في طريق الأنبياء
(5)
سُليمان 7
النبيُّ المَلِك
لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ
سيرته الذاتية:
في (الموسوعة الإسلامية المُيسَّرة)، ج6، مادّة (سليمان) وردت الترجمة الآتية لأوسع الناس مُلكاً، النبيّ سليمان7:
- هو نبيُّ الله سليمان7 ابن نبيُّ الله داود7.
- أحد أنبياء بني إسرائيل، ومن ذُرِّيّة سيِّدنا إبراهيم7.
- ورد ذكره بالاسم (16) مرّة في القرآن الكريم.
- كان سليمان7 مَلِكاً وَرَث المُلك عن أبيه، إلّا أنّ الله تعالى أعطى سليمان من قوّة المُلك ما لم يُعطهِ أحداً، فَسَخَّر له الجنّ والرِّياح والمعادن.
- عَلَّمه الله تعالى منطق الطير والحيوان.. فكان يفهم معنى أصواتها وحركاتها ودلالتها.
- لسليمان7 قصّة مع مَلكة سبأ (بلقيس)، إذ دَلَّهُ الهُدهُد عليها، وكانت نهايتها أنْ آمنت هي وقومها.
- لم يكن لسليمان7 كتاب سماوي خاص يحكم به، وإنما حكم بشريعة أبيه داود7 وهي (الزَّبور).
- يتداول بعض المؤرِّخين قصصاً من عجائب مُلك سليمان، وعن خاتمه، وبساطه الذي يطير، والخيل المجنَّحة التي كانت عنده، ولم يرد خبر نبوي أو تاريخي صحيح بخصوص هذه الأشياء.
- توفّي سليمان7 فأخفى الله تعالى موته عن الجنّ الذين معه فترة من الزمن، كانوا يعملون خلالها الأعمال الشاقّة التي أمرهم 7 بها.. فلمّا تَبيَّن موته، أدركوا لو أنّهم كانوا يعلمون الغيب ما استمرّوا في العمل الشاق طول الفترة التي مضت على موته[1].
قصّته 7 في القرآن:
1- سليمان7 الولد الموهوب لداود7:
قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 30).
2- سليمان7 تَتلمَّذ على يدي أبيه7:
قال سبحانه: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (الأنبياء/ 78-79).
3- سليمان7 ووراثته لأبيه داود7:
قال جلّ جلاله: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾ (النمل/ 16).
4- سليمان7 تفضيل الله له بعلمه على كثير من المؤمنين:
قال عزّوجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النمل/ 15).
5- سليمان7 يسأل الله مُلكاً واسعاً لا يكون لغيره مثله:
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (ص/ 35).
6- سليمان7 نبيٌّ يُوحى إليه:
قال عزّوجلّ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾ (النِّساء/ 163).
7- سليمان7 عَلَّمه الله تعالى منطق الطير:
قال جلّ جلاله: ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل/ 16).
8- سليمان7 سَخَّر الله تعالى الرِّيح له:
قال سبحانه: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ (الأنبياء/ 81).
9- سليمان7 سَخَّر الله تعالى الشياطين له:
قال تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ (الأنبياء/ 82).
10- سليمان7 سَخَّر الله تعالى الجنّ له:
قال عزّوجلّ: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل/ 17).
11- سليمان7 عَلَّمه الله كيف يذيب النحاس:
قال تعالى: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ (سبأ/ 12).
12- سليمان7 نفى الله تعالى السِّحر عنه:
قال عزّوجلّ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ (البقرة/ 102).
13- سليمان7 يستعرض خيله ويتفقّدها:
قال جلّ جلاله: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ﴾ (ص/ 31-33).
14- سليمان7 يمارس دعوته إلى الله من خلال مَلكة سبأ:
قال تعالى في رسالة سليمان7 لبلقيس: ﴿أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ (النمل/ 31).
15- سليمان7 سَنَّ البسملة في افتتاح الرسائل:
قال عزّوجلّ: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (النمل/ 30).
16- سليمان7 يرفض الهدية بديلاً عن الإسلام لله تعالى:
قال سبحانه: ﴿قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ (النمل/ 36).
17- سليمان7 ابتُلي من قِبَل الله تعالى:
قال جلّ جلاله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص/ 34).
18- سليمان7 عبدٌ مُنيب أوّاب (يرجع إلى الله تعالى تائباً مستغفراً):
قال سبحانه وتعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 30).
وقال جلّ وعلا: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص/ 34).
19- سليمان7 عبدٌ شكور (يشكر الله تعالى على نِعَمه كلّها):
قال عزّوجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النمل/ 15).
وقال تعالى عن لسانه ولسان أبيه 8: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل/ 16).
وقال سبحانه عن لسان سليمان7 عندما رأى عرش بلقيس مستقراً عنده: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل/ 40).
وقال جلّ جلاله عن لسانه7 عندما سمع كلام النملة: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ (النمل/ 19).
20- سليمان7.. نهايته:
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ (سبأ/ 14).
معنى سليمان:
سليمان في (قاموس الكتاب المقدّس): المملو (المليء) من السلامة. وقيل مأخوذ من الكلمة العبريّة (شالوم) بمعنى (الصحّة). وسليمان في (التوراة) هو (سلومون بن يسّي)، وقيل: (ايشا بن عوبيد)، وقيل: (عويد بن عامر) من سلالة إسحاق بن إبراهيم الخليل7 وهو ابن داود7 وأُمّه (بتشبع). ولعلّ امتلائه بالصحّة والسلامة أدلّ على اسمه لكونه عاش حياة العافية والمُلك.
تربية داود7 لسليمان7:
الأنبياء عادةً يُصنعون على عين الله، والله تعالى أعلمُ حيث يجعل رسالته؛ لكن ذلك لا يعني أنّ النبيّ أو الرسول لا يتلقّى عناية تربوية من محيطه الاجتماعي، سواء الأُسري: أباً صالحاً، أو أُمّاً صالحة، أو أبوين صالحين، أو من بيئة يفتح عينيه عليها فيرى فسادها فتأباها فطرته السليمة ونفسه الزكيّة، أو يرى صلاحها فيغترف من معينها. ويحيى7في ذلك مثلاً.. فمع أنّه كان نبيّاً؛ لكنه كان يحضر مجالس أبيه زكريا7 ويستمع إلى خُطبه ويبكي لمواعظه، مثلما كان رفيقاً لعيسى7 عاشا قريبين إلى الله تعالى، فيكون يحيى7 قد حظي بعناية السماء، كما اغتنم فرصة الجوّ النبويّ المحيط، وموسى7 عاش عشر سنوات يتلقّى التربية العملية في صحبة نبيّ الله شعيب7، كما رافق الخضر7 تلميذاً يَتعلَّم منه ما لم يَتعلَّمه على غيره، والإنسان -في المحصلة- ابنُ بيئته -حتى النبيّ- ابنُ بيئته، يتأثر ويُؤثر فيها.
لم يذكر التاريخ ولا القرآن الكريم ولا سيرة النبيّ سليمان7 الشيء الكثير عن طفولة هذا النبيّ – المَلك؛ لكننا نستطيع أن نملأ هذا الفراغ، أو هذه المساحة المتروكة من خلال تتبُّعنا لسيرة أبيه النبيّ داود7، ذلك أنّ سليمان7 في النهاية هو نتاج أو ثمرة تربية ربّانيّة سماويّة (عناية إلهيّة)، وأرضية (عناية نبويّة).. وسواء كان داود7 يعلم أنّ ابنه سيكون نبيّاً بعده فأولاه من الاهتمام والرعاية التربوية بما يتناسب ومستقبله النبويّ، أو لم يكن يعلم، فإنّه كأب وكنبيّ حريص كلّ الحرص أن تكون ذُرِّيته صالحة مثله.. فكان لابدّ من بذل غاية المجهود لإعداد هذا التلميذ والابن البار (سليمان) ليكون إنساناً صالحاً؛ لكن الإشارة القرآنية واضحة أنّ داود7 كان على علم بنبوّة سليمان7 وأنّه سيكون وريثه في العلم والنبوّة، لأنّ الخطاب القرآني كان يجمع بينهما في غير موضع، ولعلّ قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ (سبأ/ 13)، شامل لداود وسليمان8 معاً.
نشأ سليمان7 في بيت النبوّة، وبيت المَلك داود7 الذي أعطاه الله مُلكاً عريضاً.. وإذا كان سبحانه وتعالى قد أمر الطير والجبال أن تُسبِّح مع مزامير داود7، فإنّنا لا يمكن أن نعقل أن يكون الصبي سليمان7 بعيداً عن هذه الأجواء التسبيحية التنزيهية التقديسية التي تتجاوب معها الطبيعة البعيدة لا بترجيع أصدائها، بل بالتعبير عن مكنوناتها.. فكيف بالإنسان العاقل الأديب القريب؟
لا شكّ أنّه ومنذ نعومة أظفاره كان يتناغم مع هذه السمفونية الكونية التي تترك في وجدانه النامي بصماتها الحيّة، ليكون هو المُسبّح الأصغر سنّاً الواعي لوقع التسبيحات في مجرى حياته ومجاري روحه.
كانت عينا الصبي سليمان تقعُ على يدي أبيه وهو يطوي الحديد طيّاً ليصنع منه الدروع، لا ليتعلَّم الصنعة (وعين الطفل مرهفة تلتقط بسرعة وتتعلّم بسرعة)؛ ولكن ليعرف أنّ الدروع ألبسة المقاتلين الذين يتقون بها الضربات عند احتدام المعركة.
ومَنْ يدري، فلعلّه كان يُساعد أباه في تلك الصناعة، كما هي عادة الأطفال في التعاون مع آبائهم في أشغالهم.. وإذا صحّت رواية أنّه كان7 يصنع السلال، فهذا يعني أنّ سليمان7 أخذ الحرفة عن أبيه7 الذي كان يؤثر العمل والكسب من كدّ يده، فكان يصنع السلال ويندب مَنْ يبيعها له ويعطيه على ذلك أجراً ليعيش الكفاف وعدم الاعتماد على بيت مال المملكة.
ومن عوامل تربية الأب لابنه اصطحابه إلى الأماكن التي يتلقّى فيها دروساً عمليّة تُحفر في الذاكرة والوجدان قيمها التي لا تَبلى ولا تُنسى.
ذات يوم، سأل داود7 الله تعالى عن قرينه في الجنّة، فأوحى الله إليه أنّه (متّى) أبو يونس. فقال لابنه سليمان: «تعال معي لزيارة أو رؤية رفيقي أو قريني في الجنّة. فجاءا لزيارته ووقفا على مقربة منه ليريا ماذا يصنع، ولماذا استحقّ تلك المكانة أو المنزلة عند الله سبحانه وتعالى. أقبل (متّى) وعلى رأسه وقر (حزمة) من حطب، فباعه واشترى طعاماً (شعيراً)، ثمّ طحنه وعجنه وخبزه، فأخذ لقمة، فقال: بسم الله، فلمّا ازدردها (ابتلعها)، قال: الحمدُ الله، ثمّ فعل ذلك بأخرى وأخرى، ثمّ شرب الماء فذكر اسمَ الله، فلمّا وضعه، قال: الحمدُ لله، ثمّ نظر نحو السماء، فقال مخاطباً الله عزّوجلّ: يا ربّ، مَنْ ذا الذي أنعمت عليه وأوليته مثل ما أوليتني.. قد صححت بصري وسمعي وبدني وقوّيتني حتى ذهبتُ إلى شجرٍ لم أغرسه[2]، ولم أهتم لحفظه، جعلته لي رزقاً، وسُقت إليَّ مَنْ اشتراه منِّي، فاشتريت بثمنه طعاماً لم أزرعه، وسَخَّرت لي النار أنضجته، وجعلتني آكله بشهوة أقوى بها على طاعتك فلك الحمد، ثمّ بكى». (لعلّ سبب بكائه أنّه لم يفِ الله شُكرَه على الرغم من شُكره لكلّ مفردة من مفردات النِّعم التي أنعم الله بها عليه، فكانت دموعه المنسابة على لحيته وخدّيه هي التعبير الاستكمالي للشكر عمّا عجزت عنه كلمات الشكر).
هنا، قال داود7 لسليمان7: «يا بُني، قم فانصرف بنا، فإنِّي لم أرَ قطّ أشكر لله من هذا».
ولنا أن نستكمل ما جرى بعد ذلك -على نحو الافتراض والتصوُّر وعلى نحو ما يحصل في مثل هذه المواقف-، فقد يكون داود7 حاور ابنه سليمان7 عن رأيه في هذا الحطّاب الشاكر (الشكور)، وكيف أنّه لم يدع نعمة أنعم الله بها عليه إلّا وأثنى عليها، حتى تلك النِّعم غير المباشرة أو غير الواقعة تحت اليد والسيطرة والإدراك، كالشجر الذي لم يغرسه، وسوق مَنْ يشتري الحطب منه، والطعام الذي لم يزرعه، والنار التي سَخَّرها الله له، والصحّة التي منحه تعالى لكي يتمتّع بما يأكل، والطاقة التي تساعده على عبادته عزّوجلّ. ولعلّ دموع الحطّاب استوقفتهما أيضاً، ليريا كيف يستوفي هذا الرجل القريب من الله شُكرَ الله بدموعه إذا لم تُسعفه كلماته.
دَرسُ الحطّاب الشكور (متّى) أخذه الإثنان معاً: داود7 وسليمان7.. فكانا يعملان شكراً لله ولا يشكرانه بلسانيهما وبقلبيهما فقط، بل يُوظِّفان كلّ النِّعم التي أغدقها وأسبغها تعالى عليهما في سبيله وفي نفع الناس وخدمة الناس، وسيأتي بيان ذلك مُفصّلاً.
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد أو هذه الحدود من الصُّحبة، بل ينقل القرآن لنا صورة من صور التربية العمليّة في كيفيّة القضاء العادل من قِبل الأب وابنه، الأمر الذي يمكننا من التلميح إلى أنّ سليمان7 كان يحضر مجالس القضاء التي يحلّ فيها أبوه مشاكل الناس ومنازعاتهم، وتعي مداركه سُبُل تحرّي العدل في الخصومات والمنازعات.
وإذا كان بعض المفسِّرين يتحدّثون عن أنّ قضية (النفش) نفش الغنم في الزرع، أي العبث به وإتلافه ليلاً، هي قضيّة واقعيّة حقيقيّة، أفتى أو فصل فيها كلٌّ من الأب والابن بفتوى قضائية مختلفة، فإنّ بعض الروايات تعتبر ما جرى نوعاً من أنواع المناظرة القضائية بين الأب وابنه (تماماً كما يحصل في أثناء المناظرات العلمية والمباحثات القضائية أو المناقشات الفتوائية، حيث كلٌّ يتحرّى عن أفضل السُّبُل المؤدّية إلى الحقّ والمفضية إلى العدل).
وسواء كانت حادثة نفش الغنم في الزرع واقعية لها دلالة موضوعية في الخارج، أو كانت مناظرة علمية فقهية قضائية بين أستاذ وتلميذه، وأب وابنه، وبين نبيّ ومشروع نبيّ، فإنّ ذلك لا يفسدُ الفكرة التي نحن بصددها، وهي تلقّي سليمان7 دروس القضاء الأُولى على يدي قاضٍ عادل يَحكمُ بحكم الله وهو أبوه النبيّ داود7. وكما أنّ التلميذ يمكن أن يكون أمهر من الأستاذ أحياناً، فإنّ ما حكم به سليمان7 في صباه أو في أوّل عهده بالقضاء، يدلّ على أمرين: على أنّ الأستاذ كان ماهراً، وكانت معالجاته القضائية مثار اهتمام الابن التلميذ، وعلى أنّ التلميذ كان من المهارة والذكاء والفطنة ما يُمكِّنه من أن يستلّ من الحلول ما لم يكن يخطر في بال الأستاذ نفسه.
أمّا إذا أخذنا بظاهر القرآن وهو أنّه تعالى عَلَّم كلّاً منهما أسلوباً مغايراً في معالجة القضية الواحدة أو البت فيها بحكمين عادلين مختلفين، ليفتح باب الاجتهاد والتجديد عند الفقهاء والعلماء والقضاة، فإنّ القول بأنّ حُكم سليمان7 كان الأوفق أو الأرفق يعني -في ما يعنيه- أنّ اللاحق يمكن أن يصل إلى ما لم يصل إليه السابق، وأنّ بعض المشاكل لا تجمد على حلٍّ واحد بعينه، بل يمكن استخلاص حلول أخرى مبنية على احتمالات عقلية ونقلية وقرائنية وأُصولية لم تخطر ببال الماضين.
لنقرأ القصة كما رواها لنا القرآن: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾[3] (الأنبياء/ 78-79).
خلاصة القصة:
إنّ غنماً دخلت زرعاً أو كرماً (حديقة عنب) ليلاً من دون راعيها، وعبثت في المزرعة حتى أتلفت ما فيها. جاء أصحاب المزرعة إلى داود7، وسليمان7 حاضرٌ عنده في مجلس القضاء، فرفعوا شكواهم ضدّ الراعي الذي ترك أغنامه تعبث وتفسد في المزرعة ولم يكن معها ليمنعها. فقضى داود7 بالغنم لصاحب الزرع؛ ولكنّ سليمان7 قال لأبيه: الأرفق بالرجلين -(صاحب الغنم) و(صاحب المزرعة)- أن يأخذ صاحب المزرعة الغنم لينتفع بها سنة، لا على سبيل التملُّك والحيازة، وأن يأخذ صاحب الغنم المزرعة التالفة ليصلحها حتى يعود زرعها كما كان، وعندها يردُّ صاحب المزرعة الغنم إلى صاحبها، ويردُّ صاحب الغنم المزرعة إلى صاحبها، فاستحسن داود7 حكم ولده وعمل به.
بعض المفسِّرين يقول: إنّهما إنّما اختلفا في إجراء الحُكم بما يملكان من حُرِّية في التطبيق، أي في الموارد التي ليس فيها تشريع مُحدَّد، بما يُصطلح عليه فقهياً بـ«منطقة الفراغ التشريعي»، فيكون للحاكم أو القاضي أن يملأه بما هو صالح، وبذلك يكون معنى تفهيم المسألة لسليمان7 الإيحاء له بالأسلوب الأرفق في إجراء الحكم.
في (أُصول الكافي)، عن أبي بصير، سألتُ الإمام الصادق7 عن الآية، قال: «لا يكون النفش إلّا بالليل.. إنّ على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار، وليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار، فما أفسدت فليس عليها وعلى صاحب الماشية حفظ الماشية في الليل عن حرث الناس، وما أفسدت في الليل فقد ضمنوا وهو (النفش). فداود حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم (أي تسليمه الغنم بدل ما أتلف من زرعه)، بينما حكم سليمان7 بإعطاء النتاج، نتاج الأغنام من الصوف وما تلد هذه الأغنام لمدّة سنة (مدة إصلاح البستان). فكان حُكم داود7 أشدّ، بينما كان سليمان أخفّ على صاحب الغنم، وكلا الحكمين من عند الله عزّوجلّ».
ورُوِي عن الإمام الباقر7 أنّهما لم يحكما، إنّما كانا يتناظران، أي يتناقشان في مسألة افتراضية لها مصاديق في الخارج، فكان جبران الخسارة عند داود7 إعطاء الغنم بدل الزرع التالف، وكان جبرانها عند سليمان بانتفاع صاحب المزرعة من الأغنام ريثما يتم إصلاح بستانه.
من هذه القصة، يمكن استخلاص الدروس التربوية التالية:
1- تقدُّم العمر أو السنّ لا يقف حائلاً دون انتفاع الأكبر سنّاً من علم الأصغر سنّاً لاسيما إذا كان هذا مشهوداً له بالفطانة وبالعلم والفهم والقدرة على الحكم.
2- الحل الأوفق والأرفق هو الذي يجب أن يؤخذ به عن أيٍّ من القضاة أو الفقهاء أو العلماء صدر، فالحقّ أحقُّ أن يُتّبع، والله يُريد بالناس اليُسر لا العُسر.
3- المناظرة أو المناقشة سبيلٌ من سُبُل الوصول إلى حلول أفضل، لأنّها نتاج تلاقح عقول وأفكار وخبرات وتجارب، الأمر الذي يدعو إلى تواصل الأجيال لا إلى تقاطعها.
ومن خلال هذه الجولة في قراءة حياة سليمان7 قبل النبوّة والمُلك، يمكن أن نخلص إلى أنّ سليمان7 لم يدخل عالم النبوّة ولا عالم المُلك دخولاً فورياً من غير مقدّمات وموطّئات أعانته على استكمال تجربة أبيه والتوسُّع فيها، كما سيتبيّن.
المقابلة بين داود7 وسليمان7:
للجواب عن سؤال كيف استكمل سليمان تجربة سلفه وأبيه النبيّ داود7 وكيف أضاف إليها، ننظر إلى المتقابلات الآتية:
1- كلاهما آتاهما الله تعالى (النبوّة):
قال تعالى في ذُرِّية إبراهيم7: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ (الأنعام/ 84).
وقال جلّ جلاله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾ (النِّساء/ 163).
2- كلاهما آتاهما الله (المُلك):
قال عزّوجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ (سبأ/ 10).
وقال سبحانه: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل/ 16).
3- كلاهما آتاه الله (الحُكم) القضاء و(العلم):
قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الأنبياء/ 79).
4- كلاهما كان (أوّاباً) أي كثير الرجوع إلى الله تعالى:
قال عزّوجلّ عن داود7: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 17).
وقال جلّ جلاله عن سليمان7: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص/ 34).
5- كلاهما كان عبداً شكوراً:
قال تعالى عن داود7 وأهل بيته: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ (سبأ/ 13).
وقال سبحانه عن سليمان7: ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ (النمل/ 19).
وقال جلّ جلاله عنهما معاً: ﴿وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النمل/ 15).
6- كلاهما كانا قاضيين بالعدل:
قال تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (الأنبياء/ 78-79).
7- كلاهما سُخِّرت له قوى طبيعية وغير طبيعية:
قال تعالى عن داود7: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الأنبياء/ 79).
وقال سبحانه عن سليمان7: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل/ 17).
(يُوزَعون: يتبعونه في كلّ ما يأمرهم به، ويطيعونه ولا يتقدّمون عليه في السير).
8- كلاهما طُوِّعت المعادن الثقيلة بين يديه:
قال تعالى عن داود7: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ (سبأ/ 10).
وقال سبحانه عن سليمان7: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ (سبأ/ 12).
(عين القطر: النحاس المذاب).
9- كلاهما كان مؤيّداً بعدّة قوى:
قال تعالى عن داود7: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 17).
وقال جلّ جلاله عن سليمان7: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ (الأنبياء/ 81-82).
هذه هي نقاط التقابل أو التشابه بين داود7 وبين سليمان7 وهي ليست نقاط تماثل وتطابق؛ ولكنها مشتركة بين الإثنين وإنْ تفاوتت سعةً وضيقاً، أو رحابةً ومحدوديةً.
أمّا النقاط التي يمكن الإشارة إليها على أنّها من مختصات سليمان7 دون أبيه داود7، فهي:
1- مُلك سليمان7 أعرض وأوسع وأشمل وأكمل:
قال تعالى على لسان سليمان7: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ﴾ (ص/ 35-38).
لا ينبغي لأحد من بعدي: هو الأوّل من حيث سعته وهو الأخير الذي يبقى مدى الدهر بلا نظير.
رخاء: لينة.
غوّاص: يستخرج له اللؤلؤ والمرجان.
مُقرّنين في الأصفاد: مُقيّدين بالسلاسل لتمرُّدهم على طاعته.
لاحظ أنّ الجبال والطير مأمورة من قِبَل الله تعالى للتسبيح مع داود7.. أمّا في مُلك سليمان، فالتسخير والتوظيف من قِبل الله تعالى، ولكن الأوامر من حيث الإجراء والتنفيذ بحسب إرادة سليمان7.
2- ورث سليمان7 كلّ شيء عن أبيه وزاده الله سعةً وشمولاً:
قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل/ 16).
3- سليمان7 أكثر رفقاً في قضائه:
قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ (الأنبياء/ 79).
4- القرآن حدَّثنا عن نهاية سليمان7 ولم يذكر نهاية أبيه داود7:
قال تعالى عن موت سليمان7: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ (سبأ/ 14).
دابة الأرض: الأرضة (النمل الأبيض الصغير الذي يأكل الخشب).
منسأته: عصاه.
لماذا طلب سليمان7 المُلك؟
لماذا (المُلك)؟ أما كان في النبوّة كفاية؟ أما كان في القضاء والعلم غنى عن المُلك الذي لا ينبغي ولا يكون لأحد من بعد سليمان، حتى لا يُقرن أو يقارن به مُلك، مهما بلغ واتسع، فيبقى مُلكه7 الفريد المتفرِّد بين الممالك كلّها، حتى إذا استقللنا مُلكاً وقد عظم في أعين الناس نقول: هل هو مُلك سليمان؟! أو هل وصل سلطانُ فلان إلى ما وصل إليه مُلك سليمان الذي مَلَكَ شرق الأرض وغربها؟!
القرآن الكريم لا يعطينا جواباً مباشراً وصريحاً عن السؤال؛ ولكننا نستشفّه من خلال بعض المعطيات والدلائل:
1- في عرض طلبه للمُلك، يقول 7: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (ص/ 35).
في عريضة الطلب سؤالان: (اغفر لي) و(هبْ لي). قَدَّم 7 المغفرة ليعلن أنّه ليس طالب مُلكٍ دنيويّ، ولا يصحُّ ولا يليق به كنبيّ أن يطلب من الله ما لا ينسجم مع رضاه تعالى أو مما قد يصرفه عن طاعته وعبادته والتعلُّق به، أي إنّه يسأل الله النجاة من غواية (الدنيا) و(النفس) و(الشيطان)، وأنْ يعصمه من أن يكون من المتهالكين على الدنيا.
في سؤاله الثاني أو اللّاحق، يسأل الله (موهبة) أو (هبة) لعلمه أنّ الله تعالى (وَهّاب) يهب لمن يشاء ويمنع مَنْ يشاء لمصلحة هو الأعلم بتقديرها، ولأنّه تعالى قادر على أن يهب أنبياءه مُلكاً لا نظير له في الممالك الدنيوية قاطبة منذ أن نشأت وحتى يوم يرث الله الأرض ومَنْ عليها. وبهذا يريد سليمان7 (وهذا ما تفرضه طريقة تفكير الأنبياء الأكثر زُهداً في متاع الحياة الدنيا) أن يُوظِّف (المُلك العظيم) في خدمة (المَلِك العظيم الأعظم)، وأن يضع نِعَم الله الجليلة في مواضعها السليمة، حيث احتياج الناس إليها، لا أنّه طالبُ حُكمٍ أو مُلكٍ للمُلكِ ذاته.. وحينما تكون أدوات التمكين واسعة وكافية وكاملة، تكون القدرة على الدعوة أمنع وأرفع وأوسع.
وهذا ما كان يَتطلّع إليه سليمان7 -كما يمكن استشفافه من طلبه-، فهو يريد الأرض كلّ الأرض خاضعة لله، طائعة له، عابدةً ومعبودة له، تؤدّي رسالتها الأُولى التي انتُدبت إليها الإنسانية في أوّل الخليقة بأن يكون الإنسان «خليفة» الله في الأرض لا ليُفسد فيها أو يُسفكَ الدماء، وإنما ليُعمّرها ويُصلحها ويرتقي بها إلى أعلى درجات الكمال.
لنتأمّل ذلك من خلال دعوته ملكة سبأ (بلقيس) إلى توحيد الله تعالى: ﴿أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ (النمل/ 31)، ومن خلال رفضه الهدية الثمينة والنفيسة المقدَّمة من قِبلها بديلاً عن إيمانها بالله والاستجابة لطلبه بالإسلام له، وبالمعنى المتداول اليوم رفض أن يساومها على دعوته بالمال، فهو فوق أن يفكّر بالثروة وقد آتاه الله خيراً منها، قال تعالى على لسانه: ﴿قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ (النمل/ 36)، إنّكم (أنتم) لا (أنا) الذي يفرح بالهدية العظيمة، لأنّكم دنيويّون تهمّكم قيمة الهدايا ونفاستها، أمّا أنا فربّاني لا اهتم لمادّي حتى وإن طلبت من الله مُلكاً عريضاً لا يُقاسُ به غيره مهما عظم، فإنّما طلبته لأتقرّب به إليه لا لأبتعد به عنه.
2- من خلال الصفات التي خلعها الله تعالى عليه قبل أن يهب له المُلك.. إنّه (أوّاب) والأوّاب الرجّاع وسريع الرجوع إلى الله تعالى يستغفره ويتوب إليه في كلّ غفلة، ويشكره ويذكره، ويستعين به ويتوكّل عليه.. وإنّه (مُحسن) والمُحسن الذي لا يصدرُ عنه إلّا الحُسن الذي لا يطعنُ فيه العقلاء، فهو يُحسن التصرُّف في ما أنعم الله تعالى به عليه فلا يضعه إلّا في المواضع التي تستدرّ رحمته ورضاه سبحانه وتعالى.. وإنّه (عالم) أي ذو علمٍ ينفي عنه جهل الجاهلين ويعرف قيمة النعمة فيشكرها بالعمل والخدمة وفي كلّ ما هو خير ونافع ونبيل ويرفع من مستوى الحياة ويُقرِّب من الله سبحانه وتعالى، وعلى ضوء (علمه) و(إحسانه) ومرجعيته الدائمة إلى الله، كيف يمكن أن نتصوّر طلبه مُلكاً لا يُضاهى؟ إنّه بلا أدنى شك حُكمٌ أو مُلكٌ يعيش فيه الناس (الرخاء)؛ لكنهم لا يبطرون أو يفسدون أو يطغون، ما داموا يرون أُسوتهم الحسنة نبيّهم 7 يملكُ كلَّ شيء ولا يملكهُ شيء!! وهل الزُّهد في حقيقته وجوهره إلّا هذا؟!
3- يُضاف إلى هذا وذاك أنّ من صفاتِ سليمان7 هو أنّه إنسان (شكور) كثير الشُّكر لله: يشكره بقلبه، إذ يذكر كلّ نعمة تخطر على باله وينسبها إلى الله المنعم المتفضِّل (كما فعل الحطّاب «متّى» الذي ربّما بقيت صورته حيّة في ذاكرة سليمان الصبي حتى بعد أن أصبح ملكاً)، ويشكرها بعمله بأن يُوظِّفها في خدمة البلاد والعباد، ويشكرها بلسانه، وهذا ما نراه في أكثر من موضع ترد فيه النعمة، فيردفها 7 بالشُّكر.
لاحظ الأشكار (جمع شكر) الآتية:
1- شكر الله تعالى على نعمة المُلك بالمطلق، فقال: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل/ 16)، وقد أشرنا إلى أنّ ذكر النعمة وخطورها على القلب واعتبارها من الله هو بحد ذاته شكر.
وشكرَ الله تعالى على ما آتاه في رسالته الثانية إلى (بلقيس)، فقال: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ (النمل/ 26)، وهذا شكرٌ بالضمن لتقديره أنّ الله تعالى مَنَّ وأنعم عليه بما هو خيرٌ من أملاك الممالك والملوك.
2- عندما أخبره الذي عنده علم من الكتاب إنّه قادر على أن يأتيه بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، شكر الله تعالى، فقال: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل/ 40). لم ينسب سليمان 7 نعمة إلى نفسه قطّ (هذا من فضل ربِّي)، واسم الإشارة هنا بليغ في ردّ كلّ نعمة إلى صاحبها ووليها الذي أنعم بها وأغدقها عليه.
3- عندما سمع كلام أميرة أو ملكة النمل في خطابها لأتباعها أن يدخلوا مساكنهم لئلّا يُحطِّمنّهم سليمان7 وجنوده، قال 7: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ (النمل/ 19)، فهو 7 إذا حضرت النعمة أو استحضرها شكرها مفردةً مفردة كالحطّاب (متّى) قرين أبيه داود 7 في الجنّة، ثمّ إنّه يقرن شكره لله لا بالنعم الخاصّة به فقط، بل بالنعم التي أنعمها سبحانه وتعالى على والديه، إمّا بنعمته عليهما بأن رزقهما ولداً نبيّاً، وإمّا بنعمة المُلك، وإمّا بتفضيل آل داود على كثير من المؤمنين، أو هذه كلّها.
والملاحظ إشراكه أُمّه مع أبيه في إشارة إلى صلاح الأُم أيضاً، وأنّه تلقّى في طفولته تربية صالحة من أبوين صالحين. كما أنّه يطلب إضافة إلى ذلك أن يلهمه الله الشكر على كلّ حال وفي كلّ حال، يسأله تعالى أن يعمل صالحاً يرضاه عزّوجلّ، وهذا هو المراد من ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ (سبأ/ 13)، أي إنّه يقول بما مؤدّاه: يا ربّ، طلبتُ إليك مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، وقد أجبتني إلى ما طلبت.. يا ربّ، أتمم عليَّ نعمتك بأن يكون هذا المُلك مسخّراً لك وفي عبادتك وطاعتك وخدمة الناس، ثمّ يختم بأن يسأل الله جلّ جلاله أن يدخله في عباده الصالحين العادلين، لا في زُمرة الملوك والسلاطين الظالمين الجائرين.
4- بحسب المصطلح الوارد في بعض الأحاديث والروايات، فإنّ سليمان7 يُحسن مجاورة النِّعم. ورد عن النبيّ6: «أحسنوا مجاورة النِّعم، لا تُملّوها ولا تُنفِّروها، فإنّها قلّما نفرت من قوم فعادت إليهم»[4]، وعن الإمام عليّ7: «أحسنوا صُحبة النِّعم قبل فِراقها، فإنّها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها»[5]، وجاء عن الإمام علي الهادي7: «ألقوا النِّعم بحُسن مجاورتها، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها»[6].
ومعلومٌ أنّ النِّعم تزداد بالشكر، قال تعالى في سُنّة من سُننه وقانون لطيف من قوانينه: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم/ 7)، وعن النبيّ6: «ما فتحَ الله على عبد باب شكر فخزن عنه (منع) باب الزيادة»[7]، وعن الإمام محمّد الباقر7: «لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العباد»[8]، ورُوِي عن الإمام جعفر الصادق7: «مكتوبٌ في التوراة: أشكرْ مَنْ أنعم عليك، وأنعم على مَنْ شكرك، فإنّه لا زوال للنعماء إذا شُكرت، ولا بقاء لها إذا كُفرت، والشكر زيادة في النِّعم وأمان من الغير (أي من متغيرات وتقلبات الزمان)»[9].
وسليمان7 باعتبار علمه، وتربيته في بيت نبوّةٍ ومُلكٍ يكثر فيه الشكر، وتُستحضر دائماً دعوة آل داود للعمل شكراً، يعلم أنّ كلّ ما هو فيه من الله ولا فضلَ له فيه أبداً.. وهذا هو (حقُّ الشكر).
أوحى الله تعالى لموسى7: «يا موسى، أشكرني حقّ شكري. فقال: يا ربّ، كيف أشكرك حقّ شكرك، وليس من شكرٍ أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به عليَّ؟! فقال: يا موسى، شكرتني حقّ شكري حين علمت أنّ ذلك منِّي»[10]..؟ وبهذا لا يكون سليمان7 استحقّ المُلك فقط، بل استحقّ الزيادة أيضاً.
5- سليمان7 معروفٌ بشهادة القرآن إنّه حاكمٌ عادلٌ ومُحسنٌ أيضاً، ولقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا7 قوله: «استعمال العدل والإحسان مؤذنٌ بدوام النعمة»[11]. وعن الإمام عليّ7: «مَنْ بسط يده بالإنعام حصّن نعمته من الانصرام»[12]. وعنه 7 أيضاً: «مَنْ كَثُرت نِعَم الله عليه كَثُرت حوائج الناس إليه، فمَن قام لله فيها بما يجب فيها عَرَّضها للدوام والبقاء، ومَنْ لم يقم فيها بما يجب عَرَّضَها للزوال والفناء»[13].
وفي هذا إشعار لكلّ الملوك والأُمراء والرؤساء وأصحاب السلطة والسلطان، أنّ المُلكَ (مسؤولية) و(أمانة) و(نعمة) لابدّ أن تُشكر حقّ شكرها بالإنعام إلى الناس، وقضاء حوائجهم، وتحسين معاشهم، واستتباب أمنهم.
6- ليس سليمان7 الوحيد الذي سأل الله فأعطاه، صحيح أنّ المُلك الذي طلبه (ولم يطلبه لذاته ولملذّاته) عريض لا أعرضَ في الممالك كلّها منه، بل كلّنا يسأل الله فيعطيه من كلّ شيء فيه مصلحة، قال تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم/ 34)، وقال جلّ جلاله: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ (لقمان/ 20)، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف/ 74).. فنحن ملوكٌ أيضاً ولكن لا نشعر، والله المُنعم على (سليمان) هو نفسه المُنعم على (الإنسان)؛ ولكن ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
إنّ الفرق بين سليمان7 كإنسان أنعم الله عليه فشكر نعمته كما ينبغي الشكر، وبين أي إنسان آخر غير شكور، هو مشكلة الغفلة عن النعمة والجهل بقدرها وقيمتها وتمام شكرها وعدم الإحسان لصُحبتها أو مجاورتها، وعدم تسخيرها في خدمة الناس، والأدهى من ذلك هو الغفلة ونسيان المنعم المتفضل بها.
بين سليمان7 وقارون:
(قارون) لم يكن مَلكاً حاكماً، وإنّما كان مالكاً لثروة طائلة وهائلة يصفها القرآن بقوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص/ 76-83).
بغى: طغى مُتجبِّراً.
مفاتحه: مفاتيحه.
لتنوأ: تثقل.
العُصبة: الجماعة.
حظّ: نصيب.
ويلكم: الهلاك والعذاب لكم.
يقدر: يُضيِّق.
الغايةُ من هذه المقابلة هي المقارنة بين مالكٍ لمُلكٍ عظيم، ومالكٍ لثروة تنوء بحمل مفاتيح كنوزها جماعة من الناس.. هذا أنعم الله عليه، وهذا أنعم الله عليه، فكيف قابلَ كلّ منهما النعمة؟
(المقارنة هنا ليست تاريخية، هي مقارنة حيّة بين نوعين من ملوك الثروة والسطوة في كلّ زمان ومكان).
1- (قارون) لمّا وجد نفسه أثرى الأثرياء، شعر بالطغيان والاستعلاء والاستكبار على الناس، صعد على جبل ثروته وراح ينظر لمن هم في السهل على أنّهم (ديدان صغيرة).. أمّا سليمان7 حينما وجد مُلكاً لا ينبغي لمن بعده، قال: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ (النمل/ 40).
2- (قارون) اعتبر أنّ ملكيته للثروة الطائلة هي نتاج جهود شخصية بحتة لا فضلَ لأحد عليه فيها، لأنّه جمعها بذكائه ودهائه وتعبه، فماذا قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (القصص/ 78).. أمّا عندما تأمّل سليمان7 في مُلكه العريض، قال: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل/ 16). قارون ينسى أنّ الله الذي منحه أدوات الكسب والإرادة والعقل وسَخَّر له المكاسب، فلا يرى من رازق له إلّا نفسه التي جدّت واجتهدت وحازت وتوصّلت.. أمّا سليمان7، فيُرجع ذلك كلّه إلى الله المتفضِّل المنّان الذي لا رازق ولا مُنعم سواه.
3- (قارون) فرحٌ بطرٌ مغترٌّ بثروته، يرى فيها القيمة كلّ القيمة.. وسليمان7 عندما تُعرض عليه هدية الملكة (بلقيس) المجزية، يقول: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ (النمل/ 36).. لستُ أنا الذي يفرح بالمال وبالهدايا وقد ملكتُ الدنيا، فرحي الحقيقي أن تُسلموا لله كما أسلمت، لا أن تُضيفوا لمُلكي شيئاً من مُلككم أو ثروتكم، وإنّكم لتفكِّرون بغير الطريقة التي أُفكِّر فيها.
4- (قارون) لم يبتغِ في ما آتاه الله الدار الآخرة، كلّ همّه واهتمامه منصبٌّ على فسحة الدنيا يفرح بها ويطغى ويبغي ويتعالى على الناس ويفسد في الأرض، فيما ابتغى سليمان7 بكلّ مُلكه الحافل والكامل رضا الله والدعوة إليه وتسليم الناس له: ﴿أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ (النمل/ 31).
5- (قارون) كان يخرج على الناس (الفقراء والبسطاء والضعفاء والمحرومين) يستثير سخطهم على حظّهم وحسدهم لما هو عليه من النِّعم، فكانت زينته وبذخه وأبهته وخَدَمه ورياشه[14] مما يسيل له لعاب بعض الناس الذين لا يرون إلّا ظاهراً من الحياة الدنيا.. بينما ورد في سيرة سليمان7 أنّه كان في منتهى التواضع والزُّهد، فكان يلبس لباس الشعر تزهُّداً في زخارف الدنيا، وكان إذا دخل مجلساً فيه أغنياء وفقراء تصفّح الوجوه، فيجوز (يبتعد) عن الأشراف والأغنياء، حتى يصل إلى الفقراء فيقعد معهم، ويقول: "مسكين مع المساكين"، وكان يعمل بيده سفائف الخوص، ثمّ يبيعها ويأكل من ثمنها، وكان يُطعم أضيافه اللحم ويأكل هو الشعير غير منخول، كما في الرواية عن الإمام الصادق7.
وحتى لو لم يلبس سليمان7 اللباس الخشن أُسوة بالفقراء والضعفاء حتى لا يتوجّعوا من فقرهم وزراية بؤسهم، فإنّ اللباس لا يُشكِّل عند النبيّ -أيّ نبيّ- قيمة مهما كان قيِّماً في سعره. في الرواية عن الإمام جعفر الصادق7: «أما علمت أنّ يوسف7 نبيّ ابن نبيّ كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب، ويجلس في مجالس آل فرعون يحكم، فلم يحتج الناسُ إلى لباسه، وإنما احتاجوا إلى قسطه (عدله)»[15].
6- انتهت حياة (قارون) بأن خسف الله تعالى به الأرض (انشقّت وابتلعته هو وثروته)، فماذا بقي من كنوز قارون وزينته غير الإشارة إلى سعة الثروة؟ وانتهت حياة سليمان7 بأن مات واقفاً أو متكأً على عصاه، وتزلزل مُلكه بموته؛ لكن ما بقي من سليمان7 علمه وعدله وحكمته ولطفه بالناس، وشكره لله، ودعوته له، وإخلاصه له، ومثله في أنّ المُلك (وسيلة) للتقرُّب إلى الله بخدمة عباد الله، لا (غاية) للتباهي والتعالي والطغيان والعدوان.
والله تعالى يختم لنا المقابلة والمقارنة بمبدأٍ فصل: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص/ 83).. فأين (قارون) وأين (سليمان) في حسابات الآخرة، بعد أن انتهت حسابات الدنيا في توظيف كلّ مالكٍ للثروة أو السلطة لثروته وسلطته: من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟
مملكة سليمان7:
لا نحتاج إلى المبالغة في توصيف سِعة مُلك سليمان7 بما يزيد على ما ورد في القرآن الكريم، لأنّ ما جاء في كتاب الله من إشارات (ومن عادة القرآن أنّه يُجمل ولا يُفصّل) كافٍ للتعرُّف على مدى ما بلغه مُلك سليمان7، بل ويكفينا قوله تعالى: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ (ص/ 35)، دلالة على أنّ مُلكه 7 لم يُسبَق ولم يُلحق، فهو بلا نظير حيث آتاه الله من كلّ شيء.. فما هي مفردات مُلكه البارزة التي أشار القرآن إليها؟
أوّلاً- تسخير الإنس والجنّ له 7:
قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ﴾ (النمل/ 17).
حُشِرَ: أخرج من مقرّه إلى العمل أو الحرب.
(حُشِرَ) فعل مبني للمجهول، فالله تعالى هو الحاشر وهو الذي جعل أُمّةً أو جماعة من الناس والجنّ ينخرطون في خدمة سليمان7 لأداء مهامه الكبرى.. هم جنود وعُمّال مُسخَّرون لمهمّات عملية وجهادية وعمرانية وبحسب مقتضيات العمل في مملكة واسعة الأطراف تحتاج إلى فرق عمل من جميع الاختصاصات.
ثانياً- تسخير الشياطين له 7:
قال تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ (الأنبياء/ 82).
وسَخَّر سبحانه وتعالى لسليمان7 الشياطين، وهي مخلوقات من نار، وهي معروفة بالقوّة الغضبية (كما في مفردات الراغب). والشيطان اسم لكلّ عارم (شرس وشديد ومشاكس) من (الجنّ) و(الإنس) و(الحيوانات)، ومهمّة هؤلاء الشياطين هي الغوص في البحر لاستخراج اللّالئ.. وكذلك ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ (سبأ/ 13).
محاريب: معابد.
تماثيل: المنحوتات التي لها صور الأشياء الحيّة وغير الحيّة.
جفان كالجواب: قصاع ضخمة تشبه الأحواض الكبيرة.
قُدور راسيات: قُدور ثابتة يطبخ فيها طعام للطاقم الضخم العامل في مملكة سليمان7 ولضيوفه أيضاً.
هؤلاء الشياطين أُنيطت بهم مُهمّات مُحدَّدة يعرفونها جيِّداً، ويُنفِّذونها جيِّداً، ولا أحد يتخلّف عن دوره في نظام المملكة التي أوكلت لكلّ شريحة مهمّاتها الخاصّة بها.
ثالثاً- تسخير الطيور له 7:
قال تعالى: ﴿وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل/ 17).
للطيور في مملكة سليمان7 وظائفها المحدَّدة أيضاً، ويكفينا أن نعرف أنّ (الهُدهُد) -كنموذج للطير- كان يخدم الجيوش المتقدِّمة في العثور على مواطن المياه لقدرة نظره الثاقبة على معرفة خزائنه في الأرض، وأنّه يقوم بمهمّات استطلاعية (كما سيتبين من حديثنا عن هُدهُد سليمان). وقد علَّم الله تعالى نبيّه سليمان لغة الطير، فكان يحادثها وتحادثه، ويحاورها وتحاوره، وهذا ما يتضح من حواره مع (الهُدهُد)، بل أوتي أو عُلِّمَ منطق الحيوانات والحشرات أيضاً، وهذا ما نطالعه في سماعه لخطاب النملة لأصحابها وأتباعها.
رابعاً- تسخير الرِّيح له 7:
قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ (الأنبياء/ 81).
دور الريح هنا هو دور الطائرات الفائقة السرعة التي تقلّ سليمان7 وجنوده وعُمّاله إلى حيث يشاء ويأمر، فيُوجِّهها في أغراض الدعوة وتَفقُّد رعاياه ومناطق نفوذه، من وإلى بيت المقدس، والريح من جند الله يمكن أن يُوظِّفها -جلّ جلاله- حتى في غير الأشياء المألوفة والوظائف الدارجة المعروفة.
يقول عزّوجلّ في سرعة جريان الريح وانتقالها بسليمان من مكان إلى مكان: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ (سبأ/ 12).. فكما تجري قياسات السرعة بالضوء اليوم، يصف القرآن سرعة الرياح الناقلة لسليمان7 بأنّها تقطع مسيرة شهر كامل في الذهاب، ومسيرة شهر كامل بالإياب (أي بحسابات السرعة عند الناس، وإلّا فهي تذهب في نفس اليوم وتعود في نفس اليوم).
خامساً- تسخير النحاس له 7:
يقول تعالى: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ (سبأ/ 12).
عين: سائل.
القِطر: الحديد أو النحاس أو الرصاص.
تُطلق العَين للسيلان، وللمعدن الثمين، فيقال للذهب (عَين) كونه أفضل المعادن والجواهر، فالله تعالى جعل المعادن الثمينة سهلة الانصهار والذوبان بالنسبة لسليمان7 لحاجته إليها في صناعة الفولاذ والصلب والبناء والإعمار والأدوات التي تدخل هذه المعادن في صناعتها، الأمر الذي يشير إلى أنّ الفولاذ حاجة من حاجات الصناعة الثقيلة التي تمنح مُلك سليمان ومملكته هيبتها المادّية، إضافة إلى هيبتها المعنوية.
ونحن نلاحظ أنّ القرآن لا يُفصِّل في هذه الأُمور، وإنّما يُشير إليها إشارات، وإلّا فمن أين أتى عُمّال سليمان7 بالزجاج لصناعة (الصرح الممرّد) ذي الزجاج الصقيل الشفاف الذي لا يكاد يُميِّز الواطئ له والماشي عليه بينه وبين الماء؟!
بعد هذه المُمكّنات من بناء مملكة غير مسبوقة ولا ملحوقة النظير، هل يحتاج سليمان7 إلى خاتم حتى يديره بإصبعه ليأمره بما يشاء؟ وهل يحتاج إلى السِّحر ليوظِّفه في تحقيق ما لم يتحقّق على يدي التسخيرات الإلهيّة لكلّ شيء؟ يقول تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ (البقرة/ 102).
إنّ السِّحر بحسب التعبير القرآني (كُفر)، ولذلك لا يمكن أن يلجأ سليمان7 إلى السِّحر والخداع والتمويه ليتحكّم بالناس والأشياء من خلاله على الطريقة الميكافيلية في أنّ الغاية تُبرِّر الوسيلة حتى ولو كانت الوسيلة قذرة ومنحطة، وإنّما هم اليهود الذين نسبوا السِّحر لسليمان7 وقالوا: ما تمَّ لسليمان من المُلك وتسخير الجن إلّا بسبب السِّحر، فَكذَّبهم الله تعالى.
الأنبياء الملوك:
لم يكن سليمان7 وحده الملك بين أنبياء الله تعالى وأوليائه، وإنْ كان هو الأوسع مُلكاً، فأبوه داود7 كان مَلكاً، قال تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الأنبياء/ 79). وإذا أخذنا بمعنى التسبيح على أنّه أداء كلّ مخلوق لوظيفته على أكمل وجه، فهي مُسخَّرة له كما سخّرت بعده لسليمان7، ولقد ألان الله تعالى له الحديد، ومنحه عدّة قوى لم يُشِرْ إلى تفاصيلها، قال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 17)، والأيدي كناية عن القوى المساندة والمساعدة والمجاهدة في بناء مملكته.
يوسف7 كان أيضاً مَلكاً على مصر بعد أن مات مَلكها الذي وَظّفه في وزارة الاقتصاد والمالية، يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾ (يوسف/ 56).
وذو القرنين7 كان قد أوتي من كلّ شيء سبباً، ومَكَّنَ الله له في الأرض حتى وصل إلى مطلع شمسها ومغربها، والطريف أنّه بنى السّد من زُبر الحديد وأفرغ (صبّ) عليه قِطراً نحاساً مُذاباً، مما يؤكِّد أهميّة الحديد والنحاس في الصناعة وفي بناء القدرات المادّية الضخمة، تماماً كما في مملكتي داود وسليمان8(لاحظ أنّ العصر الصناعي كان على عهد هؤلاء الملوك أيضاً).
والغرض من الإشارة إلى الأنبياء والأولياء الملوك هنا هو أنّ أيّاً منهم لم يُوظِّف مُلكه في نزواته الذاتية وطموحاته الشخصية، وإنّما سخّر المُلك كأداة من أدوات الدعوة إلى الله وخدمة الناس وتنمية الحياة، يقول تعالى على لسان ذي القرنين عندما عُرِض عليه المال في مقابل بناء السّد: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ (الكهف/ 95).
ألا ترى هذا القول وقول سليمان7 لمن جاءه بهدية بلقيس واحداً؟ ألا يدلّ ذلك على أنّ شخصية المَلك عند هؤلاء الرُّسُل والأولياء لم تُسقط ولم تقدح ولم تطعن ولم تقلل من شأن كونهم أنبياء الله الذين ارتفعوا بالنبوّة والعلم والحكمة والعدل لا بالمُلك كثروة وسلطان؟!
منطق الطير:
يقول تعالى على لسان سليمان7: ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (النمل/ 16).
وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ (الأنعام/ 38).
وقال جلّ جلاله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ (الإسراء/ 44).
عالم الحيوان، ومنه عالم الطير، بحسب تصريح القرآن الكريم، عالمٌ قريب الشبه من حيث نظامه وطريقة حياته وعلاقاته وتفاهماته وصراعاته من عالم الإنسان، ولا غرابة، فكلا الجنسين مخلوقان من مخلوقات الله تعالى.
رُوي عن (ابن عباس) إنّ وجه التماثل هو أنّها تعرف الله وتُسبِّحه وتحمده كما يفعل المؤمنون منّا[16].. وللماثلة وجوه كثيرة لعلّ ما أشار إليه ابن عباس أحدها استيحاءً من معنى الآية (44) من سورة الإسراء: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.. والدراسات العلمية الحقلية في عالم الحيوان تأتي في كلّ يوم بجديد من أسرار هذا العالم المكتنز بالعجائب والغرائب.
سليمان7 لا يتحدّث عن لغة تفاهم بالإشارات مع الحيوانات والطيور، وإنّما عن لغة تامّة كاملة يفهمها إذا تكلّمت وتفهم عليه إن تكلّم، ويجري بينه وبينها حوار، كما في نموذج حواره 7 مع الهُدهُد الذي ستكون لنا معه وقفة متأنية.
وإذا كان الشاعر الفارسيّ (فريدالدين العطّار) قد أسمى أحد كُتُبه بـ(منطق الطير) مستخدماً المصطلح القرآني ذاته، فإنّه قد وظّف منظومته الشعرية الرمزية البالغة (4500) بيتاً حول هجرة الطير للبحث عن الطائر الوهمي (السيمرغ)[17].
والطيور هنا ترمز إلى السالكين إلى الله من أهل العرفان.. وأمّا السيمرغ، فيرمز إلى الله تعالى. والطريف أنّه جعل تلك الطيور تختار (الهُدهُد) ليكون ممثلاً عنها. وقد فعل صاحب (كليلة ودمنة) الشيء ذاته عندما جعل طائفة من الحيوانات تتحدّث بلغة رمزية ذات طابع حِكَمي وأخلاقي وسياسي، حيث تضرب الأمثال وتطلق على ألسنة الحيوانات ليتعظ منها الإنسان، وهدفها إصلاحي اجتماعي سياسي.
