• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لازلتُ أُحبُّكِ

يوسف شهير

لازلتُ أُحبُّكِ

 

جاء الدور عليه، فقد تعمد الوقوف في الطابور المتراص أمام شباك الصرف. فالذي يحمله للموظفة الجالسة خلف الشباك، جذوره ضاربة في الماضي لأكثر من ثلاثين عاماً. نظر إليها نظرة وَلَه، حوّله الشوق إلى كتلة من حنين، جعلته أقل وزناً، وأكثر لهفة على المواجهة. مدت له الموظفة يدها، ليعطيها معاملته، لكنه فاجأها بقول واثق ومرتب الكلمات، ومؤكّد بيقين الصدق كلّ حرف فيه، وكأنّه ممثل حفظ دوره عن ظهر قلب، ويجتهد بكل قدرته لكي يؤديه على أحسن ما يكون: -        لو سمحت.. حوّلي من حساب ثلاثين عاماً عندك في حساب عمري الضائع سدى يا زليخة.. ردت الموظفة بهدوء واستغراب، وبصوت خفيض مهذب: -        لم أفهم ما قلته.. واسمي ليس زليخة. فعاود الكلام بالثقة نفسها: -        أعرف أن اسمك ليس زليخة، وأن اسمك "دنيا" وأخرج من حقيبة صغيرة كانت معه صورة كالحة باهتة الملامح وكأنها أثر فرعوني، واستمر في كلامه، وهو يضعها أمامها: -        هذا هو المستند يا سيدتي.. هذا هو الدليل. ابتلع الاستغراب ملامح الموظفة، التي يقترب عمرها من نهاية العقد الرابع، وإن كانت تبدو بدينة بعض الشيء، لكن لها ملامح تفيض وداً ونقاءً وحبوراً، ولاتزال عيناها الخضراوان تشعان بريقاً آسراً، وشعرها المنساب بحرية على كتفيها، والحائر بين الذهبي والبني، قادر على التأثير في الحجر، وإلى ذلك، تتمتع بحيوية ونضارة ومرونة فتاة في العشرين من عمرها. بينما الرجل الواقف أمام الشباك، كان قد اشتعل رأسه شيباً، وهو في حوالي الستين من عمره.. كان ممشوق القامة كرمح، متناسق البدن كرياضي. سألته، وهي ممسكة بآخر أطراف هدوئها الزاحف في اتجاه النفاد. -        ما شأني بهذه الصورة؟ هنا بنك وليس استديو للتصوير. -        دققي في الصورة جيِّداً.. ألست العروس فيها؟ والذين من حولك، هم أهلك.. والذي بجانبك، ويمسك وكأنه يمسك بمفتاح النعيم، وهو في قمة السعادة والنشوى بإصبعك ليدخل خاتم الخطوبة هو... أشارت إليه بالتوقف، فقد انضم في هذه اللحظة إلى الطابور المنفرد بعض العملاء، ما منح الحوار بعداً غير مرغوب فيه، وبدا، على أقل تقدير، مضيعة للوقت، وربما تحول إلى حوار هزلي ممقوت وممل، فاضطرت إلى استدعاء أحد زملائها ليقوم بعملها، وانتفضت وهي ممسكة بالصورة، تلوِّح له من خلف الشبابيك الزجاجية. وهو بناء على تلك الإشارات، يمر من بين الطوابير الواقفة في صالة البنك أمام الشبابيك، وما إن بلغ الباب الإلكتروني الفاصل بين الصالة التي يتجمع فيها الجمهور، ومكاتب إدارة البنك، حتى اعترضه حارس الأمن، لكنها طلبت من الحارس أن يتركه يمر، فتركه. في غرفة الاستراحة الخاصة بصفوة العملاء، جلسا على كنبة مكسوة بالجلد، فسألته، وكانت ممسكة بالصورة بطريقة عصبية: -        ما الذي عندك بالتحديد وباختصار شديد، فوقتي ليس ملكي؟ -        لكأنك لم تعرفي، للآن، من الجالس إلى جانبك في الصورة؟ -        بل أعرفه عز المعرفة.. إنّه الشخص الوحيد في هذا العالم الذي فتحت له قلبي، وأحببته كل الحب. لكنه سافر إلى بلد بعيد ليعدّ لنا بيتاً، ولم يعد حتى الآن، حتى ظننت أنّه مات.. والآن يجلس أمامي شخص يشبهه إلى حد كبير جدّاً جاء ليضع على جراح، ضمدها الزمن، ملح عتاب، ولهيب وجع، ولظى لوم وندم المغدورين من الدنيا والناس جميعاً، وينعتني بـ"زليخة" في اتهام صريح لي بأنني بعد أن راودته عن نفسه، كنت سبباً في دخوله سجن اللوعة والبعاد، وعذاب الحرمان، وأشياء من هذا القبيل، حسب القصة المعروفة. قاطعها مثبتاً اتهاماً، ومضيفاً إليه آخر: -        أنت لم تراوديني عن نفسي.. بل راودتني عن حياتي كلها.. وليتك نهجت نهج زليخة في عشقها النبيل، التي حافظت على حبها بكل قواها حتى آخر لحظة من عمرها. أما أنتِ فلم تبقي على حبي.. لقد تركت من أجلك كل شيء. حتى أهلي تركتهم، كل ذنبي أنني تأخرت عن موعد عودتي رغماً عني، وكتبت لك عن كل شيء، لكنك لم تكلفي خاطرك الرد ولا على أي رسالة بحرف واحد. -        وما حدث لك، وكان رغماً عنك، حدث لي مثله، وكان أيضاً رغماً عني، ولا تنس أنني الأضعف، فهل ما هو حلال لك، حرام عليّ؟ أنت تعرف أن والدي كان يتاجر في المحاصيل الزراعية الحولية، وخاصة الحبوب البقولية. وكان يستأجر مساحات كبيرة من الأراضي، وكان يقترض لهذا الغرض مبالغ كبيرة من البنك. قاطعها متهكماً: -        الباقي أعرفه، كما يعرفه الكثير غيري من الأفلام والمسلسلات الهابطة.. فقد انهار المحصول، أكلته دودة القطن، أو لفحة العفن الأسود، وأصبح والدك، بذلك، مديناً للبنك، ومهدَّداً بدخول السجن، فساومه مدير البنك الذي كان صديق والدك، وكان دائم الحضور إلى بيتكم والسهر معه حتى الفجر كل ليلة.. ساومه إما أن يتزوجك ويساعده على جدولة ديونه، وإما السجن؟ -        هذا ما حدث فعلاً، وبعد زواجنا عينني في البنك، ليدخل راتبي في شريحة سداد الدين. سكتت برهة، ثمّ عاودت الكلام قائلة: -        كنتُ الزوجة الثانية، واستمر زواجنا عشرين عاماً، فقد تفي فجأة إثر نوبة قلبية، تاركاً لي ولداً، وبنتين. -        نادت العامل ليُحضر لهما مشروباً، وفي الوقت نفسه يستدعي ابنها من مكتبه، ثمّ عادت إلى الحديث قائلة: -        كان ابني، وهو أكبر أولادي، وقت وفاة والده، في السنة الثانية في كلية التجارة، وفور تخرجه، عينته إدارة البنك تكريماً لأبيه الذي أفنى عمره في خدمته. عندما حضر الابن المتأنق المتألق، كان يرتدي حُلة متناسقة الألوان، ويفوح شباباً ونضارة ورشاقة ورغبة في الحياة، قدمته لضيفها بقولها: -        هذا ابني الطيب، وهو بالفعل إنسان طيب، اسم على مسمى. وعندما التفتت إلى ابنها لتقدم ضيفها له، سارع الابن الوسيم اللبق بقوله: -        أنا أعرف الأستاذ أحمد الطيب، الشاعر والأديب الكبير، والذي يلقبه جمهور الأدب بـ"المتنبي الجديد".. ولحسن حظي أن اسمي على اسمه، لذلك حتى يكتمل الاسم عندي، سميت ابني "أحمد".. أرجو أن تكون ضيفنا اليوم. اسمحوا لي بالعودة إلى عملي، فأنا مشغول جدّاً. (وانصرف). إن ما سمعه من الابن أعاده إلى حياة كان قد سلم تمام التسليم بأنّها تركته وبأنّه فقدها إلى الأبد. عادت لتقول لضيفها: -        ألا ترى أنّه يشبهك إلى حد كبير؟ طريقة لبسه، وانتقاؤه الألوان، وحبه للشِّعر، ولك.. حتى عواطف الطيبة النقية الخالصة نفسها. فهو للآن يزور زوجة أبيه، فهي "عاقر" ووحيدة، وكسيرة القلب. مرت لحظة صمت، بعدها عادت لتقول: -        أتذكر أوّل مرة تقابلنا فيها مصادفة في الحافلة؟ كنت ترتدي رداءً أنيقاً، وتبدو وسيماً ولائقاً.. حتى ملامحه تشبه إلى حد كبير ملامحك. لعلي من شدة حبي لك، قد انطبعت صورتك على جيناتي الوراثية، وكذلك صفاتك، فانتقلت إلى أولادي. البنتان صورة طبق الأصل من الطيب الذي سميته على اسم والدك رحمة الله عليه، فقد كنت أحبه كوالدي تماماً، والبنت الأولى سميتها على اسم والدتي رحمة الله عليها، والثانية سميتها على اسم أختك، والبنتان في التعليم، الأولى في كلية الآداب، والثانية في التعليم الثانوي. غرق في صمت سحيق، وملامحه بين مدٍّ وجزر، في يمِّ العبوس والتجهم والوجوم، فانتشلته قائلة: -        وماذا عنك.. عن أحوالك.. وما فعلته الدنيا بك؟ -        الحمد لله على كل حال. سكت ليستجمع أفكاره المبعثرة في هشيم الذكريات، ويختار من أين يبدأ الحكاية: -        عندما عدت من سفري بعد خمس سنوات غربة، وعلمت بخبر زواجك، لم أحاول قط معرفة أي تفاصيل، وقررت العودة فوراً، وإغلاق هذه الصفحة للأبد، فقط نزل الخبر على نفسي نزول الصاعقة، فأفقدني كل قدرة على التفكير، مجرد التفكير. هناك تزوجت بفتاة كانت زميلتي في العمل، وكانت جميلة جدّاً، لكن حبك لم يترك لي فرصة لرؤية أي جميل سواك، وكانت تتمتع بأخلاق قويمة، وروح طيبة، وكانت مثالية بمعنى الكلمة.. هذه الصفات رجحتها لأن تكون زوجة، وعندما فاتحتها في هذا الأمر، صارحتني بأنّها كانت تحبني منذ أوّل مرة رأتني فيها. تزوجنا، وأنجبنا ولدين وبنتين، وعشنا معاً طوال مدة عشرة أعوام، لم نختلف فيها ولا مرة على أي شيء.. كانت دائماً تتنازل لي، وتتواضع بشكل أجبرني على احترامها والإخلاص لها، وهي تحاول بكل طاقاتها إسعادي، وتوفير جوٍّ أسري بهيج لي ولأولادي، فقط كانت تتمتع بخفة ظل لا مثيل لها.. كانت (بنت نكتة)، لها على كل تصرف تعليق، وبعد كل قول (قفشة). في ليلة الاحتفال بذكرى زواجنا، ذهبتُ، كالعادة، لأجهز مكان الاحتفال في أحد الفنادق، وانتظرت أسرتي كما تعودنا في كل عام، لكنها في هذا العام لم تحضر، وانتظرت طويلاً، ولم تحضر، ولم أجدهم في أي مكان، وكأنّ الأرض قد انشقت وابتلعتهم. بحثت عنهم في كل مكان، فلم أعثر لهم على أثر، وكان لأحد زملائي قريب في الأمن العام، لجأنا إليه. ومع البحث وجدنا أنهم لم يغادروا عن طريق أي منفذ، فظلت الوساوس تطاردني وتقض مضجعي، وكدت أفقد عقلي من كثرة التفكير، وانهالت عليّ جبال الظنون، حتى جاءتني ذات يوم دعوة من إسرائيل بخطِّ زوجتي، تدعوني فيها للذهاب إلى إسرائيل لرؤية أولادي. أصابتني تلك المفاجأة الصاعقة بحالة هوس هستيري، وفقدان للقدرة على التصرف. أخذني زميلي إلى قريبه في الأمن العام، فأشار عليّ باللجوء إلى القضاء، وكانت المفاجأة الأقوى أنّ الدعوة، بالطبع، كانت مزورة، إذن لا شك عندي في أن أولادي أصبحوا في حضن اليهود. لم أشك ولا للحظة في أن زوجتي يهودية.. لم يلفت انتباهي ولا تصرف واحد إلى هذا الأمر، حتى عندما كانت تطلب مني أن أحدثها عن نفسي وعن أهلي، كانت تطلب هذا الشيء بطريقة، على الأقل من ناحيتي أنا، طبيعية جدّاً. أعترف بأنّها كانت أمهر من أن أكتشفها، ولما عدت قررت اللجوء مرة أخرى إلى القضاء، لعلّ قضاء بلادي ينصفني هذه المرة. توقف عن الكلام، وقد طمعه الحزن، فواسته قائلة: -        لا تنس أن كل ما مرَّ بنا، قدّره الله تقديراً. -        ونعم بالله العظيم. وفجأة، انتفض واقفاً، ماداً لها يداً مثلوجة كيد ميت، مستعداً للرحيل، ومستدعياً وجهاً نضب عنه كل معين للفرح منذ سنين، أشلاء بسمة مشهوَّهة مزورة مزيفة، لزوم الموقف، لكنها رفضت أن تغيث يده من الضياع في فراغ المدى، فتمد له كفاً تمنى لمسها منذ أن افترقا من حوالي ثلاثين عاماً، بدعوى أن إتمام المصافحة يعني النهاية النهاية، وهي تكره الوداع، وتحتفظ بطيف الأمل مهما يكن واهناً، ولو كان مستحيلاً. بينما هو استطاع تحويل مجرى دمعة كانت في طريقها إلى شاطئ عينيه، إلى حلقه، وابتلعها مُرّة مرارة الهوان والألم والحزن والبعاد، وانسحب في هدوء ببطء كجيش مهزوم يجرجر خزي هزيمته وعار نكسته، تعتمل في نفسه ذكريات وَداعهما قبل الفراق (الثلاثيني)، فقد تركت له يدها، يومها (لتنام كالعصفور بين يديه) والدموع تسمحُّ من عينيهما في نزيف بكائي مهيب، يبشر بفراق طويل، وقد صدقت بشراه. وفي طريق عودته، سمع صوت صراخ عجلات سيارة، وهي تتشبث بوجه الشارع الأسفلتي، لكنها كانت قد دَهست كلباً وكسرت ذراعه، أثناء محاولة مروره وبإصرار غريب إلى الجانب الآخر، ليلحق بأصحابه. نهض الكلب وهرول في اتجاههم وهو يعرج، ولما بلغهم هزّ ذيله في فرح عجيب، على الرغم من جراحه وآلامه. قال في نفسه بحرقة ولوعة وأسى، وهو يسري بين الناس - إيه يا دنيا.. على الرغم من كل شيء، لازلت أُحبك.

تعليقات

  • أحمــد

    قصة رائعة، هي جزء من الذات الانسانية، أو قطعة من عذابات العاطفة والإحساس المرهف الذي يتمتع به الكاتب الذي صارع الحياة فصرعته حينا وصرعها أحيانا... البطل بدا مهزوما وكأن شيئا ما يخفيه الكاتب فطفح على السطح..ربما..ربما النص يحتاج الى تعليق أكثر وبتعمق ...

ارسال التعليق

Top