• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مدرسة رمضان التربوية

أ. السيد منذر الحكيم

مدرسة رمضان التربوية

1-    حاجة الإنسان إلى التربية المستمرة:

قال الله تعالى – مبيّناً فلسفة الحياة –: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك/ 1-2).

وقال تعالى عن فلسفة خلق الإنسان: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 1-3).

وقال في أوّل سورة أنزلت على النبيّ (ص): (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق/ 1-8).

وق أكّدت هذه المقاطع الثلاثة على أنّ الإنسان:

أوّلاً: هو كائن مخلوق لهدف كبير وقد عبّر عنه بالابتلاء (ليبلوكم، نبتليه).

ثانياً: إنّه قد زُوّد لبلوغ هذا الهدف العظيم بكل الإمكانيات اللازمة لبلوغه الهدف.

ثالثاً: إنّ مسيرة الإنسان التي من خلالها يبلغ الهدف مسيرة علمية عملية، تتكئ على مصادر المعرفة الكافية وأدواتها اللازمة لهذا الكائن فهو ينطلق من كونه سميعاً بصيراً ليهتدي إلى السبيل الصحيح الذي يجتازه الإنسان بالعمل الصالح والكدح المستمر والتجربة المستمرة المستندة إلى شريعة سمحة وبرنامج كامل يتناسب مع سمو أهداف الإنسان وعظمة تطلعاته وحجم طاقاته (ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً)، فلا يُكتفى بحسن العمل بل يُراد له الأحسن من العمل المستمر.

رابعاً: إنّ الذي يضمن للإنسان مسيرته الآمنة التي تبلغ به الأهداف الكبرى من وجوده وحياته هي شعوره بالحاجة المطلقة إلى الله (الكامل المطلق) الذي يستطيع إشباع حاجاته وتطلّعاته. إنّ الكائن الصغير في جسمه والكبير في عقله وروحه وقابلياته كما ورد عن أمير المؤمنين (ع) قوله في هذا الصدد:

"أتزعم أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".

 

2-    انتكاسة الإنسان وأسبابها:

ويكبو الإنسان متى ما نأى عن هذا (المطلق) القادر وحده على اشباع وتلبية تطلّعاته، فإنّ الإنسان هو نفحة من نفحات هذا المطلق الذي لا كامل سواه ولا مثل أعلى منه للإنسان، كما صرّح القرآن بهذه الحقيقة قائلاً عن لسان الخالق للإنسان: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر/ 19). فالتعلق بالخالق المطلق هو كينونة الإنسان وهويّته وعنصر لا ينفصل عن حقيقته.

ومن هنا كان شعور الإنسان بالاستغناء عن هذا المطلق هو أوّل فخٍّ يقع فيه وهو أعمق سبب من أسباب السقوط في الهاوية، وأوّل وأهمّ عامل من عوامل الانتكاس في وحل الحيوانية والمادية المحدودة، التي أراد الله أن ينتشل منها ليبلغ الآفاق الواسعة من الكمال اللامحدود قال الله تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (النجم/ 42).

ولا يكون ذلك إلّا بالرجوع إلى هذا المطلق الوحيد الذي يستحق أن يكون هو المثل الأعلى للإنسان ومنتهى طموحه وغاية تطلعاته.

قال تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى).

ومن هنا نقف على سرّ قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) الذي لا يباريه أحد في مستوى طموحه فيتخذه أعلى مثل في الحياة قدوة وهدفاً وغاية حين قال: "إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".

 

3-    التربية والتزكية هي سبيل الفلاح الوحيد:

ولبلوغ هذا الهدف والوصول إلى المثل الأعلى الذي لابدّ للإنسان الواعي من اختياره والاعتقاد به وبضرورة التوجه إليه، لابدّ من تربية سليمة تستند إلى منهج صحيح يتناسب مع حاجات الإنسان وتطلّعاته وواقعه ليخرجه من ماهو فيه من ظلمات الوهم إلى نور العلم والفهم لما ينبغي الوصول إليه من أهداف سامية ومثل عُليا واقعية منتظرة.

قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10).

وقال أيضاً: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى/ 14-17).

والتزكية هي التنمية الصحيحة للإنسان وتنشيطه باتجاه الأهداف المنظورة، وهي التربية في مصطلحنا المعاصر، وهي بحاجة إلى منهج تربوي سليم وكامل.

 

4-    العبادة والتربية:

ان الخضوع التام للبرنامج الرباني المعدّ لتربية الإنسان خضوعاً وانصياعاً يستند إلى الحب والوله بالله هو ما نسمّيه بالعبادة له لأنّه يرتكز على الخضوع المطلق لله (الكامل المطلق) والربّ الذي اتّسعت ربوبيته لكل شيء ولكل مجالات الحياة؛ وبذلك أصبحت العبادة هي المنهج والصراط المستقيم والطريق الوحيد لبلوغ الإنسان أهدافه المنشودة التي لا تتحقق إلا عبر العمل الصالح والتجربة الصحيحة لما ينبغي تجربته، ولما ينبغي تحقيقه في مختلف مجالات الحياة.

قال تعالى: (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس/ 61).

وقال أيضاً: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56).

وقال أيضاً: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك/ 2).

والعبادة والابتلاء والعمل الصالح وجوه شتى لهدف واحد. إذ العبادة هي الوجه الآخر للعمل الأحسن والسلوك الأجدر بالإنسان في هذه الحياة فهي هدف منشود للحياة، وهي طريق موصل إلى المطلق حين تربط الإنسان برباط الحبّ والهيام والذوبان في المطلق، كما ورد في الحديث المعروف: "عبدي أطعني حتى أجعلك مثلي أقول للشيء كن فيكون تقول للشيء كن فيكون".

وتتبلور هذه العبادة للمثل الأعلى وتتجلّى في أحسن الأعمال وأسماها وتثمر الوصول إلى أعلى الصفات وأسناها قال تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى) (الرّوم/ 27)، وقال: (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) (الأعراف/ 180).

 

5-    فلسفة العبادة في الإسلام:

تعتبر العبادات في الشريعة الإسلامية أحد الخطوط الثابتة فيها التي لا تتغير بطريقة الحياة العامة وظروف التطور المدني؛ ومن هنا فهي تعالج حاجة ثابتة في حياة الإنسان.

وهذا الثبات والحاجة باعتبار أنّ العبادة تعبّر عن علاقة بين الإنسان وربّه وهي علاقة ثابتة ومستمرة وفطرية. هذه الحاجة تعبّر عن أمور ثلاثة:

أوّلاً: أنّ الإنسان بحاجة إلى الانتماء إلى الله تعالى المطلق في الكمال ليستمر في مسيرته التصاعدية؛ ولئلا يتعرض للضياع في حالة عدم الانتماء، أو يتعرض إلى الجمود والركود والسقوط في مستنقع الوثنية والغلو عندما يحوّل الولاءات النسبية الضيقة في حياته إلى مطلقات ينتمي إليها فيتوقف عندها في حركته.

والعبادة هي تعبير عملي موجّه عن هذا الانتماء إلى المطلق، ينمّي في الإنسان إيمانه بالله تعالى من خلال ممارسة العبادة التي تؤكد مضمون هذا الانتماء، وفي الوقت نفسه يؤكد رفض المطلقات والآلهة الأخرى.

ثانياً: أنّ الإنسان في مسيرته العملية (الاجتماعية) بحاجة إلى أن يقوم بأعمال من أجل الجماعة والمصلحة العامة، كما يقوم أحياناً بأعمال من أجل مصلحته الخاصة؛ ولا شك أنّ الدافع الذاتي للقيام بالعمل من النوع الثاني منه متحقق من خلال الفائدة التي يحصل عليها الإنسان، بخلاف النوع الأوّل حيث قد لا يتناسب الجهد الذي يبذله الإنسان في تحقيق هذا النوع مع ما يصله من منفعة محدودة ضمن الجماعة؛ بل قد يكون العمل من أجل المصلحة العامة على حساب مصلحته الخاصة.

وهنا يأتي دور العبادة التي تربي الإنسان على أن يقوم بالأعمال من أجل الله تعالى وفي سبيله، فيكون لها دور مهم في تربية الإنسان على أن يقوم بالأعمال من أجل المصالح العامة ويتجاوز ذاته ومنافعه الخاصة فيها؛ وذلك من خلال هذا الارتباط بالله تعالى.

وثالثاً: أنّ المجتمع الإنساني بحاجة دائماً إلى وجود ضمانات يلتزم الأفراد في ظلها بتطبيق النظام الذي يحكم المجتمع؛ حيث نلاحظ أنّ النظام الاجتماعي – مهما كان شكله – حاجة ثابتة في المجتمعات الإنسانية.

وهذا الضمان تارة يكون هو العقوبات المادية والمعنوية التي يضعها المجتمع للمخالفين للنظام، وأخرى يكون هو الشعور الداخلي بالمسؤولية أمام النظام والقانون، ولا شكّ أن نظام العقوبات محدود الفاعلية لأنّه لا يمكن أن يلاحق الفرد في جميع حركاته وسكناته، بخلاف الإحساس الداخلي بالمسؤولية.

وهنا يأتي دور العبادة في تنمية الشعور بالمسؤولية؛ لأنّها تنمّي الارتباط بالله تعالى والشعور برقابته التي لا يعزب عنها مثقال ذرة في السماوات والأرض.

 

6-    خصائص وملامح العبادة في الإسلام:

أ‌)       الشمولية: حيث نلاحظ أنّ العبادة جاءت في الإسلام شاملة لجميع مناحي الحياة الإنسانية الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل دعا الإسلام أن يكون جميع سلوك الإنسان عبادياً حتى في المأكل والمشرب واللذات والشهوات التي يحبها ويهواها الإنسان، وفتح الباب أمام قصد القربة إلى الله وتأكيد الارتباط به في جميع أفعال الإنسان ونشاطاته.

ب‌) الغيبية: حيث نلاحظ انّ الأعمال والنشاطات العبادية عامة وإن كان لها تفسير منظور ومشهد نفسي وروحي أو مادي خارجي أو اجتماعي عام. ويشهد بذل في بعض الأحيان التقدم العلمي بل نلاحظ أيضاً أنّ العلم كلما تقدم فتح الآفاق الجديدة حول فهم هذا الجانب من العبادة.

ولكن بالرغم من ذلك كله نلاحظ في العبادات (الشعائرية) مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها جانباً من الغيبية في السلوك العبادي الذي لا يمكن تفسيره إلّا على أساس أنّ الهدف منه هو تأكيد الارتباط بالغيب وتصعيد الإيمان به لدى الإنسان، فعدد الركعات مثلاً في الصلوات، وهكذا بعض أعمال الحج من الطواف والسعي وغيرهما، نجد فيه هذه الجوانب إذ لا يمكن تفسيرها إلّا على أساس التعبّد بالأوامر الإلهية.

ت‌) الحسية: ومضافاً إلى الغيبية نلاحظ الحسية في العبادات الإسلامية؛ باعتبار أنّ الإنسان مركب من روح ومادة وفيه جانب غيبي وجانب حسي، ومن أجل انسجام العبادة في ممارساتها مع هذين الجانبين تجد أنّ الإسلام كما أكّد النية والخلوص من ناحية والاقبال على الله تعالى في العبادة والتعبّد بأوامره والطاعة له من ناحية أخرى حيث يعبران عن الجانب الروحي في الإنسان، كذلك أكد على الجوانب الحسية في الممارسة كما نلاحظ ذلك في الصلاة والحج من خلال الاستقبال والقيام والركوع والسجود والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وفي غير الصلاة والحج من الواجبات والمستحبات.

وبذلك كان الإسلام ديناً وسطاً على خلاف الاتجاهين الآخرين المتطرّفين، اللذين يُلغي أحدهما جميع التجسيدات الحسية للعبادة ويفترضها حالة روحية ونفسية محضة، ويحوّل الاتجاه الآخر العبادة إلى مجرد ممارسة حسية خارجية بعيدة عن المضمون والمدلول الروحي والقصدي فتتحول إلى حالة وثنية.

ث‌) الاجتماعية: ومضافاً إلى ذلك كله نجد في كثير من العبادات الجانب الاجتماعي الذي يراد منه ترسيخ وتوثيق الروابط بين أبناء المجتمع الإنساني نفسه؛ فالهدف الأساس للعبادة وإن كان هو توثيق العلاقة بالله تعالى – كما ذكرنا – فإنّ هذا البعد الاجتماعي يعتبر هدفاً ثانوياً – ولكن مهماً – في بعض العبادات أيضاً، كما نلاحظ في الحج وصلاة الجماعة وصلاة الجمعة والعيدين والجهاد في سبيل الله فضلاً عن الزكاة وغيرها.

 

7-    نظام العبادات في الإسلام:

إنّ كلّ عمل صالح يجعله الإنسان لله تعالى يعتبر عبادة مقرّبة له.

ولكن هناك أعمال خاصة يعبّر فيها المسلم عن صلته بالله تعالى ولابدّ له أن ينطلق فيها من نيّة التقرّب إلى الله كالصلاة والدعاء والصوم والانفاق والحج، ولا تُقبل منه هذه الأعمال العباديّة إلّا بنية القربة، وقد اصطلح عليها بالعبادات في قبال المعاملات والايقاعات. وقد جعلها الله في صيغ خاصّة لكي تحقق أهداف العبادات للإنسان وتنظّم سلوكه الفردي والاجتماعي وهي صيغ توقيفية ذات نظام دقيق وأحكام خاصة تحفظ للإنسان المسلم هويّته وتحقق له حاجاته الحقيقية المتنوّعة في مجال الارتباط بالله تعالى.

ويمكن تقسيمها إلى عبادات مؤقتة وعبادات غير مؤقتة.

كما يمكن تقسيمها إلى عبادات فردية وعبادات اجتماعية.

وكذلك تقسّم إلى عبادات واجبة وعبادات مندوبة.

والعبادات المؤقتة تنقسم إلى يومية وأسبوعية وشهرية وسنوية.

وهذا الاستيعاب لا يعني ضرورة الانشغال بها بحيث يترك الإنسان كسبه ومعيشته بل يراد منها أن يحوّل الإنسان كل أوقاته إلى الارتباط بالله ضمن منهج يعيّن فيه الأولويات ويحفظ له التنوّع ويعطيه الحيوية ويضخّ النشاط.

 

المصدر: مجلة رسالة التقريب

ارسال التعليق

Top