والحيوانات -بكلّ أجناسها- تُعلِّم الإنسان دروساً حركيّة مهمّة يستفيد منها في تنظيم عمله وتعاونه وسائر شؤون حياته. ولقد استثمر (أحمد شوقي) قصّة هُدهُد سليمان ليُنظِّم في ذلك قصيدة هادفة مُعبِّرة، ومنها قوله في استنطاق الهُدهُد وحديثه مع سليمان7:
وَقفَ الهُدهُدُ في با بِ سُلَيمانَ بذلّة
قال يا مَولايَ كُن لي عيشَتي صارَت مملّة
متُّ من حبَّه بُرٍّ أَحدَثَت في الصَدرِ غلّة
فيقول على لسان سليمان:
فأشارَ السيِّدُ العالي إِلى مَن كان حَولَه
قَد جَنى الهُدهُدُ ذَنباً وأتى في اللُؤمِ فَعلَه
تلك نارُ الإِثمِ في الصَد رِ وَذي الشَكوى تَعِلَّة
ما أَرى الحبَّة إلّا سُرِقَت مِن بَيتِ نَملَة
إنَّ للظالِمِ صَدراً يشتكي مِن غَيرِ علّة
ولا يخفى ربطه للقصة بـ(النملة) لمّا جاء ذكرها في قصة سليمان7 في سورة (النمل)، بل إنّ قصيدته الأخرى (كانت النملةُ تمشي) تصف أو تحاكي نملة سليمان أكثر في تعبيرها عن صغر حجمها أمام الجيش الجرّار، فشوقي يقارن بينها وبين جبل المُقَطّم الهائل، فيقول:
كانت النملةُ تمشي مرّةً تحتَ المُقطَّمْ
فارتخى مَفصِلُها من هَيبةِ الطَّوْدِ المعظَّمْ
وانثنتْ تنظرُ حتى أوجد الخوف وأعدم
قالت: اليومَ هلاكي حلَّ يومي وتحتّم!
ليت شعري كيف أنجو ـ إنْ هوى هذا ـ وأَسلمْ؟
ثمّ يختم بجواب المُقطَّم:
صاحَ لا تخشَ عظيماً فالذي في الغيْب أَعظم
نسوق هذه الأبيات التربوية للتدليل على أنّ حديث القرآن عن النحل والنمل والطير والحيوان فيه من الدروس والعِبَر ما يجعل من جنس الحيوان والطير مدرسة غنيّة بتعاليمها لابدّ للإنسان الباحث عن التنمية البشرية الأخذ بها، أو توظيفها في سياقات تعليمية وتربوية وتنظيمية تُوصل رسائلَها الوعظية بشكل أبلغ من قصص الإنسان المباشرة أحياناً. ولعلّ هذا هو أحد أسباب نجاح أفلام الكرتون وإقبال الصغار والكبار عليها لمحاكاتها للحيوان واستماعها إليه وهو يحكي ويحاور ويُفكِّر ويُعبِّر.
ذات يوم كان سليمان7 جالساً مع أصحابه، فصاحت الطيور فَفسَّر كلامها لهم ليعلموا أنّ الصيحات ليست أصواتاً فارغة لا معنى لها، وإنّما هي تحميدات وتسبيحات ومواعظ وحِكَم:
صاح (ورشان)[18]، فقال سليمان: يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب.
وصاحت (فاخته)، فقال سليمان: تقول: ليتَ الخَلق لم يُخلقوا.
وصاح (طاووس)، فقال سليمان: يقول: كما تُدين تُدان.
وصاح (هُدهُد)، فقال سليمان: يقول: مَنْ لا يَرحم لا يُرحم.
وصاح (صرد)[19]، فقال سليمان: يقول: استغفروا الله يا مُذنبين.
وصاح (طوطي) [20]، فقال سليمان: يقول: كلّ حيّ ميت، وكلّ جديد بالٍ.
وصاح (خطّاف)[21]، فقال سليمان: يقول: قدِّموا خيراً تجدوه.
وهدلت (حمامة)، فقال سليمان: تقول: سبحان ربّي الأعلى ملءَ سماواته وأرضه.
وصاح (قُمري)[22]، فقال سليمان: يقول: سبحان ربّي الأعلى.
وسواء صحّت الرواية أو لم تصح، فإنّ ترجمة سليمان7 لكلام الطيور يكشف عن أنّها (تُسبِّح) الله؛ ولكننا لا نفقه تسبيحاتها، وإنّ لكلّ ما ورد في ترجماته لأصواتها له أُصول دينية وقرآنية، وهذا لا يعني أنّ لغة الطيور هي هذه فقط، وإنّما ترجم سليمان7 لنا أصواتها وصياحها وزقزقاتها وهديلها، وإلّا فالقرآن واضحٌ في تبيان أنّ اللغة (لغة الطيور) أوسع من هذه الصيحات بما جرى من حوار بين الهُدهُد وبين سليمان7.
ومما ورد في سيرته 7 أيضاً، أنّه سمع مرّة حواراً بين (عصفور) و(عصفورة)، فقد كانت الأُنثى تمنع نفسها عن معاشرة الذَّكر، فقال الذَّكر مُبيِّناً قوّته لأُنثاه: لو شئت أخذت قبة سليمان فألقيتها في البحر!
فتَعجَّب سليمان7 من كلام العصفور وتَبسَّم ضاحكاً، ثمّ أنّه 7 طلب العصفورين، وقال للعصفور: هل تطيق أن تفعل ما قلته للعصفورة من إلقاء قبتي في البحر؟!
قال العصفور: لا يا نبيّ الله؛ ولكن المرء قد يُزيِّن نفسه عند زوجته، والمُحب لا يُلام على ما يقول، ثمّ توجّه سليمان إلى العصفورة، وقال: لِمَ تفرّين من زوجك وهو يحبّك؟
قالت العصفورة: يا نبيّ الله، إنّ زوجي لا يحبّني، وإنما هو يدَّعي ذلك، والدليل على أنّه لا يحبّني، أنّه يحبّ غيري!!
هنا جاشت في نفس سليمان الخواطر الإلهيّة، فكيف يمكن أن يدّعي محبّة الله مَنْ يحبّ غير الله؟! إنّ عصفورة صغيرة تعرف أنّ محبّتين لا تجتمعان في قلب واحد ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ (الأحزاب/ 4).. فكيف يقول الإنسان إنّي أُحبّ الله، وهو يحبّ الدنيا؟ ولذا تأثّر سليمان 7 بكلام العصفورة، وبكى بكاءً شديداً، وأخذ يدعو الله سبحانه أن يملأ قلبه من محبّته، ويفرغ قلبه من محبّة ما سواه[23]. (انظر كيف يجعل سليمان7 من العصفورة مُعلِّماً)!
وذات مرّة كان سليمان7 جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملة تحمل حبّة قمح تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة أخرجت رأسها من الماء، ثمّ فتحت فاها، وخرجت النملة من فمها وليست معها حبّة الحنطة.. هنالك دعى سليمان النملة يستفسرها عن الخبر؟
أجابت النملة: يا نبيّ الله، إنّ في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء قد خلقها الله هنالك، وهي لا تقدر على رزقها، وقد وكَّلني الله برزقها، فأنا أحملُ رزقها، وهذه الضفدعة مأمورة أن تحملني إليها، فإذا وصلنا إلى الدودة، وضعت الضفدعة فمها على ثقب الصخرة فأدخلها وأنا آمنة من البلل، فألقمُ الدودة رزقها، ثمّ أخرج إلى فم الضفدعة لتردني إلى الجرف.
قال سليمان7 وهل سمعتِ أيّتها النملة من الدودة تسبيحة؟
قالت النملة: نعم، إنّها تقول: «يا مَنْ لا تنساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجّة برزقك، لا تنسَ عبادَك المؤمنين برحمتك»! (اللّهمّ اشملنا بدعاء تلك الدودة العمياء)!
وهناك قصص أخرى لسليمان7 مع حيوانات أخرى، نكتفي بما سردناه كدلالة على محاوراته لمخلوقات من عالم الحيوان والطيور، وإنّ منطق الطير الذي يتحدّث عنه القرآن ليس هو مجرّد الصيحات والإشارات، وإنّما هي لغة كاملة لها تراكيبها ومفرداتها التي عَلَّمها سليمان7 فكان يحاورها بلغتها.
هُدهُد سليمان7:
يقول تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ (النمل/ 20-28).
من قصة هُدهُد سليمان يمكننا أن نستلّ الدروس التالية:
1- القائد أو المدير أو المسؤول عليه أن يتفقّد رعاياه أو العاملين معه وتحت خدمته، فيسأل عن غياب الغائبين وأسبابه، ويتعهّد العاملين بإخلاص برعايته، ويتحقق من المدّعين حتى تثبت صحّة ادعائهم، لأنّهم في النهاية مسؤوليته وعلى مدى تفقّد أحوالهم يمكن أن يضبط سير العمل، ويُقلِّل من فرص التسيُّب والانفلات والتهاون. سليمان7 فعلها ليؤكِّد هذه المعاني، فلابدّ للقائد من أن يتفقّد جنوده ليتعرَّف الغائب منهم والحاضر، لأنّ لكلٍّ منهم موقعه من خارطة العمل، فإذا غاب غائب أثَّر على سير العمل، أو يُنتدب مَنْ يحلّ محله لحين عودته.
كان الهُدهُد غائباً من غير عُذر ولا إجازة طلبها من سيِّده سليمان7، مما أثار استغراب وحنق سليمان7 عليه، فكان لابدّ أن يسأل: أين الهُدهُد؟ هل حجبه شيء فلا أراه؟ أم هو غائب عن وظيفته من دون أذن منِّي؟! ونظام الغياب والحضور معمول به في المعاهد والمدارس والجامعات، مثلما مأخوذٌ به في الشركات والثكنات والمؤسسات. ولئلّا يتجرّأ غيره على فعل فعله، أسمع سليمان7 الجميع تهديده للهُدهُد، إنّه سيُعذِّبه بطريقته إن كان هناك ما يستوجب العذاب، أو يذبحه إن كانت جريمة غيابه فادحة تستوجب الإعدام؛ ولكن سليمان7 استخدم الحكمة في عدم التعجُّل بالحكم عليه حتى يسمع منه: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ (النمل/ 21)، أي بدليل أو حجّة قويّة مقنعة تُبرِّر غيابه غير المشروع، أي إنّه قرَّر أن يُعطيه فرصة الدفاع عن نفسه.
2- عاد الهُدهُد من رحلته أو من غيابه، فمثل بين يدي سيِّده سليمان7 ليُقدِّم له العُذر المعقول والمقبول ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ (النمل/22) حتى يتسنّى له مخاطبة سيِّده ويتمكّن سيِّده من الاستماع إليه، فبادره بتقديم اعتذاره: ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (النمل/ 22)، ومن عادة القرآن اختصار التفاصيل والجزئيات، حيث نراه يدخل في المهم مباشرة، ويترك أسئلة من قبيل: أين كنت؟ ولماذا لم تخبرني؟ لفطنة القارئ وإدراكه.. فنحن نستمع إلى الجواب الذي يُفسِّر الغياب وهذا هو المهم.
وهنا لابدّ لنا من أن نتعرَّف شيئاً عن خصائص الهُدهُد من خلال الدراسات العلمية التي توفَّرت على فهم طبيعته ومميزاته.. فالهُدهُد له طريقة خاصة في الطيران، فلا يستقر على مجرى واحد.. وهو من أصدقاء الفلّاحين، فهو يُنظِّف الأرض من الديدان واليرقات والآفات، ومشاهدته علامة على نقاء البيئة من المبيدات الحشرية.. وهو غير مستقر في مكان واحد، بل هو دائم التنقُّل والترحال من مكان لآخر بحثاً عن الغذاء.. وله قابلية عجيبة في طلب الماء والكشف عن تواجده تحت الأرض.. يتميّز بسرعته الفائقة في الطيران والعدو، وقد تصل سرعته إلى نحو 40 كم في الساعة.. والعرب يضربون المثل بقوّة إبصاره، فيقولون: أبصر من هُدهُد.
وذكر (الجاحظ) زعم بعض الناس أنّه كان يُدلّ سليمان على مواضع الماء. وأثبت الباحثان (ديفيد ليجون) و(ساندرا ليجون) من قسم الأحياء في جامعة (نيومكسيكو) الأمريكية بأنّ الهُدهُد من أكثر الطيور تعاوناً ومحبّة للمساعدة خصوصاً لأفراخ من أعشاش أخرى تابعة لأبناء جنسه. وبيّنت دراسات حديثة أنّه أكفأ من الحمام في استخدامات النقل والاتصال، فهو أسرع طيراناً وأكفأ في الدفاع عن نفسه وتحمُّله للجوع والعطش، فضلاً عن ذكائه ومكره المشهور بهما[24].
من هذه المعلومات الخاصّة بالهُدهُد نخلص إلى خصائصه التي تهمّنا في وظيفته كجندي من جنود سليمان7:
1- إنّه دائم التنقُّل والترحال وسريع سرعة فائقة في الطيران.
2- من أكثر الطيور تعاوناً ومحبّة للمساعدة.
3- يمتاز بقوّة إبصاره الحادّة والنفّاذة التي تخترق قشرة الأرض لتكشف عن مواضع الماء.
4- كفوء في الدفاع عن نفسه.
5- معروف بذكائه ومراوغته ومكره.
كلّ هذه الخصائص والخصال تُمكِّن الهُدهُد من مُهمّات ربّما لا يستطيع غيره من جنود سليمان7 على أدائها، فهو ليس مُنقِّباً عن الماء فقط (خاصّة في رحلات سليمان الطويلة وفي قطع جيوشه للمسافات البعيدة)، وإنّما هو مراسلٌ صحفيٌّ من الطراز الأوّل، ومخبرٌ سرّيٌّ بامتياز، بل ويمكن الاصطلاح عليه عسكرياً بأنّه (كتيبة استطلاع).
كيف نُقيِّم احترافيته أو حرفيّته الصحفية والإعلامية؟
1- جاء بخبرٍ غير مسبوق (سبق صحفي) ومعلومة جديدة لم يكن سليمان7 نفسه على دراية أو اطلاع عليها، ونقله بثقة عالية (بنبأ يقين).
2- حَدَّد مكان الخبر (سبأ).
3- نقل تفاصيل الخبر: (ملكة) و(مملكة) و(عرش عظيم) و(قوم يعبدون الشمس).
4- حَلَّل الخبر وقرأه بنفسه: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (النمل/ 24-26).
ولسنا بحاجة إلى الخوض في معرفة الجواب عن سؤال: لماذا لم يستأذن الهُدهُد سيِّده سليمان7 في مهمّته الصحفية أو الإعلامية تلك؟ فقد يكون في مهمّة استطلاعية للبحث عن الماء، ومرّ في الأثناء بسبأ؟ وقد يكون ذلك في أثناء أداء مهمّة أخرى وعرضت له قصة سبأ وملكتها عَرضاً؟ وقد يكون تصرّف بإذن الفحوى، أي إنّه يعلم أنّ مهمّة كهذه، وإنْ لم يُكلَّف بها، مما ترضي سليمان7، لأنّها تأتي في الصلب من عمله ودعوته لله تعالى، فهو -أي الهُدهُد- يحرز سلفاً رضا سيِّده على القيام بهذا العمل المجيد، بعد أن يُطلعه على تفاصيله ويُقدِّر أهميّته بنفسه.
وباختصار، فإنّ عدم إنزال العقوبة بالهُدهُد كافٍ للدلالة على أنّ سليمان7 رَحَّب بعمله؛ لكنّه أراد تحرّي الدقّة في صحّة الخبر المنقول.
3- الدرس الثالث المستفاد من القصة هو عدم التسليم بصدقية خبر إلّا بعد التبيُّن والتحرّي والتدقيق، ولذلك قال سليمان7 الحكيم بعد سماع الخبر من الهُدهُد: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (النمل/ 27)، أي سنتعرّف على حقيقة الخبر بمزيد من البحث عن معلومات إضافية تُضيء جوانب أخرى منه.. وسليمان7 هنا ليس في صدد تكذيب الهُدهُد، وإنما هو في موضع السعي للاطمئنان من صحّة الخبر لأنّه يُريد أن يُرتِّب عليه أثراً، الأمر الذي يجعلنا نُدقِّق كثيراً في الأخبار التي تصلنا عسى أن نُصيب قوماً بجهالة ونحن لا نعلم.
ولهذا بعث سليمان7 رسالة مع الهُدهُد (ناقل الخبر نفسه) إلى بلقيس مَلكة سبأ، لم يبعث معه مرافقاً للتأكُّد من صدقه، خاصّة وأنّ الهُدهُد قَدَّم (دعوىً) من غير (بيِّنة)، إلّا أنّ سليمان7 الذي يريد أن يعالج مشكلة الشِّرك في المملكة السبأية أو البلقيسية، قال للهُدهُد: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ (النمل/ 28).. ولأنّ الهُدهُد واثق من صدقه، هرع لنقل الرسالة.. وكان جواب بلقيس ضمن الوفد الذي بعثته إلى سليمان7 والهدية المقدّمة من قِبَلها دليلاً ساطعاً على أنّ الهُدهُد مراسلٌ صحفيٌّ دقيقٌ وصادقٌ في النقل، ومخبرٌ سرّيٌّ لا تفوته إشارة أو لفتة ذكيّة.
(مَلكةٌ) تُدينُ بدين (المَلك):
قال تعالى عن استلام بلقيس لرسالة سليمان7 وردّة فعلها: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (النمل/ 29-44).
ماذا تُقدِّم لنا قصة إسلام المَلكة بلقيس على يدي النبيّ الملك سليمان7؟
1- (بلقيس) مَلكة عاقلة، حكيمة، مُتأنية، مُتريثة، تعمل مع طاقمها الإداري بروح شوروية.. فلمّا وصلتها رسالة سليمان7 جمعت أشراف قومها لتخبرهم برسالة سليمان7 وتنقل لهم (نصّ) الرسالة، لا (روحها) أو (فحواها)، حتى يشاركوها الرأي في ما يسمعون.. وبعد أن تفرغ أو تنتهي من تلاوة الرسالة، تتوجّه إليهم بالسؤال: ﴿أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾ (النمل/32)، فهي لا تريد أن تَتفرَّد بالرأي أو أن تستأثر به، وإنما تشارك رجال مملكتها عقولهم، وتستخرج آرائهم وصولاً إلى الحل الأوفق الذي يحفظ للمملكة هيبتها من غير تهوُّر وانفعالات عاطفية متشنجة.. وهي لا تسوق سؤالها على نحو المجاملة ووضع العقبات، بل تؤكِّد أنّها ليست استبدادية تحسم أمراً خطيراً ومفصلياً يهم المملكة بأسرها برأي هي تبديه أو تتفرّد به، فتختم بالقول: ﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ (النمل/ 32)، أي لابدّ من حضور آرائكم في المشكلة الخطيرة التي تتعرّض لها المملكة.
2- رجال المملكة ورؤساء مرافقها وقادتها العسكريون لم يكن لهم رأي مستقل، ولو كان لبان ولأظهروه لها؛ لكنهم ثقةً منهم بعقلها وحُسن تدبيرها في المواقف الصعبة أوكلوا الأمر إليها، قائلين باعتراف وتواضع صريحين: ﴿نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ (النمل/ 33).. وهنا درسٌ في احترام الاختصاص والطاعة لأهل الخبرة، فالرجال أبطال وشجعان ومقاتلون لكنهم ليسوا سياسيين، والقضية سياسية تتطلب موقفاً سياسياً حكيماً.
3- تكشف (بلقيس) عن سبب احترام رجال مملكتها وثقتهم بها من خلال مقولتها ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (النمل/ 34).. فهذا هو ديدن الملوك والجبابرة والطغاة المستكبرون يقلبون عاليها سافلها إلّا ما رحم ربّي، والقرآن يؤيِّد قولها ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.. هذا بلحاظ أنّ بلقيس لا تعرف حتى الآن سليمان حقّ المعرفة، فحسبته في البداية مَلكاً كباقي الملوك الباطشين.. وأردفت تحليلها للموقف بحلّ اختباري، حيث اقترحت إرسال هدية ثمينة إلى سليمان فإن قبلها فهو مَلك يُرحِّب بالهدايا التي تُسكِّن فورته الاحتلالية، أو رغبته الهجومية، وإن رفضها فهو نبيّ فعلاً، ثمّ اختارت بعض رجالها كممثلين عن المملكة ليزوروا سليمان7 حاملين إليه هديتها، وتبقى تنتظر جواب سليمان، وعلى ضوئه تُقرِّر الخطوة التالية.
4- وصل الوفد السبأيّ البلقيسيّ إلى سليمان7، وما أن قدّموا له الهدية حتى رفضها، معتبراً إنّ عطاء الله وهبته له أكبر من كلّ هدايا الملوك وأعظم من ممالكهم (ولعلّ الوفد رأى ذلك بأُمّ عينيه)، وأبى 7 إلّا أن يطيعوه بترك عبادة الشمس والاتجاه لعبادة الله وحده لا شريك له، وإلّا فإنّهم إذا أصرّوا على شركهم، فإنّ جيش سليمان7 قادرٌ على إخضاعهم بالقوّة؛ لكنه لا يُفضِّل هذا الخيار العنيف، وإنما يُريدهم أن (يُسلموا) لا أن (يَستسلموا)!
5- من جهته، حاول سليمان7 أن يستبق الردّ البلقيسيّ بمفاجأة من العيار الثقيل، فطلب إلى أحد جنوده وأقدرهم على تنفيذ المهمّات الصعبة أن يأتوه بعرش بلقيس من سبأ ليوضع في جوانب من قصره.. فتبارى إثنان: أحدهما (عفريت من الجن) وعده بأن يأتيه به قبل أن يقوم من مقامه (للقضاء وفض المنازعات وقضاء حاجات الناس) أي في بضع ساعات. والثاني ﴿عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ (النمل/40) وعده بالإتيان به قبل أن يطرف جفنه، فقدّمَ الأسرع تلبية، ولم ينتهِ العالم من كلامه حتى كان العرش ماثلاً أمام سليمان.. كيف؟ لا يهم.. إنّه حضر بقدرة استثنائية وفوق العادة، وهل إنّ ما يجري في مُلكِ سليمان من ريح كأنّها (البُراق) تنقله إلى حيث يشاء من أطراف الدنيا وحواره مع الطير، وتسخير الجنّ له وغير ذلك، هو من السائد المألوف؟
6- ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ (النمل/ 40)، وهذا يعيدنا إلى أنّ سليمان7 عبدٌ شكور لا يذكر نعمة لله عليه إلّا ويشكرها، ويُذكِّر نفسه أنّها اختبار لمدى توظيفها في الصالح العام الذي هو تعبير مقابل للتعبير القرآني (في سبيل الله).. ويعلم سليمان7 أنّ الشاكر الذاكر الموظِّف لنِعَم الله في مرضاة الله إنما يشكر لنفسه لأنّ الله غنيٌّ حميد، وأنّ الشاكر يحظى بمزيد من النعم ودوام التوفيق والصفاء والصلاح والاستقامة.
7- أراد سليمان7 من إحضار العرش عدّة أُمور: أن يُدلِّل على قدرة خارقة ومعجزة تجعل بلقيس (تُوقنُ) يقيناً لا أن (تُؤمنُ) إيماناً إملائياً أنّ سليمان7 نبيُّ الله، وما يفعله بإذنه تعالى. وأن يختبر مدى ذكاء الملكة وحسابها لردّة فعلها من جهة ثانية.. وقد طلب إجراء بعض التغييرات السطحية أو الطفيفة على العرش لمجرد التغطية والتمويه. (فلمّا جاءت قيل: أهكذا عرشك؟)، فلم تتسرّع في الإجابة القاطعة، بل قالت: (كأنّه هو)، وكأنّها استبعدت أن يصل عرشها من اليمن إلى الشام قبل أن تصل هي إلى سليمان. وحينما اكتشفت الحقيقة، اكتشفت معها أنّها في حضرة (نبيّ) لا في حضرة (مَلِك). ولأنّ اختبارات الملوك من جنس إعجابهم بالأبهة والعظمة والأشياء التي فوق العادة، فقد فاجأها سليمان7 بإدخالها في بناء عالٍ مشرف على القصر معدّ لنزول الضيوف، فلمّا وضعت قدمها على أرضيته رفعت حاشية ثوبها خوفاً من البلل، ولم يكن هناك ماء، وإنما زجاجٌ صافٍ رقراق يشبه في صفائه الماء، وربما كان الماء يجري تحته فيختلط الصفاءان ويصعب عليها التمييز بين صفاء الزجاج من صفاء الماء، وهذا ما لا يقدر كلّ علماء مملكتها على صناعة وإبداع مثله.
وعلى ذلك، فإنّ سليمان7 تعامل مع بلقيس في سبيل إقناعها بدعوته بأسلوبين: (فكري) وهو أنّ الله تعالى وحده يستحقُّ العبادة، و(عملي) بنقل عرشها وتنكيره، وبإسكانها في أبهة ملوكية لم يسبق لها أن جرَّبتها في سني مُلكها كلّها. وكدليل على رجاحة عقلها، أنّها لم تأخذها الملوكية بالعزّة بالإثم، ولم تُقدِّم نفسها كملكة لملك، وإنما وجدت نفسها إنسانة عادية أمام نبيّ: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (النمل/44).. نطقتها بتواضع العالِمُ للحقيقة، وخشوع المؤمن للإيمان، وطاعة المخلص لربّه، والنادم على ما فَرَّطَ في جنبه.
إنّ إذعان (بلقيس) لدين غير دينها، وهي ملكة ذات عرش عظيم، وأوتيت من كلّ شيء، درس لكلّ الملوك والرؤساء في احترام الحقيقة والركون إليها بقطع النظر عن موقع الإنسان من الثروة أو السلطان.. كما هو درسٌ في أنّ في النساء عاقلات مَنْ ينحني لهنَّ رجال كثيرون، ويرفعون لهنَّ القبعات.. والمسألة في النهاية مسألة (عقل) لا مسألة (جنس)!
الانشغال عن ذكر الله بالمُلك:
يقول تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ﴾ (ص/ 31-33).
والصافنات من الخيل هي التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحاف. والجياد الخيول السريعة. وخلاصة القصة أنّ سليمان7 استعرض ذات يوم الخيل حتى غابت الشمس، ففاتته الصلاة.
وللمفسِّرين في (التواري) و(الردّ) أربعة احتمالات:
1- الضميران معاً عائدان للشمس (أي غابت فطلب سليمان7 من ربّه ردّها).
2- الضميران عائدان إلى الخيل (أي غابت عن النظر فطلب 7 إرجاعها).
3- الضمير الأوّل عائد إلى الشمس، والثاني إلى الخيل (أي غابت الشمس فطلب إرجاع الخيل).
4- الضمير الأوّل عائد إلى الخيل، والثاني إلى الشمس (أي توارت الخيل، فقال سليمان ردّوا الشمس إليَّ).
وقيل إنّ (المسح) يعني القطع أيضاً في اللغة.. فإنّه 7 أراد أن يُعبِّر عن توبته واستغفاره بطريقة الضدّ النوعي، أي إنّ الخيل التي شغلته عن ذكر الله وقطعته عن عبادة (قيل هي صلاة واجبة، وقيل هي نافلة)، تُقطع رؤوسها وأعناقها وتُقدّم لحومها إلى الفقراء تكفيراً عن إشغالها له.. وقيل إنّ الخيل كانت معدّة للجهاد، فيكون 7 قد انشغل بعبادة عن عبادة.
وأيّاً كان الاحتمال أو التفسير للغياب والردّ، فإنّ من بين دروس القصة أنّ الثروة والمُلك قد تشغلان أو تصرفان عن العبادة والذّكر، وإلفاتات النظر القرآنية من هذا القبيل كثيرة، أمّا كيف كان الانشغال، وكيف يمكن لنبيّ معصوم أن ينسى واجباً مكلَّفاً به؟ وغيرها من أسئلة وشبهات تُطرح ويردّ عليها بالتنزيه، أو النسيان، أو الاستغراق في الأسباب الدنيوية، فإنّها لا تتضاد ولا تتنافى مع خبر ردّ الشمس لسليمان7 حتى لا تكتب عليه فريضة أو عبادة فات وقتها ولم يؤدها في وقتها.. فالانشغال حصل والردّ حصل أيضاً، والله الذي قَيَّض لسليمان الريح تطوي به وله المسافات الشاسعة بطريقة إعجازية، يمكن أن يُقيِّض له ردّ الشمس حتى بعد تواريها عن الحجاب، وتبقى مسألة الانشغال بأُمور دنيوية وإن لم تكن بحتة بالنسبة للنبيّ درساً محطّ نظر واهتمام، ثمّ إنّه 7 -في رواية ذبح الخيل وإطعام لحومها- إنما ذبحها إظهاراً للندم وبقصد القربة إلى الله ولئلّا تشغله عن الطاعة مستقبلاً، والاعتذار لله ومعاقبة النفس فضيلة، فلماذا الوقوف عند جانب وعدم مبارحته لآخر؟! علماً أنّ محبّة الدنيا على الوجه المباح -كما يقول (الشريف المرتضى)- ليس بذنب، وإن كان غيره أولى منه[25].
إبتلاء سليمان7:
إذا اعتبرنا مسألة انشغال سليمان7 بالخيل حتى غابت الشمس فلم يدرك صلاة العصر، نوعاً من الابتلاء الذي يتعرّض له ذوو الثروات الطائلة والمُلك العريض عن غير قصد أحياناً، فإنّ الابتلاء الثاني الذي تَعرَّض له7 كجزء من اختبار تنغيص النعيم الدنيوي بمرض أو غيره، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص/ 34)، وهنا يستدعينا البحث في قصة سليمان7 أن نُسجِّل الملاحظات التالية استيحاءً من الآية الكريمة:
1- حتى الملوك والأنبياء والأصفياء مُعرَّضون للابتلاء وبأشد أنواعه، إذ ليس هناك استثناء في الابتلاءات الرَّبّانية.. وكما أنّ ابتلاء الفقراء لمعرفة مدى الصبر، فإنّ ابتلاء الأثرياء لمعرفة مدى الشكر. (أيوب7 كان ثرياً قبل الابتلاء فنزع الله عنه مُلكه، فكان صابراً شاكراً حتى انتهاء مدّة الاختبار، بل وقبلها وبعدها أيضاً). وفي ذلك تربية للشخصيات الربّانية العالية وصقل لمواهبها، وزيادة في القُرب والضراعة واللجوء والرجوع إلى الله، والثبات في مواطن التحدّي والابتلاء.. أما تأمّلت في وصف الله تعالى لعبده سليمان بقوله: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 30)، وفي هذا جواب ونِعم الجواب!
2- سواء كان الجسد الذي ألقي على كرسي العرش السليماني، جسده المثقل بالمرض الذي أنهكته العلّة حتى عاد شلواً لا يستطيع القيام بمهام المُلك، وفي ذلك عبرة عظيمة لمن يريد أن يعتبر ممّن أطغاه المال، وأسكرته الثروة، وشغله المُلك عن المالك، وعن استرداد عافيته إلّا بلطف منه، أو كان جسداً ميتاً لطفلٍ له ليريه الله تعالى في سلب نعمة من نعمه عليه فلا يقدر استردادها مهما عظمت قوى مُلكه أو اتّسعت.. أو على رواية إنّه ظنّ بأنّ طوافه على نسائه سيمنحه قوّة إضافية في عدد المجاهدين بما يلدنه له من غير أن يربط ذلك بإشاءة الله جَلَّت قدرته، وإذا بواحدة فقط تضع مولوداً ميتاً أُلقي على كرسيّه، ليُنزِّهه الله عن الحرص على الدنيا أو التعلّق بغير حوله وقوّته، وهو الذي وهبه كلُّ هذا الملك، وكلُّ هذه القدرات الاستثنائية.
3- الأنبياء: أيضاً يستغفرون ويتوبون لتركهم الأولى والأفضل لاقترافهم المعصية.. وفي ذلك درسٌ بليغ للأدنى منهم أن يكون جديراً بالندم والتوبة، وأن يتأسّى بالرُّسُل والأنبياء، الذين يندمون ويبكون على ترك ما كان يجب أن لا يُترك من الأصلح والأولى والأرجح. وقد يتعرّض الأنبياء إلى الابتلاءات والصدمات والمنبّهات التي تزيد وترفع درجة اندكاكهم بخط الله والانقياد له في كلّ شيء، وليس في ذلك ما يناقض العصمة أو يصطدم بمفهوم النبوّة.
رفقاً بالضعفاء والمستضعفين:
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ (النمل/ 18-19).
نملةُ سليمان7 كهُدهُد سليمان7 ذكيّة، شديدة الانتباه والاستشعار عن بُعد، حريصة ومتعاونة مع أبناء جنسها، تخاف على بطش الكبار على اعتبار أنّ النمل حشرات صغيرة لا يُعبأ ولا يُؤبه بها، وكثيراً ما يقدّمنّ الضحايا فيكنّ مسحوقات تحت الأقدام من غير أن يشعر (الساحقُ) بـ(المسحوق)!
اقترب جيشُ سليمان الهائل الجرّار من وادٍ من وديان النمل (مستعمرة من مستعمراته)، فلمّا عرفت كبيرةُ النمل أو المكلَّفة بالرادار والرصد بزحف الجيش السليمانيّ، أرسلت إشارة تحذير وإنذار لباقي النمل أن كونوا على حذر، فقد يفنيكم الجيش الزاحف من غير أن يعلم أنّه يرتكب بحقّكنّ جريمة إبادة، ويكسركنّ من غير أن يطرف له جفن أو يذرف عليكنّ دمعة، ابتعدوا عن طريقه بالدخول إلى الملاجئ.
فسمع سليمان7 نداء النملة الخائفة على أبناء قومها من بطش جيشه بهنّ، وأصدر بدوره تعليماته للجيش بالتنحّي عن طريق وادي النمل لئلّا يُدمِّر المخلوقات الضعيفة السهلة الكسر، فماذا يمكن أن تستلهم من دروس وعِبَر القصة؟
1- يُمثِّل النمل، بحسب الإحصائيات الأحيائية، 20% من الكائنات الحيّة على كوكب الأرض، ويوجد منها (400) ألف نوع، أغلبها من صنف العاملات أو الشغّالات، ويعيش النمل في مستعمرات لكلّ مستعمرة مَلكة. والنمل مجتمعات مُنظّمة، متعاونة، تبني وتتكلّم وتحسُّ وتدافع.. وعلى الرغم من صغر النملة، فإنّ دماغها له فُصّان يجعلانها قادرة على التفكير والتحليل. وقد أثبتت دراسات نملية ميدانية قام بها علماء حشرات أنّ النملة تتكلّم فعلاً، وباستخدام معدات حديثة ودقيقة جداً، نجحوا في تسجيل صوتها. ويعتبر قول ملكة النمل أو مسؤولة الرادار (لا يُحطِّمنّكم) إعجازاً علمياً، حيث تَوصَّل العلماء إلى أنّ جسم النملة يتكوّن من 90% من مادّة السليكون التي تدخل في صناعة الزجاج والرقائق الإلكترونية.. وبالتالي، فالنملة سهلة الكسر تماماً كما الزجاج، ويعدُّ كلّ ضعيف كذلك. ولعلّ قول النبيّ6 في الضعيفات (النساء) «رفقاً بالقوارير» ملحوظٌ فيه هذا الجانب، لأنّ القارورة (الزجاجة) تنكسر بسهولة.
2- الدرس الكبير المستوحى من هذا المخلوق الصغير (النملة) أنّ الكائنات ليس بحجمها، بل بما هي عليه من قدرة، وتدبير، وحُسن إدارة، ومشاعر وتعاطف وتعاون، والنملة حائزة على هذه الخصائص كلّها، والقائد المهزوم الذي تَعلَّم من النملة كيف تصرُّ على حمل الحبّة التي تسقط منها مراراً من دون أن يثني عزمها، أو تملّ من تكرُّر السقطات، استلهم درساً في الثبات والصمود حتى عاد وقاتل وانتصر.. فالنملةُ كما (النحلةُ)، وكما كلّ حشرة وكلّ طائر وكلّ حيوان، مُعلِّم من مُعلِّمي الإنسان لو كان الإنسان ينتفع بعلم.. والدرس الملحقُ بهذا، هو أنّ قدرتك ككبير لا تجعلك تدوس الصغير أو تستهين به أو تستصغره أو تحتقره أو تزدريه، ولسوف نعلمُ بعد حين أنّ (الإرضة)، وهي نوع من أنواع النمل، أنهت مُلك سليمان عندما أشرفت حياته على النهاية، وصدقَ الإمام عليّ7 حين قال: «لا تستصغرنّ عدواً وإنْ ضعف»[26].
3- شكرُ سليمان7 الله تعالى على سماعه نداء النملة شكرٌ مُركّب: هو شكرٌ على الاستماع إلى ما لا يستمع إليه إنسان، فهو ميزة وتفضيل ونعمة خاصّة.. وشكر على أنّه سَمِعَ الإنذار قبل وقوع الجريمة فتحاشى التحطيم. يقول الإمام عليّ7: «والله لو أعطيتُ الأقاليم (السماوات) السبعة بما تحت أفلاكها على أنْ أعصي الله في نملة أسلبها جُلْبَ شعيرة ما فعلت»[27]. وجُلْبَ الشعيرة قشرتها، فإذا كان سلب قشرة الشعير ظلماً وجوراً، فكيف بالشعيرة، وكيف بكيس شعير، وكيف بحقل شعير؟! شكر سليمان7 الله تعالى على أنّه أنجاه من ظلم مخلوق بريء من مخلوقاته، فهل قرأ الذين يذبحون الناس الأبرياء باسم الدين وبطرق بشعة (قول النملة) و(شكر سليمان)؟!
سليمان الحكيم7:
قال تعالى في نعمته على داود7 وابنه سليمان7: ﴿وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (الأنبياء/ 79).
أُوتي سليمان7 (الحُكم) و(المُلك)؛ لكنه أُوتي إلى جانبه (العلم) بما فيه من حكمة، ولو سألنا سليمان7 سؤالاً افتراضياً: أيّما أعظم (الحُكم) أم (الحكمة)؟ لرأيناه يقول بلا تردُّد: (الحكمة). (يُذكر أنّ لقمان -كما ورد في سيرته- عُرض عليه الأمران، ففضّل الحِكمة على الحُكم). ولقد انتهى مُلك وحُكم سليمان لكن حكمة سليمان7 باقية، يقول تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة/ 269).. إنّ خير الحكمة ونفعها وخلودها، خيرٌ من خير الممالِك كلّها، وإن كنّا لا نُجزِّئ بين (حُكم) سليمان العادل وبين حكمته السارية، فلكلّ فضل.
عمل سليمان7 -كما في ترجمته- بالزَّبور الكتاب المُنزل على أبيه داود7 ولم ينزل عليه كتابٌ سماويٌّ مستقل، ويقال إنّ كتبه أو آثاره العلمية ثلاثة:
1- نشيد الأنشاد.
2- أمثال سليمان.
3- سفر الجامعة.
وقد أُتيح لنا الاطلاع الكامل على الكُتُب الثلاثة. أمّا الأوّل الذي هو أحد أسفار العرب القديم والذي يُعرف بالعبريّة بـ(نشيد أنشاد سليمان)، فهو يفتقد إلى المحتوى الديني، وقد عُبِّر عنه في بعض اللغات على أنّه (غزل سليمان)، وهو غزلٌ فاضح فيه معاني جنسيّة ومبتذلة، حاول البعض ممّن أحرج في تبريرها وتفسيرها إضفاء صيغة روحيّة عليها، وتحميلها ما لا تحتمل، حيث اعتبر الغزل تمثيلاً مجازياً للعلاقة بين الربّ وإسرائيل والمسيحيين، أو بين الربّ والمسيح والروح الإنسانية، كالعلاقة بين الرجل وزوجته، ولم نجده جديراً بالوقوف عنده، فضلاً عن الانتهال منه.
وأمّا (الأمثال) و(الجامعة)، فكتابان يحتويان على عدد من الحِكَم التي نستطيع الحُكم على صحّة بعضها لأنّها تنسجم وروح المعاني القرآنية والآثار النبويّة أو الدينيّة عموماً، وعدم تصادم بعضها الآخر مع العقل إذا لم يثبت النقل، وتنافي وتضاد بعضها الآخر مع نبوّة وحكمة سليمان7.
فبالنسبة إلى (سفر الجامعة)، كما يقول (القس أنطونيوس فكري) في (شرح الكتاب المقدّس)، فإنّ آباءَ الكنيسة ومُعلِّمي اليهود اتفقوا أنّ سليمان المَلِك هو كاتبه، وربّما كتبه لينصح كلّ مَنْ لم يسمعه ألّا يسير في طريق الخطيئة مثله. (من المؤسف والمؤلم أن يتهم نبيّ الله سليمان بأنّه مات عاصياً لله)، وقيل أنّه ربّما كان يجمع الشعب ويعظهم بهذه الأقوال ولذلك سُمِّي الجامعة. والكتاب هو ثمرة عودته وتوبته بعد انغماسه.. ولا ندري كيف سوّغ (آباء الكنيسة) و(مُعلِّموا اليهود) نسبة الخطيئة إلى نبيّ معصوم، كان أبعد الناس عن الانغماس بالملذّات الدنيوية وارتباطه بنساء وثنيات صرفنه عن توحيده لله وقد علمنا كيف أنّه لم يقبل ببلقيس إلّا مُوحِّدة ولا قومها إلّا مسلمين، فكيف يقترن بالوثنيات وينغمس ويسترسل في الشهوات، ويمضي في طريق الخطيئة حين الممات أو قبله، ليعظ بعد ذلك الخاطئين أن لا يقعوا في ما وقع؟!
إنّ أقلّ ما يقال عن هذا الهراء والكلام الهابط غير المتورِّع، أنّ قائليه لا يفهمون النبوّة عموماً ونبوّة سليمان7 خصوصاً.. فكما اتّهم أبوه في مطاردة (أوريا) للزواج بزوجته، هاهو يُتّهم بأنّه طالب دنيا ومتهالك على الشهوات وبعيد عن النزاهة والقداسات، تَنزَّهت ساحته 7 بما نزَّههُ الله تعالى من أنّه (نِعمَ العبد) وإنّه (أوَّاب) وإنّه (مُحسن) وإنّه (شكور) وإنّه (عالم) وإنّه (حكيم).. ألا يتنافى ما يُنسب إليه من خطيئة مع كلّ هذه المنزِّهات من الخطيئة؟!
خُذ هذا المثال من (الإصحاح الأوّل) من (سفر الجامعة): «أيُّها الجامعة، كنتُ مَلِكاً على إسرائيل في أورشليم، ووجّهتُ قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كلّ عمل تحت السماوات، هو عناءٌ رديء جعله الله لبني البشر ليعيوا فيه، رأيتُ كلّ الأعمال التي عُملت تحت الشمس فإذا الكلّ باطل وقبض ريح.. الأعوج لا يُمكن أن يقوّم، والنقص لا يمكن أن يُجبر.. ووجَّهتُ قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل، فعرفت أنّ هذا أيضاً قبض ريح لأنّ في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يريدُ علماً يزيدُ حُزناً».
نعم، لقد خلق الله الإنسان في كَبَد (عناء ومعاناة)؛ لكنّه ليس عناءً رديئاً، وإنما هو عناءً ومكابدة ومجاهدة وصقل للمواهب وصولاً إلى مراتب الكمال العُليا، وليس كلّ ما تحت الشمس باطل أو قبض ريح، فهما نجدان: نجد خير ونجد شرّ، فكيف يستويان؟ وكيف يُصنّف الحقّ مع الباطل؟ وكيف يبقى الأعوجُ أعوجاً لا يمكن تقويمه؟ أين جهود الأنبياء والأوصياء والمصلحين إذاً؟ ما هو دور الرسالات في الإصلاح والتغيير؟ وإذا كان النقصُ لا يمكن جبره أو جبرانه، فلِمَ البحث عن الكمال أصلاً؟! وإذا كانت الحكمةُ والمعرفةُ قبضَ ريحٍ وغماً، وطلبُ العلم حُزناً، فكيف يكون مَن أوتي الحكمة قد أوتي خيراً كثيراً، وكيف يدعو الله تعالى نبيّه ليسأله: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه/ 114)؟!
لكنك قد تجد تناقضاً في الإصحاحات بين الباطل وقبض الريح، وبين ما ورد من معانٍ إيجابية.. ففي الإصحاح التاسع: «الحكمةُ خيرٌ من أدوات الحرب»، و«قلب الحكيم عن يمينه، وقلب الجاهل عن يساره»، و«طوبى لكِ أيتها الأرض إذا كان مَلكُكِ ابن شرفاء»، و«اذكر خالقك في أيام شبابك، قبل أن تأتي أيام الشرّ...»، مما يُبعد فكرة أن يكون سليمان7 هو كاتب سفر الجامعة، أو أنّه ربما جرى التلاعب فيه كما جرى التلاعب والتحريف في الكُتُب المقدّسة.
غير أنّ (أمثال سليمان) هي الأقرب إلى روح النبوّة ومنطق السماء، حتى إنّك تستطيع أن تضع في مقابل الكثير منها آيات قرآنية تنسجم وتتوافق معها.. ففي الإصحاح الثالث -مثلاً- تمجيد بالحكمة وبالفهم: «طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم»، و«الربّ بالحكمة أَسَّسَ الأرض، وأثبت السماوات بالفهم».
وفي الإصحاح الأوّل: «مخافة الربّ رأس المعرفة، أمّا الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب»، وفيه أيضاً: «الحكمة تنادي في الخارج: في الشوارع تعطي صوتها، تدعو في رؤوس الأسواق، في مداخل الأبواب، في المدينة تبدي كلامها قائلة: إلى متى أيُّها الجُهّال تحبّون الجهل، والمستهزئون يُسرّون بالاستهزاء، والحمقى يبغضون العلم»؟!
في الإصحاح الثاني معنى لذهاب الزبد جُفاء وبقاء ما ينفع الناس في الأرض: «حتى تسلك في طريق الصالحين وتحفظ سبيل الصديقين، لأنّ المستقيمين يسكنون الأرض والكاملين يبقون فيها أمّا الأشرار فينقرضون من الأرض، والغادرون يُستأصلون منها».
وهناك تأكيد كبير على مفاهيم (العمل) ونبذ (الكسل). في الإصحاح العاشر: «العامل بيد رخوة يفتقر، أمّا يدُ المجتهدين فتُغني. مَن يجمع في الصيف فهو ابنٌ عاقل، ومَن ينامُ في الحصاد فهو ابنٌ مُخزٍ». وفي الإصحاح الحادي عشر: «مَنْ يشتغل بعقله يشبع خُبزاً، أمّا تابعُ البطّالين فهو عديم الفهم». وفي الثالث عشر: «نفسُ الكسلان تشتهي ولا شيء، ونفسُ المجتهدين تسمن». وفيه أيضاً: «يوجد مَن يتغانى ولا شيء عنده، ومَن يتفاقر وعنده غنىً جزيل». وفي الرابع عشر: «حيث لا بقر فالمعلف فارغ، وكثرة الغلّة بقوّة الثور». وفي الخامس عشر: «طريق الكسلان كسياج من شوك، وطريق المستقيمين منهج».
وفي النفاق، كما في الإصحاح (27): «إذا حسن صوته فلا تأمنه لأنّ في قلبه سبع رجاسات».
وفي الإخلاص، كما في الإصحاح (25): «أزل الزغل الشائبة من الفضّة، فيخرج إناء الصائغ».
وفي حفظ المُلك، كما في الصحاح (20): «الرحمة والرفق يحفظان المُلك وكرسيه يُسند بالرحمة».
والمجال لا يتسع للمزيد.. فحكمة سليمان7 ناضحة عن قلب أخلص لله تعالى فأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.. ولقد أثر عنه 7 ما نعتبره خلاصة الحكمة وفصل الخطاب.. يقول 7 في ما روي عنه: «أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئاً أفضل من خشية الله في الغيب والمشهد، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحقّ في الرضا والغضب، والتضرُّع إلى الله عزّوجلّ على كلّ حال»[28].
كيف كانت النهاية؟!
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ﴾ (سبأ/ 14).
يروي الإمام جعفر الصادق7 قصة النهاية التي انتهى بها أعظم ملوك الأرض قاطبة، فيقول: «إنّ سليمان بن داود7 قال ذات يوم لأصحابه: إنّ الله تبارك وتعالى قد وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي. سخّر لي الريح والإنس والجنّ والطير والوحوش (الحيوانات)، وعَلَّمني منطق الطير، وأتاني من كلّ شيء، ومع جميع ما أُوتيت من المُلك ما تمَّ لي سروري يوم إلى الليل، وقد أحببتُ أن أدخل قصري في غدٍ فأصعد أعلاه أنظر إلى ممالكي، فلا تأذنوا لأحدٍ عليَّ لئلّا يردّ عليَّ ما ينغِّصُ عليَّ يومي. فقالوا: نعم. فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده وصعد إلى أعلى موضع من قصره، ووقف متكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه سروراً بما أوتي فرحاً بما أُعطي، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلمّا أبصره سليمان قال له: مَن أدخلك إلى هذا القصر وقد أردتُ أن أخلو فيه اليوم؟ وبإذن مَن دخلت؟! فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربّه وبإذنه دخلت. فقال: ربّه أحقُّ به منّي، فَمَن أنت؟ قال: أنا مَلَكُ الموت. قال: وفيما جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك. قال: إمضِ لما أُمرتَ به فهذا يومُ سروري، وأبى اللهُ عزّوجلّ أن يكون لي سرورٌ دون لقائه. فقبض مَلَكُ الموتِ روحَه وهو متكئٌ على عصاه، فبقي سليمان متكئاً على عصاه وهو ميت ما شاء الله والناسُ ينظرون إليه وهم يُقدِّرون أنّه حيّ، فافتتنوا فيه واختلفوا.. فمنهم مَن قال: إنّ سليمان قد بقي متكئاً على عصاه هذه الأيام الكثيرة ولم يتعب ولم ينم ولم يشرب ولم يأكل.. إنّه لربُّنا الذي يجب علينا أن نعبده! وقال قوم: إنّ سليمان ساحرٌ وإنّه يرينا أنّه واقف متكئ على عصاه، يسحرُ أعيننا وليس كذلك! وقال المؤمنون: إنّ سليمان هو عبد الله ونبيّه يُدبِّر الله أمره بما شاء. فلمّا اختلفوا بعث اللهُ الأرضة فدبت في عصاةِ سليمان، فلمّا أكلت جوفها، انكسرت العصا وخَرَّ سليمان7 من قصره على وجهه»[29].
مُلكٌ عظيم، أعظمُ مَلكٍ على وجه (الأرض) ينتهي صولجانهُ بأن تأكلهُ (الأرضة)!
يقول الإمام عليّ7: «لو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً، أو لدفع الموتِ سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود7، الذي سُخِّرَ له مُلكُ الجنّ والإنس، مع النبوّة وعظيم الزُّلفة، فلمّا استوفى طُعمته، واستكمل مُدَّته، رمتهُ قسي الفنا، بنبالِ الموت، وأصبحت الديار منه خالية، والمساكنُ مُعطَّلة، وورثها قومٌ آخرون»[30].
هذا هو سليمان7 النبيُّ الملك، وهذه هي قصتهُ المليئةُ بالدروس والعِبَر، ارتحل إلى الله تعالى بعمله لا بمُلكه، وخلد في دنيا الناس بُحسنُ ذكره لا بسعة ثروته.
وتُفنى الأيام ويبقى (عدلُ) سليمان حيّاً، حتى أنّ الإمام عليّاً7 أخذ عنه حُكمه في امرأتين تنازعتا حول طفل ادّعت كلٌّ منهما أنّه ابنها، فكانت واحدة صادقة والأخرى مُدَّعِية، فأمر سليمان7 بأن يُقطع الطفلُ نصفين ليعطي كلّ إمرأة نصفاً، فلمّا علمت الأُمّ الحقيقية (أُمُّ الولد) أنّ ابنها سيموت، صاحت متنازلة عنه، فعرف أنّها أُمّه وردَّهُ إليها، وهكذا فعل الإمام عليّ7 في حادث مماثل جرى في عهده، مستحضراً حُكم سليمان7 بعد مضي الدهور والأزمان.
ويمضي سليمان الشخص ويبقى سليمان الشخصية.. ينتهي سليمان (العُمر) ويبقى سليمان (المُعمَّر) ويزول سليمان الملك ويبقى سليمان الذكر الطيِّب والسيرة العطرة.
دخل (الحسن بن فضل) على بعض الخلفاء وعنده كثير من العلماء، فأحبَّ أن يتكلّم، فزجره الخليفة قائلاً: أصبيٌّ يتكلّم في هذا المقام؟! فقال: يا أمير المؤمنين، إنْ كنتُ صبيّاً فلستُ أصغر من هُدهُد سليمان، ولا أنت بأكبر من سليمان7 إذ قال: "أحطتُ بما لم تُحط به خُبرا"!!
تلك هي سيرة سليمان الحكيم العادل برسم كلّ حاكم ومَلكٍ وأمير وقائد ومسؤول ينشد العدل ويرفع الحكمة إلى ما فوق عرشه كما هي برسم كلّ متعلّم يريد أن يأخذ الدرس والعبرة.
-وآخر دعوانا أنّ الحمدُ لله ربّ العالمين-
[1]- محمود عكام، الموسوعة الإسلامية المُيسَّرة، ج6، مادّة (سليمان)، ص1320-1321، باختصار.
[2]- يقول تعالى مُذكِّراً بنعمة الحطب: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ (الواقعة/ 71-72).
[3]- الحرث: الزرع. نفشت: النفش: رعي الماشية بالليل دون راعٍ. ففهّمناها: أوضحنا له الفهم الحقيقي للقضية، كان قضاؤه أقرب إلى الرفق والعدل.
[4]- كنز الفوائد، للكراجكي، ج2، ص162.
[5]- ميزان الحكمة، الري شهري، مادة (شكر).
[6]- أعلام الدين، ص312.
[7]- أُصول الكافي، 2/ 94.
[8]- بحار الأنوار، 71/ 56.
[9]- الكافي، 2/ 94.
[10]- قصص الأنبياء، للراوندي، 161.
[11]- عيون أخبار الرضا7، 2/ 24.
[12]- غرر الحكم، 8659.
[13]- نهج البلاغة، الخطبة 216.
[14]- رياشه: اللباس الفاخر أو المال أو الأثاث.
[15]- مسند الإمام الصادق7، العطاردي، ج17، ص31.
[16]- تفسير المنار، رشيد رضا، ج7، ص393.
[17]- (السيمرغ) بالفارسي تعني الثلاثين طيراً، وهي ما تبقّى من رحلة الطيور التي تخلّف الكثير منها في بعض محطات الطريق بذرائع شتّى وحجج تشبه حجج المتخلِّفين من الناس.
[18]- نوع من الحمام.
[19]- نوع من العصافير.
[20]- نوع من الطيور.
[21]- السنونو.
[22]- نوع من الحمام.
[23]- البحار للمجلسي، 14/ 51.
[24]- روى (أبو داود) في مسنده أنّ النبيّ6 نهى عن قتله، وقيل إنّ السبب في ذلك أنّه كان بركة على جنسه من الطيور لأنّه كان سبباً في إسلام أُمّة.
[25]- تنزيه الأنبياء.
[26]- ميزان الحكمة، ج3، ص1849.
[27]- نهج البلاغة، خطبة 224.
[28]- الخصال للشيخ الصدوق، 241/ 19.
[29]- علل الشرائع، ص73.
[30]- نهج البلاغة، الخطبة 182.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق