كانَ الجوُّ غائمًا حينَ دخلتُ سوقَ الخضارِ في "قلقيلية" القريبةِ منّا، بعد غيابٍ طويل.. أصواتُ الباعةِ التي تبلغُ الأحياءَ القريبةَ وتُحيّي الزائرين بالكشف عن العروض المشكّلة من الخضار والفواكه الطازجة تبدو كسيمفونية تُؤدّيها فرقةُ أوركسترا السوق ذات الحناجر القويّة منها والرخيمة.. شعرت بالكآبة لِما سمعته من صديقٍ لي صادفني قبل زمن ليس ببعيد وشرع يحدثني عن ظاهرة السّرقة وازدياد حالات السطو على المنازل وتقاعس الشرطة عن حلّ الأزمة من جذورها. لم تكد قدماي تطأُ أرضَ السوقِ حتى استوقفني طفلان، أحدهما يبلغ الثانية عشرة والآخر لم يتجاوز السادسة بحسب تقديري، تبدو على مُحييهما ملامح الوسامة يدفعان عربة للتسوّق ثُبِّتَ على أسلاكها الأماميّة إعلانٌ لأحدِ المتاجرِ النابلسيّةِ الكبيرةِ.. عيونهما الصافية تبعث في النفس الراحة. ملابسهُما تدلُّ على الفاحش من بُؤسِهما.. بُقعٌ من الغبار المتراكمة على الأكمام كأنّها تحدّثُك قصَّتَها عن الماضي السّحيق الذي عاشته قبل أن تُدنسَّ بأيدي هذين الطفلين. سألني أحدهما في استحياءٍ إنْ كنتُ أحتاجُ مساعدةً في تحميلِ بضاعتي التي أَشْتَريها فلا أُضْطرَّ إلى أن أَأوبَ إلى سيارتي مرّات كثيرة، فاستحسنتُ الأمرَ ووافقتُ دونَ أنْ أسألهما عن مقدار الأجر الذي يرغبانه. رُحْنا نتجوَّل في السوق معًا متجاوزين الخطوط الأماميّة المزدحمة ثمّ هرولنا قليلاً إلى أن انعطفنا يمينًا إذ شرعتُ في شراء البضائع، وِفقًا للائحة التي أعدّتْها لي زوجتي، من أول حانوت.. وكانا كلّما اشتريتُ شيئًا سارعا في حملهِ ليأخذ مكانهُ في العربة بسرعة. سألتُ أحدهما، وقد رافقني إلى زاوية السوق ليحمل معي أشياء كنتُ اشتريتها وأودعتها لدى صديق قبل مجيئي إليها، عن الدوافع التي جعلتْهُ يُقبل على مثل هذا العمل من أجل بضعة دريهماتٍ بدلا من التفرغ للدراسة، فتردّد قليلاً ثمّ أخذ يحدّثني كالحكماء: - "ليس العمل عيبًا، والحال يُرثى لها يا عمّ، ولا حيلة لنا إلا الكفاح، أنا وأخي هذا، من أجل الحصول على لقمة العيش حتى نعيش بكرامة.. - ماذا يعمل والدك؟ - كان يعمل زبالاً في البلدية قبل أن يرتفع شهيدًا. في ذلك اليوم كان التّوتّر يُخيّم على بلدتنا.. وكانت الطرق مقطّعة بالحواجز العسكريّة حين استشهد والدي. قبلها، اقتحام البلدة كان متكرّرًا من الجهة الشمالية، ويومها سُمع صوت إطلاق الرصاص في جميع الاتجاهات، حينها أحْسَسْنا بأن شيئًا ما سيقع.. أحسّتْ أمي ساعتئذٍ بألم شديدٍ في صدرها واستعاذتْ بالله وكأنها تعلم أن المصاب مصابها.. فتذكّرنا إصراره صباحًا على الخروج إلى العمل دون أن يأبه لطلب أمي وإلحاحها بالعدول عن قراره لخطورة الأوضاع. تقول أمي إنها رأتْ في تلك الليلة موكب زفاف ينطلق من بيتنا... اسمه أحمد.. لم يكن في مقدوره مواصلة ما بدأه من حديث.. تذكّر الطفل موكب الزفاف وهو ينطلق من البيت الذي يعيش فيه وترافقه سيمفونيّة ملائكيّة، فتوقف الزمن وقتئذٍ ثم أجهش بالبكاء.. دموعه التي ذرفها تزن الأرض والجبال. وكأني أسمعه يقول بأي ذنب قتلوه. فقد أحسّ بأن روح والده تحرسه وتحرس أخاه "سعيد" حيثما نزلا. حتى في زحمة السوق تظل ترفرف. ليس هناك أروع من احتضان مثل هؤلاء الأطفال في مثل هذه المواقف. وحانتْ مني التفاتة إلى العربةِ والصغيرِ الذي يحرسُها، فرأيتُهُ ببراءة الأطفال يلحق كرة مطاطية، أفلتتْ من حضن طفل كان يمسك بيد أمه فتدحرجتْ، فيلتقطُها ثمّ يناوله إياها والحسرة المؤلمة تفيض من قلبه. راقبتُه بحذرٍ ورأيتُه يعتلي أطراف العربة في صعوبة ثم يقفز عنها ويعيد الكرّة شاعرًا بمتعة اللعب. ودّعتهما بعد أن أكرمتُهما بما جادت لهما نفسي بانفعال عاطفي رحبٍ، وشكرتهما كلّ الشكر، ثمَ أرهفتُ أذنيّ، حين غادرتُ السوق أطرافها، إلى سيمفونيّة الباعة فسمعتُ الجوقة لا يزال يصدح صوتها ويتردد صداها. وها أنا ذا قد رأيتُ الابتسامة الكبرى في وجهيهما حين ودّعتُهما وقد أحسستُ أن روح والديهما ترافقهما حقًا. ثمّ راودني شعور غريب لا يحسّه إلا من يعرف معنى الإنسانيّة حقًا. وتذكّرتُ حديث صديقي عن ظاهرة السرقة واقتحام المنازل الآمنة في ظِلِّ صورة الطفلين التي ظلّتْ تتكشّف أمامي والصوت يلاحقني أيامًا حتى كدتُ أحفظه ولكن سرعان ما تلاشتْ السيمفونية من ذهني..
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق