قال الله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) (المزمل/ 4). وقال الله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر/ 21). ونرى أنفسنا الشقية تتلوه وتقرؤه ولا تخشع قلوبنا ولا تتصدع فكنا كما قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) (البقرة/ 74)، فكانت كالحجارة أو أشد قسوة.
وقال الصادق (ع): "القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بالحزن".
وقال النبيّ (ص): "أُتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا".
وفي مصباح الشريعة: قال الصادق (ع): "مَن قرأ القرآن ولم يخضع له ولم يرق قلبه ولم ينشىء حزناً ووجلاً في سره فقد استهان بعظم شأن الله وخسر خسراناً مبيناً".
فقارئ القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء: قلب خاشع، وبدن فارغ، وموضع خالٍ. فإذا خشع الله قلبه فر منه الشيطان الرجيم، وإذا تفرغ نفسه من الأسباب تجرد قلبه للقراءة فلا يعترضه عارض فيحرمه نور القرآن وفوائده، وإذا اتخذ مجلساً خالياً واعتزل من الخلق بعد أن أتى بالخصلتين الأوليتين استأنس روحه وسره بالله، ووجد حلاوة مخاطبات الله عباده الصالحين، وعلم لطفه بهم ومقام اختصاصه لهم بفنون كراماته وبدائع إشاراته، فإذا شرب كأساً من هذا المشرب فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالاً ولا على ذلك الوقت وقتاً، بل يؤثره على كلّ طاعة وعبادة، لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة.
فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك ومنشور ولايتك، وكيف تجيب أوامره ونواهيه، وكيف تمثل حدوده، فإنّه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
فرتله ترتيلاً، وقف عند وعده ووعيده، وتفكر في أمثاله ومواعظه واحذر أن تقع من إقامتك حروفه في إضاعة حدوده.
ينبغي لتالي القرآن من أمور باطنة:
منها: فهم عظمة الكلام وعلوه، وفضل الله تعالى ولطفه بخلقه في نزول عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه.
ومنها: التعظيم للمتكلم، فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أنّ ما يقرؤه ليس من كلام البشر، وأنّ في تلاوة كلامه غاية الخطر، فإنّه تعالى قال: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة/ 79)، وكما أنّ ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلّا إذا كان متطهراً، فباطن معناه أيضاً محجوب عن باطن القلب إلّا إذا كان منقطعاً عن كلّ رجس ومستنيراً بنور التعظيم والتوقير، وكما لا يصلح للمس المصحف كلّ يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كلّ لسان ولا لنيل معانيه كلّ قلب.
ومنها: حضور القلب وترك حديث النفس، وهذا يتوّلد من التعظيم فإنّ المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه، ففي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهلاً له، فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره وهو في متنزه.
ومنها: التدبر، وهو وراء حضور القلب، فإنّه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبر، المقصود من القراءة التدبر، قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24)، ولذلك سن فيه الترتيل، لأنّ الترتيل في الظاهر تمكن من التدبر في الباطن. قال أمير المؤمنين (ع) لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها. وإذا لم يتمكن من التدبر إلّا بالترديد فليردد.
ومنها: التفهم، وهو أن يستوضح من كلّ آية ما يليق بها، إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله تعالى وذكر أفعاله وأحوال أنبيائه والمكذبين لهم وأوامره وزواجره والجنة والنار.
ومنها: التخلي عن موانع الفهم، فإنّ أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم نجائب أسرار القرآن. قال النبيّ (ص): "لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لينظروا إلى الملكوت، ومعاني القرآن من جملة الملكوت لأنّها إنما تدرك بنور البصيرة دون الحواس.
وحجب الفهم أربعة:
أوّلها: أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، فيكون تأملهم مقصوراً على مخارج الحروف، وهذا من تسويلات الشيطان.
ثانيها: أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة.
ثالثها: أن يكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر، ومبتلى على الجملة بهوىً في الدنيا مطاع، فإنّ ذلك سبب ظلمة القلب وصدؤه، وهو كالخبث على المرآة.
رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً، واعتقد أنّه لا معنى لكلمات القرآن إلّا ما تناوله النقل، وأنّ ما وراء ذلك تفسير بالرأي ولم يعلم أنّ القرآن له معانٍ كثيرة وبطون وبطون وبطون.
ومنها: التخصيص، وهو أن يقدر أنّه المقصود بكلّ خطاب في القرآن فإن سمع أمراً أو نهياً قدر أنّه هو المأمور والمنهي، وإن سمع وعداً أو وعيداً فكمثل ذلك، وإن سمع موعظة اتعظ أو عبرة اعتبر، وهكذا.
ومنها: التأثر، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات في الرحمة والمغفرة والعذاب ونحو ذلك.
ومنها: الترقي، وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله لا من نفسه، فدرجات القراءة ثلاث: أدناها أن يقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال، ثم أن يشهد بقلبه كأن ربّه يخاطبه بألطافه ويناجيه بأنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم، ثم أن يرى في الكلام المتكلم وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، ولا إلى تعلق الأنعام به من حيث إنّه منعم عليه، بل يكون مقصور الهم على المتكلم بوقوف الفكر عليه، كأنّه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره، وهذه درجة المقربين، وما قبلها من درجات أصحاب اليمين، وما عداها من درجة الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر الإمام الصادق (ع) في ما روي عنه فقال: "والله لقد تجلى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون".
ومنها: التبري، وهو أن يتبرى من حوله وقوته والالتفات إلى نفسه بعين الرضا والتزكية، فإذا تلا آيات الوعد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك بل يشهد الموقنين والصديقين فيها. ويتشوق أن يلحقه الله بهم، وإذا تلا آية المقت وذم العصاة والمقصرين شهد نفسه هناك وقدر أنّه المخاطب خوفاً وإشفاقاً، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (ع) في الخطبة التي يصف فيها المتقين بقوله: "وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أنّ زفير جهنم في آذانهم، فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كانت رؤيته سبب قربه، وحيث يتلو آيات الرحمة ويغلب على حاله الاستبشار تنكشف له صورة الجنة فيشاهدها كأنّه يراها عياناً، وإن غلب عليه الخوف كوشف بالنار حتى يرى أنواع عذابها"، وهكذا.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق