◄(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر/ 3).
لقد تَفَضّل الله سبحانه تعالى على الأُمّة المحمّدية بليلة القدر، وهي ليلة مُبارَكة خير من ألف شهر، فهي ليلة عظيمة متناهية في الشرف والسمو، فيها من نفحات الله تعالى لعباده ما لا يدركه أحد، وهي ليلة أنزل الله تعالى في حقها سورة القدر، مُشيدة بذكرها مُعلنة عن فضلها مُبَيّنةً جلالها. قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (سورة القدر). وفي بيان جانب من فضائل ليلة القدر، وتحقيق القول في تحرّيها وكيفيّة إحيائها، يتحدث مستشار الفتوى والتوجيه الأسري في دائرة قضاء أبوظبي، الدكتور محمد سليمان فرج. يستهلّ حديثه موضحاً بعض المعاني التي وردت في سورة القدر، فمعنى قول الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، أي القرآن المجيد، وقال الشعبي في معنى (أنزلناه): ابتدأ إنزاله. وقال عبدالله بن عباس وكثير من الأئمة: أنزل الله تعالى القرآن الكريم في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وأمْلاهُ جبريل على السَّفَرَة، ثمّ كان ينزل مُفَضَّلاً بحسب الوقائع والأسباب، في ثلاث وعشرين سنة على الرسول (ص)، (حياته من بعد النبوة). (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، أيّ وما أدراك ما فضلها بدليل ما بعدها (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، وقد ذكر بعض المفسّرين عند هذه الآية: أنّ الصحابة – رضوان الله عنهم – كانوا يَتذاكرون في أخبار الغابرين من الأمم، فذُكر لرسول الله (ص)، أنّ رجلاً من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر. فعجب رسول الله (ص)، أنّ رجلاً من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر. فعجب رسول الله (ص) لذلك وتمنّى ذلك لأُمّته، وحزن الصحابة لما رأوا أعمار الأمم السابقة، وقال الرسول، (ص): "يا رب جعلت أمتي أقصر الأُمم أعماراً وأقلّها أعمالاً". فنزل جبريل (ع) وقال له: "إنّ الله يُبشّرك بليلة هي خير من ألف شهر". أي صرفها صاحبها في الجهاد في سبيله، ليس فيها ليلة القدر. فَسُرّ رسول الله (ص)، بهذه المنّة الإلهيّة التي اختُصّت بها الأُمّة المحمّدية. وقيل إنّ العدد لا مفهوم له، والمعنى أنها خير من شهور كثيرة مضت على الأُمم السابقة، أو أنّ العبادة فيها أعظم أجراً من شهور كثيرة ليس فيها ليلة القدر. (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَ...) (القدر/ 4). هذه مَزيّة اخْتَصَّ الله بها هذه الليلة، أي بنزول الملائكة والروح "جبريل" فيها، وقيل طائفة من الملائكة لا تراها الملائكة إلا في هذه الليلة، لتَغْشَى الناس بالرحمة والسَّكِينة. (.. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)، أيّ من كل قضاء إلى السنة المقبلة. (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، أي من أوّلها سلام إلى مطلع الفجر، أو هي سبب للسلامة والنجاة من عذاب يوم القيامة لمن قامها، بدليل قوله (ص): "مَن قام ليلة القدر إيمانا واحتساباً غفر له ما تَقَدَّم من ذنبه" (رواه البخاري ومسلم). فهذه الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هُدىً للناس وبينات من الهُدَى والفرقان، كانت بدء الإشراق السماوي أن يَسْطَع على الجزيرة العربية، بنور الله وهدايته، وقد شرّفها الله تعالى بأن يتجلّى فيها بواسع الرحمة والمغفرة والإنعام والخير، ويتفضّل بإسباغ المنن والعطف والحنان، فيُجيب مَن دعاهُ ويُلبّي مَن ناداهُ ويواجه مَن صافاهُ ويُقبل على مَن أتاهُ بالتوبة والخشوع، ويتنزّل لأوليائه بأنوار وأسرار تكشف حُجب العقول، فيأنسون بعلام الغيوب. - تحقيق القول في تحريها: اتّفق جمهور العلماء أنها في العشر الأواخر من رمضان، والأصح أنها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، لقول الرسول (ص) "تَحَرَّوْا ليلة القدرِ في الوتْرِ من العشر الأواخر من رمضان" (رواه البخاري ومسلم). وعن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي (ص)، ليُخبرنا بليلة القدر، فتلاحَى رجلان (تَخَاصَمَ) من المسلمين فقال: "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحَى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" (رواه الإمام أحمد). فهذه الأحاديث الشريفة كلها، تُبيّن وتؤكد أنها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان. ولكن أيّة ليلة في الوتر منهنّ تكون ليلة القدر؟ لقد أخفاها الله سبحانه وتعالى في هذه الليالي، ليَجْتَهِد المؤمن فيها بالعبادة والطاعة، وليُكْثر من الدعاء والتضرَّع في أوقات مختلفة. ولكن أكثر العلماء يقولون في ليلة السابع والعشرين، وذلك لما رواه الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: "سمعت رسول الله (ص)، يقول: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين"، ولما رواه الإمام مسلم عن زر بن حبيش قال: سمعت أبي بن كعب يقول: إنّ عبدالله بن مسعود يقول: مَن قام السنة أصاب ليلة القدر. فقال: إني لأعلم أي ليلة هي. هي الليلة التي أمرنا رسول الله (ص)، بقيامها، هي ليلة صَبيحة سبعة وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شُعاع لها. وأمّا أنها ثابتة في ليلة مُعيّنة أم أنها تنتقل في كل عام؟ قال الشافعي (رض): إنها ثابتة في ليلة معيّنة من رمضان، وقال مالك وابن حنبل: إنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان. - إحياء هذه الليلة: إنّ إحياء هذه الليلة العظيمة، يكون بالدعاء والذكر وقراءة القرآن الكريم والعمل النافع، وكل ما يُقرّب العباد إلى ربهم سبحانه وتعالى. عَن السيدة عائشة (رض)، قالت: قُلْتُ: "يا رسول الله، أرأيت إن عَلِمْتُ أي ليلة ليلة القدر ما أقولُ فيها؟". قال: "قولي: اللّهمّ إنك عفُوٌّ كريمٌ تُحِبُّ العفو فاعفُ عنِّي" (رواه الترمذي). فأفضل الدّعاء أوّلاً، ما ورد عن الله تعالى، وما علّمه لنا سيدنا رسول الله (ص)، ثمّ يدعو المؤمن بما شاء من خيري الدنيا والآخرة. ولقد وجّه سيدنا رسول الله (ص)، السيدة عائشة (رض) لتدعو بالعفو، وهو أمر أخروي يجب أن يكون مقصود المؤمن وطلبته من هذه الدعاء، وأن يكون مُوقناً بالإجابة متضرّعاً بقلب حاضر ذليل. قال رسول الله (ص): "ادعُوا الله وأنتم موقِنُونَ بالإجابة واعلَمُوا أنّ الله لا يَسْتَجِيبُ دُعاءً مِن قلبٍ غافِل" (رواه الترمذي). وإنّ الله أكرم من أن يرد دعاء عبد دعاه في هذه الليلة. قال الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186). - قيام ليلة القدر والاجتهاد في نهارها: قال الإمام الشافعي (رض): يُسْتَحَب أن يكون إجتهاد المؤمن في يومها كاجتهاده في ليلتها، ,أن يدعو المؤمن بما يهم المسلمين جميعاً، فهذا شعار الصالحين وعباد الله المخلصين. ويجوز للمؤمن أن يُحييها في بيته مع زوجته وأولاده، بالدعاء والصلاة وقراءة القرآن والذكر، والصلاة على سيدنا رسول الله (ص)، وإن شارك في إحيائها مع جماعة المسلمين، كان أفضل لمدارسة القرآن واجتماع المؤمنين، لعلّ فيهم رجلاً صالحاً مقبول الدعاء، ولتظهَر شعائر الله وتُعَظّم لياليه على مَلأ من الناس، وتَعْلُو كلمة الله وتتّحد قلوبهم وترتفع أصواتهم بالحق المبين. فعن أبي هريرة (رض)، قال: قال رسول الله (ص): "مَن سَلَكَ طريقاً يلتمِسُ فيه علماً، سهل الله له طريقاً إلى الجنة.. وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلُونَ كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهمُ السَّكِينَةُ وغَشيَتْهُمُ الرحمة وحفَّتهُمُ الملائكة وذكرهم الله فيمن عندهُ" (رواه مسلم). وفّقنا الله لإحياء هذه الليلة وإدراك فضلها، إنّه سَمِيعٌ مُجيب.►مقالات ذات صلة
ارسال التعليق