والهويات بفعل التقدم التكنولوجي، وثورة الاتصالات والانفجار المعلوماتي.

ثالثاً: الإنتاج الفكري الجديد للباحث من خلال التزامه بدراسة ما أنتجه السابقون في موضوع البحث وتحليله ونقده في سياق ما بلغة العلم الحديث من جهة، ومن جهة أخرى في سياق تواصله العميق مع الواقع، ليقوم بعدها الباحث بعصفه الذهني والفكري بشخصيته العلمية الخاصة حتى يتمكن من الخروج بأفكار جديدة من إنتاج الباحث لحل مشكلات الواقع وتطويره.

وبهذا تتكامل ثلاثية استثمار التراث والواقعية العملية مع الإنتاج الفكري الجديد للباحث. ►

 

*مستشار تخطيط القيم

 المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 2070 لسنة 2014م

ارسال التعليق

Top