في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك من العام الثاني للهجرة، ولد سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في المدينة المنوّرة. هذه الولادة المباركة التي شكّلت بكل مسيرتها امتداداً حياً وفاعلاً للإسلام الرسالي الذي احتضنه رسول الله وأهل بيته الكرام. سيرة الإمام الحسن (عليه السلام)، ونحن في أجواء الصوم والعبادة، نأخذ منها كلّ ما نقتدي به من قول وسلوك وقيمة تسمو بها أرواحنا، وتنفتح بها عقولنا على الحقّ والعدل والخير في الحياة، فهم عاشوا لله، وارتفعوا من أجل تأكيد خطّ الله في الواقع.
إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) هو الفرد الأوّل في خصائصه العقلية والخلقية لأنّه نشأ في بيت الوحي، وتربى في مدرسة التوحيد، وشاهد جدّه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو أكمل إنسان ضمّه هذا الوجود، يقيم في كلّ فترة من الزمن صروحاً للعدل، ويشيد دعائم الفضيلة والكمال، قد وسع الناس بأخلاقه، وجمعهم على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، فتأثر السبط بذلك، وانطلق يسلك خُطى جدّه في نصح الناس وإرشادهم. فقد اجتاز مع أخيه سيِّد الشهداء (عليه السلام)، وهما في دور الطفولة على شيخ لا يُحسن الوضوء، فلم يدعهما السمو في النفس، وحبّ الخير للناس أن يتركا الشيخ على حاله لا يُحسن وضوءه، فأحدثا نزاعاً صورياً أمامه، وجعل كلّ منهما يقول للآخر: «أنت لا تُحسن الوضوء»، والتفتا إلى الشيخ بأسلوب هادئ وجعلاه حاكماً بينهما، قائلين له: «يا شيخ، يتوضأ كلّ واحد منّا أمامك، وانظر أي الوضوئين أحسن». فتوضآ أمامه، وجعل الشيخ يمعن في ذلك فتنبه إلى قصوره، والتفت إلى تقصيره من دون أن يأنف، فقال لهما: «كلاكما يا سيدي تحسنان الوضوء؛ ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لا يُحسن، وقد تعلّم الآن منكما، وتاب على يديكما».
كان (عليه السلام) ولايزال صاحب المواعظ الحسنة التي أمر تعالى أولياءه بتلقينها للناس، وغرسها في قلوبهم حتى تنبت ثمراً طيّباً، وتعطي حكمةً تمتدّ لتشمل كلّ مناحي الحياة. وكانت آخر موعظة أطلقها الإمام الحسن (عليه السلام) في مرضه الذي توفي فيه نتيجة السّم، ما ذكره الرواة، من أنّ جنادة بن أبي أمية قال له: عظني يابن رسول الله. قال: «استعدّ لسفرِك، وحصّلْ زادَك قبلَ حُلولِ أجلِك. واعلم أنّكَ تطلبُ الدنيا والموتُ يطلبُك، ولا تحملْ همَّ يومِك الذي لم يأت على يومِك الذي أنتَ فيه. واعلمْ أنّك لا تكسبُ من المالِ شَيئاً فوقَ قُوّتِك إلاّ كنتَ فيه خَازناً لغيرك. واعلم أنّ الدُّنيا في حلالِها حسابٌ، وفي حرامِها عقابٌ، وفي الشبهاتِ عتابٌ. فأنزلِ الدنيا بمنزلةِ الميتِة، خُذ منها ما يَكفِيكَ، فإن كانت حَلالاً، كنتَ قد زَهدتَ فيها، وإنْ كانت حَراماً لم يكن في وزرٍ، فأخذتَ منهُ كما أخذتَ مِن الميتة، وإن كان العقابُ فالعقاب يسيرٌ. واعمل لدنياكَ كأنَّك تعيشُ أبداً، واعمَل لآخِرتكَ كأنّكَ تموتُ غَداً. وإذا أردتَ عِزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سُلطان، فاخرج من ذلِّ معصيةِ اللهِ إلى عزّ طاعةِ الله عزّوجلّ. وإذا نازعَتكَ إلى صحبةِ الرجالِ حاجةٌ، فاصحَب من إذا صحبتَه زانَك، وإذا أخذت منه صانَك، وإذا أردتَ منه معونةً أعانَك، وإنْ قُلتَ صدَّقَ قولَك، وإن صلت شدَّ صولتك، وإن مددت يدَك بفضلٍ مدّها، وإن بدت منكَ ثلمةٌ سدّها، وإن رأى منكَ حسنةً عدّها، وإن سألتَه أعطَاكَ، وإنْ سكتَّ عنه ابتداكَ، وإن نزلَتْ بكَ إحدى المُلِمّاتِ واساكَ، مَن لا تأتيكَ منه البوائقُ، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلُكَ عندَ الحقائقِ، وإن تنازعتما منقسماً آثرك».
في هذه الذكرى المباركة لمولد إمام المسلمين جميعاً؛ الحسن بن عليّ (عليه السلام)، نتعلّم كيف نواجه ونتحدّى ونقاوم الأنانيّات والعصبيّات، وكيف نحوّل العبادة إلى نشاط دائم، ووعي وحكمة في تصويب حركتنا ومواقفنا، حتى نصحّح الكثير من سلوكيّات المجتمع التي تبعدنا عن أصالة إسلامنا.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق