• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مسؤولية استثمار أوقات الفراغ

مسؤولية استثمار أوقات الفراغ

◄قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح/ 7-8). وقت الفراغ هو نِعمة كبيرة، لا يعرف أهميّتها إلّا مَن كان وقته ممتلئاً بالعمل، ولا يكاد يجد فيه فسحة للراحة.

والمقصود بوقت الفراغ هنا، الوقت الذي يمرّ على الإنسان دون مسؤوليات والتزامات، كالعامل الذي أنهى عمله، أو الموظف الذي هو في إجازة، أو الطالب الذي أنهى عامه الدراسي ودخل في العطلة الصيفية.

والإنسان بحاجة إلى مثل هذه الفسحة من الوقت، ليخرج من روتين العمل اليومي، ومن ثقل الالتزامات الوظيفية أو الدراسية، وهي ضرورية له ليجدّد حيويته ويشحن طاقته، وليزيد من فعاليته، ويضفي على عمله المعنى الذي يستحقّ، وحيث لا يمكن للإنسان أن يمضي حياته في عمل لا توقّف فيه.

وهذا المفهوم حاضر في التراث الإسلامي، فقد اعتبر الإسلام هذا الوقت حقّاً للإنسان، حيث ورد في الحديث عن الإمام عليّ (ع): «ما أحقّ الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل». وفي تقسيمه لساعات اليوم، قال (ع): «للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يروم فيها معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه ولذّاتها في غير محرَّم، فإنّها عون على تينك الساعتين».

وفي حديث آخر: «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان (العلاقات الاجتماعية) والثُّقات الذين يعرّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرَّم، وبهذه الساعة تقدرون على الساعات الثلاث».

هل في الإسلام وقت فراغ؟!

ولكنّ الإسلام لم يرد لهذا الوقت أن يذهب هدراً، أو أن يصرف في أُمور لا فائدة للإنسان منها، أو أن يكون سبباً للملل والضجر، فيقضي هذا الوقت في النوم الطويل، أو على شاشات التلفاز، أو على مواقع التواصل، أو في المقاهي، أو يدفع الإنسان لاكتساب عادات سيِّئة، أو القيام بأعمال غير مشروعة، بحيث يتحوَّل هذا الوقت إلى مشكلة للإنسان وللناس من حوله.

وهنا نشير إلى أنّ دراسات أُجريت عن علاقة الشباب بالمخدرات، أشارت إلى أنّ من أبرز العوامل المؤدِّية إلى تعاطي المخدرات هو وقت الفراغ، طبعاً من ضمن عوامل أُخرى. ومن هنا، اعتبر الفراغ من أوثق فرص الشيطان.

فالإسلام يعتبر هذا الوقت، وكلّ وقت، رأسمالاً أودعه الله عند الإنسان ليستثمره في المسؤوليات التي دعاه للقيام بها، لا أن يهدره أو يضيِّعه، ففي الحديث: «إنّ عمرك مهر سعادتك، إن أنفذته في طاعة ربّك»، ورأى أنّ الوقت مسؤولية، وسيُحاسب عليه الإنسان يوم القيامة، حيث ورد في الحديث: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه...».. فالإنسان معنيّ عندما يقف بين يدي الله عزّوجلّ، أن يقدِّم الجواب عن كلّ دقيقة وكلّ ساعة وكلّ زمن ماذا فعل فيه، ففي حسابات الله، لا ينبغي أن يكون هناك زمن لا شغل للإنسان فيه، بل لا بدّ أن يُملأ لكلّ ما فيه خيرٌ للحياة من حوله.

ومن هنا، ورد التحذير في الحديث: «احذروا ضياع الأعمار فيما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود». وفي الحديث: «مَن أفنى عمره في غير ما ينجيه، فقد أضاع مطلبه». وقد ورد في الحديث أيضاً: «اعلم أنّ الدُّنيا دار بليّة، لم يفرغ صاحبها فيها قطّ ساعة، إلّا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة».

وقد ذمَّ الله المبذِّرين، وقال الله سبحانه عنهم: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء/ 27). والتبذير لا يقف عند صرف المال في غير موقعه، بل يشمل صرف الوقت فيما لا فائدة منه أيضاً. ومع الأسف، لا نأخذ بعين الاعتبار هذه القيمة، والدليل على ذلك، أنّنا لو رأينا أحداً يبذّر أمواله، لأخذنا على يديه ولمنعناه من ذلك ــ وهذا حسن ــ ولكنّنا لا نجد التعامل نفسه والنُّصح ذاته فيما لو رأينا أحداً يصرف وقته وينفقه في غير موضعه الصحيح. فالوقت لا قيمة له في اعتبار الكثيرين، وما أكثر الأوقات التي تضيع من حساباتنا كأفراد أو كمجتمع!

فوقت الفراغ، إذاً، كأيّ وقت، لا ينبغي أن نتعامل معه كوقت فراغ لا شغل فيه، بل ينبغي أن يتحوّل إلى وقت عمل، فهذا الوقت له دوره وأهميّته، والإنسان بحاجة إليه لتلبية احتياجات قد لا يجد لها متّسعاً في أوقات العمل أو التعلُّم، وهي التزامات تتعلّق بحاجات جسده أو عقله أو روحه، وتوسعة معارفه الدينية والثقافية، والاهتمام بقضايا مجتمعه، من تواصل مع جيرانه، إلى المساهمة في عمل تطوّعي خيري أو إنساني، أو إلى إجراء مراجعة لنفسه وسدّ نقائصها، أو إلى أسفار يقوم بها تزيد من معرفته بهذا العالم.

فحاجات الإنسان وأبعاد شخصيته متعدّدة، ولابدّ أن تُلبَّى جميعها، ولا ينبغي أن يغفل عن أيّ منها، والوقت الذي يُسمَّى وقت فراغ، هو فرصة، وهو منحة على الإنسان أن يستفيد منها لسدّ هذه الحاجات أو الأبعاد.

تحذير وتنبيه

ومن هنا، حذَّرت الأحاديث الشريفة من عدم الأخذ بهذه المسؤوليات، حيث ورد في الحديث: «إنّ الله ليبغض العبد النوّام، إنّ الله ليبغض العبد الفارغ». وفي الحديث: «إنّ الله يبغض الصحيح الفارغ، لا في شغل الدُّنيا، ولا في شغل الآخرة». وفي الحديث: «أشدّ الناس حساباً يوم القيامة، المكفيّ الفارغ».

وقد ورد في الدُّعاء عن الإمام زين العابدين (ع): «اللّهُمّ اشغَلْ قُلُوبنا بذكرِك عن كلِّ ذِكرٍ، وأَلسِنتَنا بشُكرِك عن كلِّ شُكرٍ، وجَوَارِحنا بطاعتِك عن كلِّ طاعةٍ، فإن قَدَّرتَ لنا فراغاً من شُغلٍ، فاجعلْهُ فراغ سلامةٍ، لا تُدرِكُنا فيه تَبِعَةٌ، ولا تَلحَقُنا فيه سَأمَةٌ، حتى ينصَرِفَ عنّا كُتَّابُ السيِّئاتِ بصحِيفةٍ خاليةٍ من ذِكرِ سيِّئاتِنا، ويتولَّى كُتَّابُ الحسناتِ عنّا مسرورين بما كَتَبُوا من حسناتِنا».

إذاً، في المبدأ، ليس هناك أوقات فراغ ليس فيها أيّ شغل، فمن مسؤولية الإنسان عندما ينتهي من عمل أن يبدأ بعمل آخر. وإلى هذا، دعا الله نبيّه (ص)، فقال له: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).. فالحياة ساحة عمل من بدايتها إلى نهايتها، ولا فراغ فيها، ولكن هذا لا يعني أن لا يكون هناك وقت للراحة أو للتنزّه أو الرحلات، فهذه مطلوبة، لكن بشرط أن تكون عوناً على المسؤوليات الملقاة على عاتق الإنسان، لا على حسابها.

التخطيط للوقت

لابدّ من التخطيط لوقت العطلة التي أقبلنا عليها أو نحن مقبلون عليها، بأن نخطّط ماذا نفعل خلالها ساعةً بساعة، ويوماً بيوم، فبدون التخطيط، لن نستفيد من هذا الوقت، بل قد يضيع ولن يكون بذي فائدة، وهذا يتحقّق عندما يضع كلّ واحد برنامجاً محدّداً لهذا الوقت، يلحظ فيه احتياجاته على كلّ المستويات، وكلٌّ له احتياجاته، فنعدّ برنامجاً للترفيه وللمطالعة المتنوّعة، ووقتاً للجانب الروحي والإيماني، ووقتاً لتنمية العلاقات الاجتماعية ومع الأرحام، ووقتاً لتعلُّم بعض المهارات ولحفظ القرآن وللتعبير عن الهوايات، وغير ذلك الكثير.

إنّ ما يؤسف له، أن نجد أغلب الناس لا يحسنون الاستفادة من أوقات الفراغ، فلا تساهم هذه الأوقات في تعزيز أدوارهم وحضورهم، وهذا ما نبَّه له رسول الله (ص)، عندما قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ»، فهم يتعاملون مع أوقات الفراغ وكأنّها خارج جدول أعمالهم ومسؤولياتهم.

إنّ المجتمع الواعي والمسؤول، والذي يريد التقدّم والتطوّر ومسابقة بقية الأُمم، هو مَن يُحسن استثمار وقته، ويراه أهمّ رأسمال ينبغي الحفاظ عليه والاستفادة منه، لتطويره ورفع مستواه في كافّة الميادين الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والرياضية، وفي الميادين العملية، ومن المسؤولية أن يشارك المجتمع، كلّ المجتمع، بهذه النشاطات وأن يعزِّزها.

وهنا لابدّ أن ننوّه بكلّ الجهود التي تبذل من قبل أفراد ومؤسّسات وجمعيات وجهات من أجل إقامة دورات ثقافية ودينية ومهنية ورياضية وترفيهية، لتساهم في استثمار أوقاتنا وأوقات أجيالنا في الاتجاه الصحيح، ونريدها أن تشمل كلّ فئات المجتمع وتنوّعات أعماره.

إنّ أكبر خسارة، عندما يقف الإنسان بين يدي الله يتحسّر على أيّام خلت فرَّط هو بها، وقد كان الإمام عليّ (ع) يقول عنها: «فيا لها حسرةً على كلّ ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجّة، وأن تؤدِّيه أيّامه إلى الشقوة».

وفي ذلك قوله سبحانه: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر/ 37).

ولذلك، فلندعُ الله سبحانه: «واجعلْني ممّن أطَلتَ عُمرَهُ، وحَسَّنْتَ عَملَهُ، وأتمَمْتَ عليه نِعمتَك، ورَضيتَ عنه وأحيَيتَهُ حياةً طيِّبةً في أدوَمِ السرورِ، وأسبَغِ الكرامةِ، وأتَمِّ العيشِ».►

ارسال التعليق

Top