الإنسان المخلوق مِنْ علق، يقرأ فيستمد الكرامة من الله (الأكرم).
كم هو كريم على الله هذا الإنسان؛ بدأ خلقه (مِن طينٍ) (السجدة/7)، ثمّ علّمه الأسماء ليرفع مكانته فوق الملائكة (بالعلم)، و(جعلَ نسلَهُ من سُلالةٍ مِن ماءٍ مَهينٍ) (السجدة/ 8)، و(مِن عَلَقٍ) (العلق/ 2)، ثمّ أمره بالقراءة ليثبت أنّ قيمته وكرامته إنّما هي بـ(العلم) الذي به يسمو على الخلائق غير عابئ بأصله الترابي، ولا مكترث لأصولهم النورانية.
لقد تحدى الله ملائكته بالإنسان الذي أساؤوا به الظن، فلم يتوقعوا منه إلّا الفساد في الأرض وسفك الدماء، ولئن مارس الإنسان منذ بدء الخليقة بعض توقعات الملائكة لجهله وعدم استكماله (العلم)، إنّه سوف يكف عن الفساد وسفك الدماء كلما ارتقى في معارج (العلم) حتى يحقق حسن ظن الله به.
لقد علّمه الله الأسماء ليحقق له الفوز على الملائكة في تحدي (السجود)، وأمره (بالقراءة) وبالاستزادة من العلم (وقُل ربِّ زِدني عِلماً) (طه/ 114)، لكي يستكمل علمه ويحقق فوزه النهائي على الملائكة بالإقلاع عن ممارسة شيء من توقعاتهم، ويثبت جدارته بتكريم الله له (ولقد كرَّمنا بَني آدَمَ) (الإسراء/ 70).
القراءة والقلم:
حين نزل جبريل يأمر محمّداً بالقراءة، لم يدفع إليه بألواحٍ ليقرأ فيها، وإنما تلا عليه كلاماً، وأمره بتتبعه، ولو أنّه دفع إليه بألواحٍ لما استطاع أن يقرأ فيها، لأنّه (ص) كان أُميّاً لا يقرأ الكتاب (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت/ 48)، كأنّ القراءة (القرآنية) لم ترتبط بالنظر فقط، وإنّما ارتبطت بمجموعة (السمع والبصر والفؤاد) التي هي وسائل المعرفة (بالمصطلح القرآني).
غير أنّ هذا الذي لاحظناه من واقعة التنزيل، خاص بالنبيّ (ص)، ليكون دليلاً على صدق نبوته ومؤيداً للإعجاز القرآني، حيث ظل الرسول (ص) إلى آخر حياته أُميّاً لا يقرأ الخط المكتوب ولا يكتب، غير أنّ ذلك لم يمنعه مِنْ تبليغ رسالة الله التي أوحي بها إليه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم/ 3-4)، كما أنّ أميّته لم تمنعه من عقد المعاهدات وتوجيه الرسائل إلى الملوك.
أما بالنسبة إلى عموم النص، فإنّ القراءة التي أُمرنا بها هي قراءة الكتاب، الذي يخطه القلم.. القلم الذي سخره الله ليكون أداة لتعليم الإنسان ما لم يعلم. (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 3-5).
وللقراءة بمفهومها المعاصر، المرتبط بالقلم والكتاب، مكانة عظيمة في القرآن الذي تحدّث عن كلّ ما يتعلق بالكتاب من أدوات.. تحدث عن القلم وما يسطرون، وعن الكتاب المسطور في رقٍّ منشور، وعن طيِّ السجل للكتب، وعن الخط والمداد والقرطاس (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) (لقمان/ 27).
ولقد كتب الناس بالقصب والمداد على الرق والألواح وجريد النخل والعظام، والحجر، ثمّ اخترعوا الورق، وطوروا قلمهم ومدادهم، حتى أصبح جافاً يصطحب في الجيب دون حاجة إلى مداد (حبر) ودواة، واخترعوا المطبعة فأصبح القلم حرفاً معدنياً بارزاً ثمّ أملس، تستلمه الآلة الطابعة منضداً فتطبع عليه ملايين النسخ، لتحل بذلك محل ملايين النساخ الذين كانوا ينسخون كتبهم بأيدهم.
ثمّ تابع القلم تطوره حتى أصبح يكتب أحرفاً ضوئية تختزن في ذاكرة الحواسب، التي أضحت امتداداً لذاكرة الإنسان، يستطيع أن يستدعي فيها ما يشاء، فيظهر أمامه مضاءاً على الشاشة.
وطبعت المعلومات على أقراص يختزن القرص الواحد منها موسوعة تضم عدة مجلدات، فاختزلت الكتب الضخمة في أقراص صغيرة، ثمّ ركبت أمواج الأثير فأصبحت المعلومات تنتقل بسرعة الضوء لتكون في خدمة الإنسان حيث كان، إنّها ثورة المعلومات، وأنت تعيش في عصر المعلومات، الذي أصبحت ثروات الأُمم والأفراد تقاس بها، وأصبحت قيمة الإنسان ومكانته وتقدمه رهناً بما يمتلك من هذه الثروة (ثروة المعلومات).
ولئن تحدّث القرآن عن التطور عند ذكر وسائل المواصلات التي عرفها الإنسان في عصر التنزيل، فقال: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 8)، كما تحدث عن التطور في الخلق فقال: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) (فاطر/ 1)، إنّا لا ندري أين ستصل بنا رحلة القلم والقرطاس والمعرفة في عصر ثورة المعلومات. فلتقبل على ما يتيسر لك منها، ولتقرأ ما في وسعك (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114).►
المصدر: كتاب القراءة.. أوّلاً
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق