- العبادة لغةً:
معنى العبادة في اللغة الطاعةُ مع الخُضُوع، ومنه طريقٌ مُعَبَّدٌ إذا كان مذلّلاً بكثرة الوطءِ. فالعبادة لغةً بمعنى التمهيد والتذليل. ويُقال عَبَّدت فلاناً أي ذلَّلته وإذا اتّخذته عبداً قال تعالى: (أَنْ عَبَّدتَ بَنِي إسرَائِيلَ) (الشُّعراء/ 22). وقال الزمخشري: العبادة: "أقصى غاية الخضوع والتذلُّل، ولذلك لم تُستعمل إلّا في الخضوع لله تعالى لأنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع".
- العبادة إصطلاحاً:
العبادة بحسب الإصطلاح هي المواظبة على فعل المأمور به، والفاعل عابد، والجمع عباد وعبدة مثل كافر وكفار وكفرة، ثمّ استعمل العابد فيمن اتّخذ إلهاً غير الله، فقيل عابد الوطن وعابد الشمس.
- العبادة شرعاً:
لقد أخذت العبادة معنى أضيق في الفقه الإسلامي، وهي تعني في مفهوم الفقه أي بالمصطلح الخاص مجموعة شعائر يقوم بها العبد، مثل الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس... وغيرها من الأحكام والتكاليف الشرعية. فالعبادة من الناحية الشرعية تعني إمتثال أمر الله كما أمر، والإنتهاء عمّا نهى عنه شرعاً.
- اعبدوا ربّكم:
دعا القرآن الكريم في كثير من آياته إلى العبادة السليمة، ونهى عن العبادة المنحرفة، وذكر أنّ غاية الخلق هي العبادة، وذكر بعض آثار العبادة على الإنسان، وهنا نورد بعض هذه الآيات: (يا أّيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلَقَكُم وَالّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) (البقرة/ 21). ففي هذه الآية الكريمة نجد دعوة للناس إلى عبادة الله تعالى الذي خلق جميع الناس.
وفي آية أخرى نجد نهياً عن عبادة الشيطان: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيكُم يا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُستَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعقِلُونَ) (يس/ 60 – 62).
وكذلك نجد أمراً بالإخلاص في العبادة في الآية الكريمة: (قُلْ إِنِّي أُمِرتُ أَنْ أَعبُدَ اللهَ مُخلِصاَ لَهُ الدِّينَ) (الزُّمر/ 11).
ونرى في آية أخرى دعوةً للمؤمنين لإعلان الثبات على عبادة الله وترك عبادة ما سواه: (قُلْ يا أَيُّها الكافِرُونَ * لا أَعبُدُ مَا تَعبُدُونَ) (الكافرون/ 1 – 2).
- العبادة في الروايات الشريفة:
حدَّدت النصوص الشريفة مفهوم العبادة تحديداً شاملاً، وذكرت الغاية من العبادة، وأنواع العابدين، ومَن هو العابد حقّاً، ولم تحصرها في إطار العبادات المتعارفة بين الناس. وإليكم النماذج التالية:
- عن رسول الله (ص): "أفضل الناس مَن عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يُبالي على ما أصبح من الدنيا على عُسرٍ أم على يُسرٍ".
- وسُئِلَ الإمام الرضا (ع) عن علّة العبادة، فقال: "... لئلّا يكونوا ناسين لذكره، ولا تاركين لأدبه، ولا لاهين عن أمره ونهيه، إذا كان فيه صلاحهم وقوامهم، فلو تُركوا بغير تعبُّدٍ لطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم".
- وعن الإمام الصادق (ع): "ليس العبادة هي السجود ولا الركوع، إنّما هي طاعة الرجال، مَن أطاع المخلوق في معصية الخالق، فقد عبده".
- وعنه (ع) قال: "في التوراة مكتوب: يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى".
- وقد ورد عن رسول الله (ص): "العبادة سبعة أجزاء، أفضلها طلب الحلال".
- وعن الإمام الباقر (ع): "أفضل العبادة عفّة البطن والفرج".
- وعن الإمام الصادق (ع): "أفضل العبادة العلم بالله، والتواضع له".
- وعن الإمام علي بن موسى الرضا (ع): "ليس العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنما العبادة كثرة التفكُّر في أمر الله".
- العبادة لا تنحصر بالطقوس:
العبادة في الحقيقة إسمٌ جامعٌ لكلّ ما يُحبّه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي تتضمّن غاية الذلّ لله تعالى مع المحبّة له. وهذا المدلول الشامل للعبادة في الإسلام هو مضمون دعوة الرُّسُل (عليهم السلام) جميعاً، وهو ثابتٌ من ثوابت رسالاتهم عبر التاريخ، فما من نبيٌّ إلّا أمر قومه بالعبادة، قال الله تعالى: (وَما أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعبُدُونِ) (الأنبياء/ 25).
وعبادة الله تعالى لا تنحصر في الطقوس والممارسات التي تتعلّق بحياة الإنسان كفردٍ مستقلٍّ بذاته، بل هي تشمل الحياة الفردية والحياة الإجتماعية، وتنتظم في إطار علاقة الفرد مع الله تعالى والعلاقة مع النفس، والعلاقة مع الآخرين، والعلاقة مع الكون. وكلّ عملٍ حسنٍ يُقصد به وجه الله تعالى فهو عبادة لله تعالى سواء كان فردياً أم إجتماعياً. فالصلاة، والصدقة، والجهاد، والتفكُّر في خلق الله، ومساعدة الضعيف، وإصلاح الفاسد، وأداء الأمانة، والعدل بين الناس، ورفض الظلم، وعدم شرب الخمر، ومقاطعة الرِّبا والإحتكار كلّ تلك الأعمال هي عبادة مادام الداعي إلى فعلها، أو تركها، هو الإستجابة لأمر الله تعالى.
- العبادة غاية الخلق:
تُكمن أهميّة العبادة في كونها طريق الوصول إلى الله سبحانه، فهي غاية خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض: (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونَ) (الذاريات/ 56).
فالعبادة في الإسلام منهج متكامل المراحل والفصول، وطريق واضح المعالم. وغرضه تحقيق الكمال البشري: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأتِيكَ اليَقِينُ) (الحجر/ 99)، وتنقية الوجود الإنساني من الشوائب والإنحرافات، تمهيداً للفوز بقُرب الله وتأسيساً لتحقيق رضوانه.
فعبادات الإسلام جاءت جميعها تزكيةً للنفس والبدن، وتطهيراً للذات، وتنمية للروح والإرادة، وتصحيحاً لنشاط الجسد والغريزة. فهي بمثابة معراجٌ تتدرّج به النفس البشرية، مرحلةً بعد مرحلة، حتى يتمّ لها الصفاء والنقاء، فتستطيع الإطلال على عالم الآخرة، واستشفاف حقيقة الوجود، والتعالي على مكاسب الحياة الفانية، لسموّ مقام الآخرة وعلوّ غاياتها، وارتباطها بعالم الخلود والنعيم الأبدي.
فقد جعل الإسلام الصلاة تنزيهاً للإنسان من الكبرياء والتعالي، وغرساً لفضيلة التواضع والحبّ للآخرين.. ولقاءً مع الله للإستغفار والإستقالة من الذنوب والآثام، وشحذاً لهمّة النفس وقيادتها في طريق التسامي والصعود. والصوم ترويضاً للجسد، وتقوية للإرادة من أجل رفض الخضوع للشهوات، والسقوط تحت وطأة الإندفاعات الحسّية.
والدُّعاء تنمية لقوّة الإحساس الروحي، وتوثيقٌ للصلة الدائمة بالله والارتباط به والاعتماد عليه، ليحصل الإستغناء الذاتي بالله عمّن سواه، فيلجأ إليه المؤمن في محنه وشدائده... وعند إساءته ومعصيته... وهو واثق أنّه يُقبِل على ربٍّ رؤوفٍ رحيم، يمدّه بالعون ويقبل منه التوبة، فتطمئن نفسه، وتزداد ثقته بقدرته على مواصلة حياة الصلاح، وتجاوز المحن والشدائد.
ومما يُعزِّز أهميّة العبادة في الإسلام أنها ذات منهاج فطري له طبيعة إجتماعية حركية، لا يؤمن بالفصل بين الدنيا والآخرة، فهو لا يدعو إلى محاربة المطالب الجسدية، من الطعام، والشراب، والزواج، والراحة، والإستمتاع بالطيِّبات ولا يرى فيها عائقاً يُعرقل تنامي الأخلاق وتكامل الروح، بل يؤمن بأنّ هدف الجسد والروح من حيث التكوين الفطري هدف واحد، ومنهاج تنظيمها وتكاملها منهاج واحد.
- ثمرة العبادة:
لأنّ دين الإسلام هو دين شامل يُراعي جميع أبعاد الوجود البشري، فإنّ للعبادة في الإسلام آثارها وفوائدها على الصعيدين الفردي والإجتماعي.
تؤثِّر العبادة على بناء الشخصية الإنسانية، والإرتقاء بها إلى المستوى التكاملي، وتخليصها من كلّ المعوّقات التي تمنع رقيّها، وتكاملها من الأنانية والحقد والرِّياء والنفاق والجشع و... إلخ. فالعبادة تعمل على تطهير الذات الإنسانية من مختلف الأمراض النفسية والأخلاقية. وتُسهم في أن يكون المحتوى الداخلي للفرد مطابقاً للمظهر والسلوك الخارجي، وفي تحقيق انسجامٍ كاملٍ بين الشخصية وبين القيم والمبادئ السامية. كما تعمل على غرس حبّ الكمال والتسامي الذي يدفع الإنسان إلى التعالي، وتوجيه نظره إلى المثل الأعلى المتحقِّق في الكمالات الإلهية. لأنّ العبادة ممارسة إنسانية جادّة لإلغاء الأنانية إلغاءً تامّاً من وجود الإنسان من أجل التحرُّر من قيودها والخروج من سجنها الضيِّق الذي يشدّ الإنسان إليه ويستعبده. وكذلك فالعبادة تقوّي إرادة النفس؛ فمثلاً إنّ التنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد والانصراف إلى عبادة الحقّ المتعالي وكذلك الصوم في اليوم الحارّ الطويل، يزيدان من قوّة الروح فتتغلّب على قوى الجسم وتُسيطر على الشهوات وتُصبح هذه القوى تحت إمرة الروح وتوجيهها.
وقد بشّرت الروايات والنصوص الشرعية بما يجنيه العابد من ثمار:
- يُغني قلبه: عن الإمام الصادق (ع): "في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنىً ولا أكلك إلى طلبك، وعليَّ أن أسدّ فاقتك وأملأ قلبك خوفاً منِّي وإن لا تَفَرَّغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا ثمّ لا أسدّ فاقتك وأكلك إلى طلبك".
- يتنعّم في الآخرة: عن الإمام الصادق (ع)، قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي الصدِّيقين تنعّموا بعبادتي في الدنيا، فإنّكم تتنعَّمون بها في الآخرة".
- يُباهي الله به الملائكة: عن الرسول الأكرم (ص) أنّه قال: "إنّ الله تعالى يُباهي بالشابّ العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي ترك شهوته من أجلي".
- ينصره الله على الشيطان: عن الإمام الصادق (ع)، عن آبائه (ع)، قال: "قال رسول الله (ص) لأصحابه: ألا أُخبركم بشيء إنْ أنتم فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى. قال: الصوم يسوِّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والإستغفار يقطع وتينه ولكلّ شيء زكاة وزكاة الأبدان الصيام".
- يدخل الجنّة: عن أبي عبدالله (ع) قال: "ثلاثة يُدخلهم الله الجنّة بغير حساب: إمامٌ عادل، وتاجرٌ صدوق، وشيخٌ أفنى عمره في طاعة الله".
كما أنّ للعبادة أثراً تكاملياً على الذات، فللمجتمع حظّه من تلك الآثار التكاملية. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ) (العنكبوت/ 45).
والصوم يُشعر الإنسان بالوحدة والمساواة ومشاركة ذوي الحاجة والفقر بإحساسهم عند معاناة ألم العطش والجوع.. والحج مؤتمرٌ للوحدة والتفاهم والتعارف والإصلاح... إلخ. والكفّارات والنذور والصدقات والزكاة والخمس عبادات لإشباع الحاجات المادّية عند الفقراء، وتحقيق التوازن الإقتصادي في المجتمع.
وللعبادة آثار إجتماعية وأخلاقية مهمّة تنعكس على العلاقات الإنسانية المختلفة. فالعبادة والشعور بالعبودية لله وحده يُنقذ الإنسان من الخضوع لإرادة الطُّغاة والمستبدّين، والشعور بها يُحرِّر الإنسان كذلك من الشهوات ومن سيطرة حبّ المال وجمعه وتكديسه، وتسخير الآخرين وظلمهم واستغلالهم من أجل هذا المعبود الزائل. والشعور بالعبودية لله يُحرِّر الناس، من الصراعات والمآسي التي يعيشونها من أجل الإستعلاء والتحكُّم والمكاسب المختلفة.
والشعور بالعبودية لله يُشعر الإنسان بالمساواة والعدل بين الناس.. لأنّهم جميعاً متساوون في صفة العبودية لله الواحد الأحد، لذا فإنّ المجتمع الذي تسود فيه العبادة والعبودية لله لا يجد الناس فيه غاية في الحياة غير الله، ولا يملأ آفاق نفوسهم شيء غير العبودية لله. فيُحطِّم الناس حينذاك أصنام العبوديات المختلفة، صنم المال، والشهوة، والجاه، والسلطة، والكبرياء... إلخ، ليكونوا أحراراً كما خُلِقوا.. وكما أراد لهم خالقهم العظيم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق