طُرُق الاحترام عديدة تكاد تكون بعدد المُحتَرِمين أنفُسهم، إذ إنّ ما يدعو إلى الاحترام كثير، كما أنّ ما يُعبَّر به عن الاحترام من صِيَغ وهيئات وآليات كثير أيضاً.. ولأنّ الثاني تابعٌ لثقافة الإنسان المُحترِم لغيره، وهو أسلوب من أساليبه الفنّية والأدبية والتهذيبية الذاتية، فإنّنا سنقف عند دواعي الاحترام، أو مُسبِّبات الاحترام، وذلك لغرضين:
1- أن نُعمِّق هذه الدواعي ونعمل على إشاعتها والترويج لها، لتكون قيمة من قيم التعامل والتفاعل المجتمعي.
2- أن نسعى لتأمين هذه الشرائط والخصائص ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً لا لكي نحظى بالاحترام فقط، بل لأنّ هذه القيم (دواعي ومُسبِّبات الاحترام) تستحق بذاتها التوفُّر عليها، ومنها:
1- الصِّدق والإخلاص:
لن تجد إنساناً محترماً احتراماً واسعاً وكبيراً كالإنسان الصادق في أقواله وأفعاله ومواقفه وشهاداته، ولن تعثر على إنسان يكتسب من احترام الناس ما لا يكتسبهُ غيره كالإنسان المخلص في عمله، المؤتمن عليه، المؤدِّي له على أحسن وجه وفي أفضل صِيغة، ذلك أنّ افتقار المجتمعات إلى النماذج الصادقة المخلصة، يجعلها تتطلَّع إلى عيِّنات الصادقين ونماذج المخلصين على أنّهم عُملات نادرة، وإنّها باعثة على الإكبار لأنّها تسبحُ ضدّ التيار، فإذا رأيت صادقاً أو صادقة في أيّ عمل أو حقل إبداعي وإنتاجي ومعرفي، فإنّك تطمئن إلى أنّ الدُّنيا مازالت بخير، وأنّ ثمة أُناس يُلهمون غيرهم بالحركة والعطاء والبذل والاستقامة.
ونحن اليوم لسنا فقط بحاجة إلى أن يسلم الناسُ من يد المسلم ولسانه، في الجانب الأمني الاحترازي، وإنّما بحاجة إلى أن يكون لسانُ المسلم (صادقاً)، بمختلف تعبيرات اللسان (وليس العضلة اللحمية في الفم فقط)، وأن تكون يدهُ (أمينة) مخلصة في أدائها أو ما يقع تحتها من مسؤوليات، ذلك أنّ أمن الناس من بطش أيدينا وسيِّئات ألسنتنا هو من باب (كفّ الشرّ).. أمّا أن يجدوا عندنا الصِّدق والإخلاص والأمانة، فإنّه من باب (الأُسوة الحسنة)، وهذه تفعلُ فعلها بأضعاف ما تفعله تلك.
لذلك قيل: «ازرع الصِّدق والرصانة، تحصد الثقة والأمانة».
2- الكفاءة والبراعة والمهارة:
الإنسانُ الكفوء، الماهر في عمله، والبارع في اختصاصه، موضع احترام الآخرين.. نعم، هو أيضاً محلّ حسدهم، وربّما غبطتهم حيث يتمنّون لو كانوا مثله في الكفاءة والإبداع والمهارة؛ لكنّ ذهاب الناس إلى (الأعلم) أو الأكثر خبرة في مجال عمله وحقل اختصاصه، هو (شهادة حُسن سلوك) يمنحها الناس إليه، وهو دليل المدح والاحترام والتقدير، إذ كان بالإمكان الذهاب إلى غيره ممّن هم دونه؛ ولكنّ احترام البارع يدفع إلى اختياره وتفضيله في الانتداب إلى مهمّة، أو القيام بمسؤولية، أو إيكال أمر ما إليه لأنّه الأقدر على تنفيذه أو إخراجه بالصيغة الأفضل، ومن هنا قيل إنّ «كفاءتنا هي التي تُكسبنا احترام الأشخاص الصادقين».
3- التواضع وخفض الجناح:
تحلُّق المسلمين والتفافهم حول الرسول 6 وانشدادهم الكبير إليه ليس لكونه نبيّاً، أو أنّه جاء بالرسالة فقط، وإنّما انجذابهم إلى أخلاقه الحميدة، وآدابه العالية، (احترموه) فأحبَّوه، و(صدَّقوه) فأطاعوه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران/ 159).
ومن احترام الأبوين خفض الجناح لهما (تعبيراً عن التواضع): ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ (الإسراء/ 24).. ومن احترام القيادة لقواعدها، والرموز لأتباعها، هو أن تحترم الذين هم دونها في الموقع الإداري، إذ أنّ الاحترام - كقاعدة عامّة - يجلب الاحترام، بل يستقطب المزيد من الاحترام، واحترامي لك يزيد في احترامك لي، ومن بين دواعي الاحترام إظهار التواضع وخفض الجناح، وكلّما تواضع الكبير كَبُرَ احترامُ الناس له، وكلّما تواضع الصغير كَبُرَ في أعيُن الناس لأنّه أعرف بمكانته، فلا يتطاول أو يتعالى على غيره، وعلى ذلك فليس غريباً أن يكون (التواضع) أدباً لجميع الفضائل، وأنّ غاية الاحترام تأتي من غاية التواضع.
4- الأدب وحُسن التعامل والتصرُّف:
لا شيءٌ يجلب الاحترام ويزيده أكثر من الأخلاق الحسنة، وقد بَيَّن القرآنُ ذلك من خلال إشاراته العديدة إلى أخلاق النبيّ 6 وسرّ نجاحه في أُمّته، ذلك أنّ الناس أشبه بالمرضى، والمريض بحاجة إلى (لُطف) و(مُداراة) و(أخلاق) الطبيب، أكثر من حاجته إلى علمه، فإذا جمع الاثنين، كان موضع الحاجة المرجوّة، ومَقصد المرضى، وسبباً في شفاء الكثيرين، ولذلك جاء في الخبر: «حُسن الأخلاق يُثبت المودّة»[1]، وكان من بين كلمات الفيلسوف (كانت): «شيئان يُثيران في نفسي الإعجاب والاحترام: السماءُ من فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي»[2].
ولو دققنا النظر في طبيعة الاحترام، لرأينا أنّه نتيجة طبيعية لأيّ خُلق حميد، فما من خصلة محبّبة، وشيمة كريمة، وأدب جمّ، إلّا وهو كالمغناطيس الذي يجتذب النفوس والقلوب.. وأكثرنا احتراماً للآخر، أكثرنا أدباً وأحسننا أخلاقاً، ومَن احترمه الناسُ لأخلاقه كان ذلك سبباً من أسباب رِضا الله تعالى عليه ومغفرته له، وداعياً من دواعي دخوله الجنّة.
5- الصراحة والجرأة في قول الحقّ:
السببُ في كراهة الناس للنفاق والمنافقين، هو أنّهم لا يحبّون الإنسان المُغلق، أو المُغلَّف، أو المتلوِّن، أو ذا الوجهين وذا اللسانين.. وعلى العكس من ذلك، ميلهُم وحبّهم واحترامهم للإنسان الصريح (الشفّاف) الذي يقول كلمات الحقّ والصِّدق ولا يخافُ في الله لومة لائم، ويزدادُ احترامُ الناس للصريح إذا كانت صراحتهُ صادقة، ومُنسجمة مع سلوكه العام، فقد يكون بعض الناس صريحاً في نقد الغير؛ لكنّه ليس صريحاً في كشف عيوبه.. أمّا مَن يقول الحقّ ولو على نفسه، فإنّه مدعاة للاحترام والثناء والتصديق أكثر من غيره.
الصريحُ مُحتَرمٌ لأنّه لا يلفّ ولا يدور، حتى وإن تكلَّم بالتورية، فإنّ استعارته ربّما تكون أبلغ من عبارته، إذ ليس من الصراحة (تجريح) الآخرين وصبّ اللوم عليهم بالأسلوب المُقذع، وإنّما الصراحةُ قولُ الحقّ بأسلوب حسن رضي مَن رضي، وغضب مَن غضب.
6- العطاءُ والكرم:
الناسُ ميّالون بطبعهم إلى السخيّ، الجواد، الكريم، المعطاء.. ينحازون إليه، ويحبّونه ويحترمونه، لأنّه يبذلُ بلا مقابل مادّي، هو يرجو من الله الحُسنى؛ لكنّه لا يريدُ من الناس جزاءً ولا شكوراً، وإن كان من مقتضيات الإنعام والإحسان والتفضُّل أن يشكر الإنسانُ المُنعَمُ عليه صاحبَ الفضلِ عليه.
إنّ السبب الأهم في احترام الكريم هو أنّه كمياه النبع يتدفَّق من غير انتظار لطلب العطشان، وأنّه مستعد للتلبية عند كلّ نداء بالحاجة إليه، ولذلك مَن رزقه الله مالاً وبذله في المعروف، فهو (السيِّد) المحترم، والإنسان الفاضل الجليل، ومَن يُعطي بــ(اليد القصيرة) من العطاء المادّي، يُعطَ بــ(اليد الطويلة)، لأنّ الذي يلقاهُ من (شُكر) أكثر ممّا أعطاه، ولذلك كانت (اليد العليا) المعطاءة خيراً من (اليد السفلى) الآخذة، أو المستعطية، وصاحبها محترمٌ لأنّه كفى نفسَه ذُلّ الحاجة، وكفى غيره السؤال.
ويزدادُ احترام المُستقبِل للعطاء، إذا كان من إنسان قليل المال أو يؤثر غيره على نفسه، فهو يعطي ما هو بحاجة إليه، وهذا يُعظِّم الاحترام ويُعمِّقه في النفوس، وبالتالي فإنّ (حسّاسية الاحترام) أو الشعور به، تفعل فعلها حالما تجدُ حالةً من اللُّطف والإحسان والتسامح والتعاون.
7- الحياء والعفّة:
الشائعُ في مفهوم الحياة والعفّة هو الاحتراز من التصرُّفات المشينة لاسيّما في الجانب الجنسيّ في علاقة المرأة بالرجل، والحال إنّ مفهوم الحياء والعفّة من السعة بحيث يشمل عزوف الإنسان عن كلّ خُلقٍ دنيء، وتعفّفه عن كلِّ تصرُّفٍ قبيح، والحياء والعفّةُ ليستا مطلوبتين أو مقتصرتين على النِّساء دون الرجال، فهما مطلوبان من كلا الجنسين، ولقد عُرِف النبيّ (ص) بأنّه (حَييّ) أي شديد الحياء، ويتعاظم احترامُ الناس لكلِّ ذي حياء، رجلاً كان أم امرأة، لأنّه بادر إلى احترام نفسه أوّلاً، ولذلك فلا غرابة أن يُعدَّ الحياءُ شعبةً من شُعَب الإيمان، وأن يكون سبباً دافعاً للإجلال والاحترام.
8- العفو والصفح والتسامح:
كلّنا خطّاؤن، وهذه الحقيقة تستوجب أن نعيد النظر في عفونا بعضنا عن بعض وتسامحنا، والغضّ عن معايب بعضنا، مُتخلِّقين بأخلاق الله (العفوّ الغفور) عظيم الصفح وحسن التجاوز.
وعلى ذلك، شاع بين الناس (المسامح كريم) كدعوة للصفح لما مضى، والاستعداد لفتح صفحة جديدة من العلاقة، وهذا اللون من الخُلق الحسن والكريم كفيل بأن يجعل الآخر الذي سامحته أو عفوت عنه ليس محترماً لك فقط، بل مَدين لك بذلك، لاسيّما وأنّه تَعلَّم منك أنّك لا تفتح الجرح، ولا تُعمِّقه، بل (تغلقه)، و(تُعقِّمه) و(تُضمِّده)، وإنّك على الرغم من إساءته، على استعداد للمواصلة معه، وهذا هو سرُّ احترام المعفوّ عنهم للعافين عنهم، الأمر الذي يتطلَّب من هؤلاء أن يحترموا (العفو) و(المسامحة) فلا يعودوا لمثلها مستقبلاً، أي أن لا يكرِّروا الإساءة وفتح الجرح ثانية.
9- المشاورة ومشاطرة الرأي:
سواءً أكنت في موقع المسؤولية (قائد، مدير، ربّ أُسرة... إلخ)، أم كنت إنساناً عادياً، فإنّ أحد أسباب احترام الآخرين لك هو استشارتهم أو التشاور معهم في القضايا التي ليس لك بها علم أو اختصاص أو خبرة، ذلك أنّ (المستبدَّ برأيه) والمستغني عن مشاورة الآخرين ومشاطرتهم الرأي يحرم نفسه من عقول إضافية، مثلما يحرم نفسه من الاحترام والتقدير، بل إنّ بعض القادة أو الشخصيات الكبيرة، تعتمد أُسلوب التشاور حتى في الأُمور التي لديهم قناعة بها، إمّا لكي يحظوا بمزيد من الثقة والتأييد، وإمّا لتدريب الآخرين، وإمّا للانتفاع برأي ربّما لم يكن يخطر على بال.. وفي جميع الأحوال، فإنّ المستفيد مُحترَم لأنّه يعلم أن ليس لأحد الكمال، ولا العقل الشمولي الكلّي، وأنّه مُعرَّض للخطأ في الحساب والتقدير، وأنّ استكمال نقصه باستشارة غيره، وما خاب مَن استشار.
10- العلم والثقافة:
يُحترَمُ الإنسانُ لعقله أكثر ممّا يُحترَمُ لمالهِ أو جماله أو منصبه الإداري وموقعه الاجتماعي، ولذلك رأينا أنّ تبجيل العلماء والصلحاء والفضلاء والعقلاء والمثقَّفين والخُبراء، أكثر من أي تبجيل لأي صفة أو خصوصية أُخرى، ذلك أنّ احترام العالِم هو احترامٌ للعِلم الذي أَهَّله لمقام نفع وخدمة الناس بعِلمه، واحترام الثقافة التي صنعت من المثقَّف إنساناً واعياً، ملتزماً، غيوراً، صالحاً، نافعاً.
ومهما اختلفت الأُمم اليوم في موجبات الاحترام والتقييم؛ لكنّها لن تختلف على أنّ احترام العالِم والمثقَّف يأتي في الدرجة الأُولى، ثمّ تليه قائمة الاحترامات الأُخرى، على اعتبار أنّ العلم والثقافة هي بمثابة (روح) و(عقل) المجتمع، وأنّهما ما يبقى، وغيرهما زائل أو مُعرَّض ربّما للتحوُّل والنقص والاندثار، ولذلك قيل: «كفى بالعلم رفعة»، وأنّ أقلّ الناس قيمة أقلّهم علماً، وبالتالي أقلّهم احتراماً، وكان من بين نصائح الإمام عليّ 7 التي تُروى عنه: «تعلَّموا العِلم صِغاراً تسودوا به كِباراً»[3]، والسيادة ليست سيادة سلطة، وإنّما سيادة شرف ومقام واحترام.
إنّ دواعي وموجبات الاحترام كثيرة، وإذا كنّا عرضنا لبعضها، فإنّنا لا نريدُ أن نجعلها في (سلّة) أو (إناء)، وإنّما هي إشارات لمعالم الاحترام وهي كثيرة يمكن اختصارها بكلمتين (العلمُ) و(العمل)، بما يعنيه الأوّل من خبرة، وثقافة، وتجربة، واستعدادات كمالية، وبما يُمثِّله الثاني من أساليب خلقية وتعاملية وتفاعلية حسنة، وبما يرمز له من احترام الواجب والمسؤولية وحُسن معاشرة الآخر.
[1]- ميزان الحكمة، محمّدي الري شهري، ج3، رقم الحديث5080، ص151.
[2]- جواهر العقول، وصال حمقة، ص40.
[3]- جواهر العقول، وصال حمقة، ص542.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق