تعتبر الفضائل الخلقيّة فصلاً من فصول حياة الإمام الحسين (ع)، وأُشير هنا إشارة عابرة إلى هذا الفصل المضيء. إنّ تاريخ الحسين (ع) واضح معروف، والكلّ يعرف كيف بدأ الإمام نهضته وفي أي جوّ من الظلم والضغط كان يعيش. لكنّه في نفس الوقت عندما كان يأتي مجال الأُمور الأخلاقيّة فإنّه لم يكن مستعدّاً للتنازل عن أخلاقه حتى مع العدوّ المحارب.
إنّ مسلم بن عقيل أحد تلامذة الحسين (ع) وجندي من جنوده سنحت له عدّة فرص للقضاء على ابن زياد لكنّه يتذكر أنّ الإسلام يعارض هذا اللون من استغلال الفرص ويعدّه جُبناً لذلك عندما قيل له: لماذا لم تقتله وتخلّص المسلمين من شرّه؟ أجاب: تذكّرت في ذلك الوقت حديثاً عن النبيّ (ص): "الإيمان قيّد الفتك" ولهذا لم أستطع أن أفعل هذا الفعل الجبان حتى مع الخارجين عن الدين.
وفي الطريق إلى كربلاء يقترب الجيش الذي جاء لقتال الحسين من معسكر الحسين وأصحابه، فيقترح البعض على الإمام أن يسدّوا الماء عن الأعداء، فينهاهم الإمام ويحذّرهم من هذا الفعل، ويأمرهم بأن يسقوهم ويسقوا خيولهم.
ويقول البعض له: إنّ هذا أفضل فرصة للقتال، فيجيب: من ناحية القضاء عليهم نعم لكن من ناحية الحقّ والقانون كيف؟ أنّهم لم يبدأوا بقتالنا، وهم مسلمون ونحن مسلمون، فما لم يبدأونا بالقتال فنحن لا ندافع عن أنفسنا، لاحظوا هذا الانضباط الأخلاقي، إنّها الأخلاق المبنيّة على أساس معرفة الله، وهي لا تتزلزل اطلاقاً، ولا تغيّرها المصالح الشخصية ولا حبّ الحياة ولا المحافظة على الذات ولا المحافظة على العائلة ولا حبّ الرئاسة والخلافة.
وفي يوم عاشوراء يأتي أحد الأشرار من معسكر العدوّ ليغدر ويهجم من خلف الخيام غافلاً عن أنّ الخندق المحفور حولها يحول دون ذلك، وعندما يواجه الواقع يستشيط غضباً ويبدأ بالسبّ والشتم، فينهض أحد أصحاب الحسين ويستأذن الإمام في إرساله إلى جهنّهم، فيقول له الإمام (ع): ما لم يبدأ هؤلاء بالقتال فإنّه غير جائز لنا، هم يبدأون ونحن ندافع. هذا هو الانضباط الأخلاقي، وليس فيه ذاتي ولا عائلتي ولا أهل محلّتي ولا أهل مدينتي ولا أهل وطني ولا أُمّتي، بل هذا الإحساس يتجاوز الإنسانيّة إلى الأُفق العالمي. ومن هنا فإنّ موضوع الذات في الأخلاق لا يمكن حلّها حلّاً جذريّاً إلّا بواسطة الدين. والإسلام يوسّع الذات وهو في نفس الوقت يوجب المحافظة على الحقوق الشخصية، يقول عزّ وجلّ: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ) (النساء/ 148).
إنّ المفاهيم الأخلاقية – كالحقّ والعدالة والسلام والإنسانية والصدق والاستقامة – يمكن أن يكون لها أساس أو منطق أو خلفيّة أو رصيد من دون معرفة الله.
ومن جملة الأدلّة على أنّ معرفة الله والإيمان والمعنويّات لن تنمحي من هذه الدنيا هو احتياج البشريّة إلى الأخلاق.
وفي المرحلة العلميّة لا يمكن تزيين الإنسان بالفضائل الخلقيّة عن طريق التقليد والتلقين ولهذا يتعيّن تحلّيه بها عن طريق المنطق والبرهان. فالمجتمع البشري بين خيارين: إما أن يبقى ويستمرّ وإمّا أن يزول وينمحي، إنّ انمحى فلا كلام، وإن بقي فلا غنى له عن الأخلاق المتعدّدة الجوانب، لا الأخلاق الماركسيّة وإنما الأخلاق ذات الأساس والجذور، وهذه لا تتيسّر إلّا بالدين والمعنويات:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم/ 24-27).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق