• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العفو والتسامح

عمار كاظم

العفو والتسامح

إنّ الإنسان المؤمن إذا وقف أمام الغضب بين أن يعفو ويسامح في مجالٍ يكون في التسامح مصلحة، وبين أن يشفيَ غيظَه، فماذا يفعل؟ هل يقف لينتقم أم يقف ليعفو؟ فلو سار في طريق الانتقام وكان من حقّه أن ينتقم، فما الربح من ذلك؟ قد يرتاح نفسياً فيفجّر غيظه ويشعر بالراحة والكرامة والعزة، وخصوصاً عندما يُبعد عن أذهان الناس أنّه لم يعش المهانة والاحتقار.. هذا كلّ شيء، ولكن إذا عفا طلباً لما عند الله فسيمنحه سبحانه عفوَه ومحبته، لأنّ الله يحبّ الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وسيحصل على الخير ويكون قريباً للتقوى، يقول تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237).

إنّ المؤمن لا يندفع وراء غضبه، لأنّه لا يتحرك بوحي الانفعال، يغضب، فيُمسك غضبه، ثمّ يناقش المسألة: هل إذا انتقمت أحصل على كسب كبير، أم إذا عفوت أحصل على الكسب الكبير؟ في الجواب، نعود إلى كلمات أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حيث يقول: «متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام، فيُقال لي: لو صبرت، أم حين أقدر عليه، فيقال لي: لو عفوت» وفي صفة الله تعالى يقول (عليه السلام): «الذي عَظُم حِلمُهُ فعفا وعدل في كلّ ما قضى» فإذاً، هؤلاء الذين يعفون يأملون بما عند الله، لأنّ الجنة لا تُعطى مجاناً، فهم يعيشون شروط الحصول عليها داخل أنفسهم التي يربّونها على ذلك، ليعيشوا في الدنيا أخلاق أهل الجنّة، فيكظمون غيظهم ويعفون عمن أساء إليهم. العفو فضيلة؛ أكثر أهل البيت (عليهم السلام) مَن دعوا الناس إليها واعتبروها سبباً رئيساً في استقرار المجتمعات وثباتها، وركناً في الإصلاح البشري والتعايش، ومن ذلك ما ورد في هذا الدعاء المبارك للإمام السجاد (عليه السلام) بأسلوب ساحر في البيان ورائع في إيصال المعاني إلى حيث تستقرّ في القلوب وتتمكّن منها لتترجم فيما بعد سلوكاً عملياً، وبناءً نفسياً عاطفياً نابعاً من العقل والشرع معاً، فإذا كان المخلوق الضعيف قدّر له أن يعفو فكيف بالخالق العظيم الذي لا شكّ أنّه سيعوّضنا من عفونا عمّن ظلمنا عفوه عنّا لأنّه أكرم بالعفو، ومما ورد عن الأئمة (عليهم السلام) في أهمية العفو ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «العفو تاج المكارم»، «العفو أعظم الفضيلتين»، «شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل»، «قلّة العفو أقبح العيوب والتسرُّع إلى الانتقام أعظم الذنوب».

وفي الحديث: «إذا أُوقف العباد نادى منادٍ: ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنّة، قيل: مَن ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس». ولذا، فإنّ ميزان الإنسان المسلم بيده، فيجعل مزاجه منسجماً مع رسالته وخطّه وتكاليفه الشرعية (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى/ 40)، فمن يتنازل عن أخذ حقّه، يدّخر الله له ذلك، ويضاعف له الأجر، وذلك عندما يتجاوز الإنسان لحظة الغيظ والغضب فيعفو ويتجاوز. وهذا عندما يكون في العفو مصلحةٌ كبيرة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يزيدون في الحدّ (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى/ 41)، فالمظلوم الذي يحبّ أن يأخذ حقّه ليس عليه مِن مسؤولية، لأنّ له الحقّ في أن ينتصر على مَن ظلمه بمقدار ما جعل له الله مِن حقِّ الانتصار (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى/ 42)، فالله تعالى لابدّ أن يأخذ للمظلوم حقّه مِن الظالم (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (الشورى/ 43)، إنّ الله يقول لمن يصبرون ويغفرون، لا تظنوا أنّ الصبر ضعف والمغفرة مهانة، بل إنّ الصبر مظهر قوّة، لأنّكم انتصرتم على غرائزكم وعلى روح الانتقام في أنفسكم، واستطعتم أن تكظموا غيظكم في وقت يتفجّر فيه الغيظ. وهذا يدلُّ على أنّكم تملكون القوّة النفسية والعزم الكبير، فأنتم الأقوياء الصابرون، ولستم الضعفاء المنتقمين.

 

ارسال التعليق

Top