• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف نسيطر على الإنفعالات؟

أ.د. عبدالكريم بكّار

كيف نسيطر على الإنفعالات؟
 ◄إنّنا حين نحاول السيطرة على إنفعالاتنا، نكون قد شرعنا في إستعادة التوازن بين العقلانية والعواطف. ومعنى هذا أنّ السيطرة على العواطف لا تعني كبتها، والتخلُّص منها، وإنّما إيقافها عند حدود معيّنة، بحيث لا تؤثِّر على المحاكمة العقلية والموقف العقلاني للشخص. ولعل مما يساعدنا على السيطرة على الإنفعال ما يلي:

أوّل خطوة على طريق السيطرة على الإنفعال، تتمثّل في الإعتراف به، وإدخاله في منطقة الوعي، إذ إنّنا كثيراً ما نكون غافلين عن إنفعالاتنا، وإنفعالات غيرنا، فالخوف والإحباط والغضب الشديد والحب الشديد، يمكن لكلِّ واحدٍ منها أن يُلم بنا في أي وقت، ويبدأ في التأثير في سلوكنا دون إدراك منّا لما يحدث. وربّما شاهد جليسي علامات الغضب أو الميل المبالغ فيه على حركاتي وأقوالي، وأنا غافل عنها تماماً. حين أمتدح كل شيء في حياة شخص ما، وأحاول أن أدافع عن جميع تصرفاته، وحين أحاول تفسير أخطائه تفسيراً يخالفني فيه من حولي.

فإنّ كلّ ذلك دليل على أنّ ميلي إليه، قد خرج عن حدّ المألوف، وبات عليَّ أن أعيد الأمر إلى نصابه. وفي المقابل، فإنِّي حين أشعر في موقف من المواقف بتقلصات في معدتي، أو أجد أنّ راحتيّ نديتان، أو أن عضلات فكي منقبضة، أو قمت بتجميع قبضتي، أو بت أقبض على الأشياء بإحكام، أو أرفع صوتي، وأتوسّع في مقاطعة محدثي.. فهذا دليل واضح على أن إنفعال الغضب، قد تملكني، وصار من الضروري عمل أي شيء للحد منه.

لنحاول في حالة طغيان نوع من الإنفعال تذكُّر الصور والمواقف والخصائص المضادة للحالة التي نحن فيها؛ ففي حالة الإنزعاج من مصيبة، حلَّت بأحدنا، فإنّ عليه أن يتذكّر مقدار ما متَّعه الله – تعالى – به من السلامة والعافية في الأيام الماضية، وأن يتذكّر أيضاً الشيء الكثير الذي بقي له بعدها: "إن أخذ فقد أبقى".

كما أنّ عليه أن يتذكّر المثوبة التي تنتظر الصابرين المحتسبين، والعواقب الحسنة التي يمكن أن تنتج عنها. في حالة الحب الشديد، يتذكّر الإنسان سلبيات مَن يميل إليه، ويكيل له المدائح.

وحين تسيطر على المرء مشاعر الإحباط واليأس والإخفاق، فعليه أن يتذكّر الأحداث السارة في حياته، والنجاحات التي حققها، وأن يقارن نفسه بمن دونه حتى يستشعر الخير الذي هو فيه. في حالة الحقد الشديد على شيء، أو التقزز منه، أو الإستخفاف به، فإنّ علينا أن نتذكّر ما عسى أن يكون له من ميزات وخصائص مشرقة وفضائل، وذلك حتى نوجد مشاعر جديدة، تخفف من حدّة المشاعر السلبية.

ويذكرون في هذا السياق أنّ عيسى (ع) مرَّ مع نفر من أصحابه على شاة ميتة، فجعلوا يتحدّثون عن قبح منظرها ونتن رائحتها، فقال لهم: "لم يذكر أحد منكم أن أسنانها شديدة البياض"! حين نبحث عن منظور جديد للأشياء، فإنّنا سنؤثِّر في إنفعالاتنا على نحو ما.

سيكون من المفيد في هذا الشأن أن نحاول الخروج من فلك الإنفعال بتغيير الوضعية، والحيلولة دون إنعكاسه على السلوك. في حالة الغضب – مثلاً – يطلب من الغضبان أن يصير إلى وضعية تحول بينه وبين الإنتقام، وقد ورد في الحديث الشريف: "إذا غضب أحدكم وهو قائم، فليجس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع".

ومن تغيير الوضعية أيضاً اللجوء إلى السكوت بإعتباره نوعاً من إيقاف الغضب عند حده، وفي الحديث: "إذا غضب أحدكم فليسكت" قالها ثلاثاً.

كما أنّ الوضوء والغسل، مما ينصح به في حالة الغضب كذلك، وقد ورد في الحديث: "إذا غضب أحدكم فليتوضّأ". ويمكن للغضبان أن يغادر المكان، أو يُغيِّر مجرى الحديث الذي أثار غضبه، وهكذا...

المعالجة العقلية ذات أثر جيِّد في السيطرة على الإنفعالات، فبعض ردود أفعالنا الإنفعالية ليس غريزياً، ولكنه عادات أخذناها عن أسرنا وأصدقائنا، حيث تعلّم الكثيرون منّا – عندما كانوا أطفالاً – أنّ الثورات الإنفعالية، توجّه إليهم الإنتباه، أو أنّها أسلوب مفهوم ومقبول للتعبير عن الغضب وخيبة الأمل. ولعلهم يحملون معهم إلى سن الرشد الإعتقاد الضمني بأنّهم يحصلون على ما يريدون إذا كانوا حادِّي المزاج، يصرخون، ويضربون الأرض بأرجلهم، ويَصفُقون الأبواب..

ويعتقد كثيرون أيضاً أن رفع الصوت والظهور بمظهر الضعف سيجعلهم يربحون قضيتهم مع خصومهم، وكأنّ الإنفعالات الحادة صارت وسيلة إبتزاز وقهر للحصول على أشياء غير مشروعة، لكن هؤلاء ينسون أنّ الإتكال على هذا الأسلوب، يجعل صاحبه يظهر بمظهر الضعيف والأحمق الذي لا ينبغي أن يلتفت إليه، كما أنّه على المدى الطويل، يفلقد قيمته في تغيير آراء الآخرين، وكسب عواطفهم. وقد يتسبب هذا الأسلوب في تحقيق بعض المكاسب الآنية، لكنه على المدى الطويل، يترك إنطباعات سيِّئة، لا تخدم مصالح صاحبه.

على المجتمع أن يحرم الذين تعودوا الإنفعال المصطنع من قطف ما يرمون إليه من ثمار وأن يتجاهل ذلك بغية الحد منه.

- لنشاور غيرنا في الموقف الذي ينبغي إتخاذه تجاه الأمر الذي سبَّب لنا إنفعالاً حاداً، إيجابياً كان أم سلبياً، فالكثير من الخطأ يكمن في هذه الحالة في التصرُّف المنفرد. وإذا تعوّد الإنسان أن يشاور غيره، فإنّه يربح من غير وجه، حيث إنّه قد نجح في تأخير إتخاذ قرار في حالة إنفعالية، مما يعني تأخير المواجهة، ومنح النفس فرصة جديدة. ثمّ إنّ المشاورة تجعلنا نرى الأشياء من زاوية جديدة، وذلك يجعل مواقفنا وقراراتنا أكثر حكمة وإتزاناً. وإعتياد المشاورة بعد هذا وذاك، يعني أنّنا نعطي الأُمور الصعبة ما تستحقه من الوقت والإهتمام، وفي ذلك خير كثير.

- عصرنا عصر الضغوط والمطالب المتزايدة، والجملة العصبية لدى كل واحد منّا لها في النهاية طاقة محدودة على التحمل، ولذا فإنّ المتوقع أن ترتفع وتيرة الإنفعالات المختلفة لدينا، وهذا يفرض علينا أن نتعلّم كيف نخفف عن أنفسنا الضغوط. والحقيقة أنّ ذلك يحتاج إلى نوع من إعادة البرمجة الشخصية، كما يتطلب أن نستخدم ما لدينا من خيال وإرادة في تحسين قدرتنا على المقاومة. ونحن بحاجة إلى جانب هذا إلى أن ندرِّب أنفسنا على الإسترخاء وإلى تخطيط أعمالنا بطريقة أكثر كفاءة، حتى نقلل من المفاجآت غير السارة، كما أنّنا محتاجون إلى المحافظة على صحتنا الجسدية، والترفيه عن أنفسنا في إطار من المشروعية والإعتدال.

أضف إلى هذا حاجتنا إلى أن نملك الشجاعة على رفض الإلتزام بأعباء لا نستطيع القيام بها، والإبتعاد عن الأشخاص الذين تُشعرنا وضعيتهم العامة بالإحباط.

وبعد، فإنّ السيطرة على الإنفعالات، لا تعني كبتها، ولكن تعني حسن التعبير عنها، وحسن تجسديها في سلوكاتنا، والله الموفق والمعين.►

  المصدر: كتاب (الرحلة إلى الذات)

تعليقات

  • بو نبراس

    كل الشكر والاحترام .... مقال رائع تسلم الايادي

ارسال التعليق

Top