عاشوراء.. كلمة تعبّر عن حقيقة تاريخية هامة لا مجال فيها للشك والارتياب، كما أنّها قابلة للتكرار دوماً في كلّ واقع وزمان.. وهذا ما أثبته لنا التاريخ. إنّنا أمام حادثة عاشوراء بمناسبتها وسلسلتها وكلّ تفاصيلها، أمام مشاعل تبثّ النور على طريق الخلاص من ظلمات الجهل والتخلّف والظلم والتقاعس.
ومن هنا لا يمرّ عام إلّا ويتجدّد الحسين (عليه السلام) في صورة شعلة من نار تحرق جفون ظالمٍ هنا وطاغوتٍ هناك، حتى كان كلّ يومٍ عاشوراء، وكلّ أرضٍ كربلاء، وكلّ ثائرٍ من أجل الله والحقّ والحرّية.
إنّ عاشوراء لا تزال تملك الكثير من الدروس التي تعطيها والكثير من الحكايات التي ترويها، وهي بذلك تعدّ مدرسة رهبانها في الليل وفرسانها في النهار، متبصّرين في ذات الله لا يخافون من أجل الله لومة لائم.
فكربلاء المقدسة، ليست مدرسة للبطولة الثورية فقط، وإنّما هي أيضاً مدرسة لبطولة الإنسان حينما يخرج من ذاته، من شحّ نفسه من حدوده الضيقة ليملأ الدنيا شجاعة وبطولة.. كربلاء مدرسة الوفاء، مدرسة التبتل والضراع، مدرسة الحبّ والتضحية، مدرسة العلم والتقوى، بالإضافة إلى أنّها مدرسة الجهاد والاستشهاد.
إنّ الانتصار النهائي للدين ليس في أن يصبح باسمه حاكمون على وجه الأرض، وإنّما الانتصار الحقيقي أن تكون الحاكمية الفعلية للقيم والمبادئ التي ينادي بها الدين وتطالب بها شريعة سيِّد المرسلين، فما دامت المبادئ والقيم تتعرّض للتحريف والتزييف فلا قيمة للشعارات الزائفة والمظاهر الكاذبة، حيث إنّ الإسلام يجعل المقياس النهائي هو الإيمان والعمل الصالح وليس مجرّد المظهر الفارغ من محتواه، ومن هنا فإنّ انتصاره النهائي (عليه السلام)، هو انتصار قيمه ومبادئه ومحتواه، وهذا ما كان مفقوداً في الظروف التي ثار فيها الإمام الحسين (عليه السلام).
الإمام الحسين (عليه السلام) سار وهو يعلم أنّه سيقتل، ومن كان هذا أصلاً من أصول مسيرته، فإنّ ثورته لم تكن طلباً للمنصب ولا بحثاً عن سلطان ولا من أجل العلو في الأرض، وهو الذي كان يكرر قوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83). علّم الحسين (عليه السلام) من بعده كيف تُعتنق المبادئ، وكيف تُحرس، وكيف يُقدَّس الإيمان، وكيف يُدافع عنه، وكيف يكون الموت من أجل العقيدة، وكيف يحيا كريماً.
إنّ ثورة أبي الأحرار أعظم ثورة عملاقة سجّلها التاريخ، فقد أيقضت المسلمين من سُباتهم وحطّمت عنه سياج الذلّ والعبودية فانطلقت الثورات يتبع بعضها بعضاً في معظم أنحاء العالم الإسلامي وهي تحمل شعار الثورة الحسينية وتطالب بعزّتها وكرامتها وأمنها ورخائها الذي فقدته أيام الحكم الأُموي، حتى أطاحت به وقلعت جذوره، كلّ ذلك ببركة ثورة أبي الأحرار، التي أوضح الله بها الكتاب وجعلها عبرة لأُولي الألباب.
قدّم الحسين (عليه السلام) نفسه وأصحابه وآل بيته قرباناً من أجل نشر العدالة والوقوف مع الحقّ مهما كان الثمن، فكانت ثورته ثورة عالمية لا تخص أتباعه فقط. نعم، كانت حياة الحسين (عليه السلام)، كلّها عبر ودروس، فانطلق وضحّى بأغلى ما يملك من أجل الآخرين، من أجل أن يرسم للأُمّة خطاً لهداية الحائرين، وأن يوقد شعلة تنير درب المظلومين.
ثورة الحسين (عليه السلام) ثورة حيّة تحركت في عقل الأُمّة قبل عاطفتها، فكانت ثورة غنية بشعاراتها الصادقة وأهدافها النبيلة، ولهذا لم تكن كباقي الثورات، والتأريخ الإسلامي غني بالثورات، إلّا أنّ هذه الثورة هي الوحيدة التي لا تزال ذكرها يتجدّد ويتقدّم فكتبَ لها الخلود على مرّ الزمان.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق