• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رسالة الحب في ثورة الحسين (ع)

السيد عادل العلوي

رسالة الحب في ثورة الحسين (ع)
◄ثورة الإمام أبي عبدالله بن عليّ – عليهما السلام – مدرسة إنسانية إلهيّة ذات معالم وشعائر تتجدد عبر العصور والأجيال، فإنّ فيها دروساً قيّمة ومفاهيم سامية ومعارف راقية، كل واحد ينظر فيها ويتطلّع إليها من زاويته الخاصة وثقافته واختصاصه، إنها تجسيد للقرآن ومعانيه ومفاهيمه ومعارفه الربانيّة التي لا تبلى ولا تخلق، فإنّ الحسين (ع) هو القرآن النطاق وثورته منطق القرآن الصامت. وإذا كان للقرآن بطون، ولكلّ بطن بطون، وهو يحمل وجوهاً كما ورد في الأخبار الشريفة، وكلّ عالم وعارف وباحث ومحقق يجد ضالّته المنشودة في القرآن الكريم، فكذلك يجدها في ثورة الحسين وحياته المقدسة. والكل يقف بخضوع وخشوع أمام قداسة القرآن الكريم وعظمة ثورة الحسين (ع)، ويغترف منهما ما يروي الظمأ ويُشفي الغليل وينال بهما سعادة الدارين والحياة الطيبة والعيش الرغيد. والمقصود من هذه العجالة أن نستلهم درساً من دروس ثورته عليه السلام، ونستنشق نسيماً عذباً من رياحينه العطرة، ونستنير في دروب الحياة بشعلةٍ وهّاجةٍ من مشاعله الخالدة، ألا وهو الحب والعشق الحسيني، وهذا وإن كان بحراً عميقاً يستحيل سبر غوره وعبوره، ولكن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، وأوّل المطر الوابل قطرة، عسى أن يكون ما نقدمه مفتاحاً لآفاق جديدة في دراسة ثورة الإمام الحسين (ع)، ومن الله سبحانه التوفيق والسداد.   لقطات من الحب والعشق الإلهي: يجف القلم ويكلّ اللسان لو أراد أن يرسم للقراء الكرام شخصيات المحبّين في الله ولله سبحانه، والمتفانين في هواه وعشقه، وأكمل خلق الله في حبّه وأتمّهم هو الرسول المختار (ص) وعترته الأئمة الأطهار عليهم السلام، فحياتهم المقدّسة وأرواحهم الزكيّة النورانية كلّها في محبة الله ولهه، فهم سادة المحبين وعشاق الله جلّ جلاله. ومن أولئك الأطياب الأخيار الأبرار سيد الشهداء مولانا الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام، فثورته الخالدة – فصل من حياته – آيات في الحب الإلهي الحقيقي وبراهين ساطعة في عشق الله سبحانه وتعالى. يخبرنا عن ذلك ما ورد عن مولانا أبي جعفر الإمام الباقر (ع) عن أبيه الإمام السجاد عليّ بن الحسين (ع) قال: "مرّ عليّ (ع) بكربلاء فقال لما مرّ به أصحابه وقد اغرورقت عيناه يبكي ويقول: هذا مناخ ركابهم.. إلى أن قال عليه السلام: حتى طاف بمكان يقال له المقدفان فقال: قُتل فيها مائتا نبي ومائتا سبط كلّهم شهداء ومناخ ركاب ومصارع عشاق، شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من بعدهم"[1]. فكربلاء المقدسة رمز الثورة الخالدة، رمز البطولة والتضحية والشهادة، ومناخ ركاب العاشقين، ومصارع عشّاق الله ومحبّيه والمتفانين في صفاته وأسمائه الحسنى والمستشهدين من أجل دينه القويم الإسلام العظيم. وستبقى كربلاء العشق مناراً لعشاق أهل البيت – عليهم السلام – وشعلة وهّاجة في دروب الأحرار والمجاهدين الثوار الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. وستبقى كربلاء المُعلّى قران المحبين، وتبقى عاشوراء الحسين آيات ومصابيح الهدى وطريق وسفينة النجاة، وتبقى ملحمة الطف نبراس الحب الإلهي الذي يتجلّى في حبّ رسول الله وأهل بيته عترته الطاهرين، وسبطه سيد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام.   عابس الشاكري آيةٌ من آيات الحبّ: ومن اللقطات الجميلة التي تُعدّ آية من آيات الحبّ الحسيني قتال الشهيد البطل عابس بن شبيب الشاكري حتى أصبحت مقولته المشهورة (حبّ الحسين أجنّني) رمزاً لعشّاق أهل البيت عليهم السلام، ومن يتفانى في حبّ الحسين (ع)، ويبذل النفس والنفيس في هواه وعشقه. يذكر أبو المؤيد بن أحمد المكي أخطب خوارزم المتوفى سنة 568هـ في كتابه (مقتل الحسين، ج2، ص22): (وجاء عابس بن شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر فقال: يا شوذب ما في نفسك أن تصنع؟ قال: وما أصنع! أُقاتل حتى أُقتل، فقال له: ذلك الظن بك، فتقدم بين يدي أبي عبدالله، أحتسبك ويحتسبك كما احتسب غيرك، فإنّ هذا اليوم ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكل ما قدرنا عليه، فإنّه لا عمل بعد اليوم، وإنما هو الحساب. ثمّ تقدم فسلّم على الحسين وقال له: يا أبا عبدالله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ ولا أحبّ إليّ منك. ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليَّ من نفسي ودمي لفعلت – انظر أيها القارئ الكريم ما أروع منطق العشّاق، فإنّ العاشق يكون موحداً لا يرى إلّا معشوقه، وبمثل هذه الروح الخالصة والقلب الوله والفؤاد العاشق يخاطب عابس سيده وحبيب قلبه قائلا: أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ علي ولا أحبّ إليّ منك. ثمّ يصدق في قوله ببذل نفسه ودمه الذي هو أعزّ شيء عنده وهذا منطق عشّاق الحسين (ع)، وكفاهم بهذا شرفاً وكرامة وعزة – ثمّ قال عابس: السلام عليك يا أبا عبدالله، أشهد أني على هداك وهدى أبيك ثمّ مشى بالسيف نحوهم، قال ربيع بن تميم: فلما رأيته مقبلاً عرفته – وقد كنت شاهدته في المغازي – فكان أشجع الناس، فقلت للقوم: أيها الناس! هذا أسد الأسود، هذا ابن شبيب، لا يخرجنّ إليه أحد منكم، فأخذ ينادي ألا رجل! ألا رجل! فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة، فرُمِي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثمّ شد على الناس – ويُقال هنا نودي أجننت يا عابس، فقال: أجنّني حبّ الحسين – فوالله لقد رأيته يطرد أكثر من مئتين من الناس، ثمّ تعطفوا عليه من كل جانب فقتل – رضوان الله تعالى عليه – فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة، هذا والله لم يقتله إنسان واحد. ففرق بينهم بهذا القول).   آيات أخرى: وليس هذا حال عابس وحسب، بل كلّ أصحاب الحسين وأهل بيته، كان هذا منطقهم كما يُحدّثنا بذلك العلامة السيد عبدالرزاق الموسوي المقرم في كتابه مقتل الحسين ص219 في حديث ليلة عاشوراء: "ثمّ دخل الحسين خيمة زينب ووقف نافع بازاء الخيمة ينتظره، فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم، فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة. فقال لها: والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه. قال نافع: فلما سمعت هذا منه بكيت وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن أخته زينب. قال حبيب: والله لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة، قلت: إني خلّفته عند أخته، وأظن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة، فهل لك أن تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهنّ، فقام حبيب ونادى: يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة، فتطالعوا من مضاربهم كالأسود الضارية، فقال لبني هاشم: ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم. ثمّ التفت إلى أصحابه وحكى ما شاهده وسمعه نافع، فقالوا بأجمعهم والله الذي منّ علينا بهذا الموقف لولا انتظار أمرهِ لعاجلناهم بسيوفنا الساعة! فطب نفساً وقرّ عيناً، فجزّاهم خيراً، وقال: هلموا معي لنواجه النسوة ونطيّب خاطرهنّ فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح: يا معشر حرائر رسول الله، هذه صوارم فتيانكم آلوا ألّا يغمدوها إلّا في صدور من يفرق ناديكم. فخرجت النساء إليهم ببكاء وعويل وقلن: "أيها الطيّبون حاموا عن بنات رسول الله، وحرائر أمير المؤمنين. فضجّ القوم بالبكاء حتى كأنّ الأرض تميد بهم". وفي يوم عاشوراء عندما خطب زهير بن القين ونصح قوم عمر بن سعد رماه الشمر بسهم وقال: اسكت، أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال زهير: يا ابن البوّال على عقبيه ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال شمر: إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. فقال زهير أفبالموت تخوّفني؟ فوالله للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم[2]. وحينما صرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر فقال له الحسين: رحمك الله يا مسلم، (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الأحزاب/ 23)، ودنا منه حبيب وقال: عزّ عليّ مصرعك يا مسلم أبشر بالجنّة، فقال بصوت ضعيف: بشّرك الله بخير. قال حبيب: لو لم أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليَّ بما أهمك. فقال مسلم: أوصيك بهذا، - وأشار إلى الحسين – أن تموت دونه، قال: أفعل وربّ الكعبة، وفاضت روحه بينهما[3].. وهكذا يفعل العشق والحبّ بأهله، فلو طالعنا ثورة الحسين، ثورة العشاق والمحبين، لاتّضح لنا ما كان عليه أولئك الأبرار الأخيار من الثبات والتضحية والفداء، وأنهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح والرماح والسيوف والسهام ولعاً منهم بالغاية وحبّاً لهم بمولانا الحسين (ع) ودينه، وشوقاً إلى جوار جدّه المصطفى (ص)، وعشقاً لحضورهم بين يدي الله في مقعد صدق في الحظيرة القدسية. (ولا يستغرب هذا من يعرف حالة العاشق وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بما يلاقيه من عناء وكبد. ولقد حكى المؤرخون أنّ كثيراً الشاعر كان في خبائه يبري سهاماً له، فلما دخلت عليه عزّة "معشوقته" ونظر إليها أدهشه الحال فأخذ يبري أصابعه وسالت الدماء وهو لا يحس بالألم)[4]. كما حدّثنا بذلك القرآن الكريم في قصة النسوة (قطّعن أيديهنّ) عندما شاهدن جمال يوسف لحظات (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف/ 31)، فكيف بأصحاب سيد الشهداء (ع) وقد شاهدوا جماله يوم عاشوراء وهو من جمال الله جلّ جلاله. "وإذا لم تشعر النسوة بمقبض الجراح فليس من الغريب ألا يجد أصحاب الحسين (ع) وهم زبدة العالم كلّه ألم مسّ الحديد عند نهاية عشقهم لمظاهر الجمال الإلهي، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التكهرب بولاء سيد الشهداء (ع)"[5].   حب الدنيا وحب الله: ويقول العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (الحسين وبطلة كربلاء، ص48) في ذيل الآية الشريفة (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24). إنّ هذه الآية الكريمة نص صريح في صفات عمر بن سعد، حتى كأنها نزلت فيه بالذات، فلقد دعاه الحسين إلى أن يكون معه ويدع ابن زياد، فقال ابن سعد: أخاف أن تهدم داري، وهذا مصداق قوله تعالى: (وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا) (التوبة/ 24)، قال الحسين: أنا أبنيها لك. قال ابن سعد: أخاف أن تؤخذ ضيعتي. وهذا ما دل عليه قوله سبحانه: (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا) (التوبة/ 24)، قال الحسين: أنا أخلف عليك خيراً منها. قال ابن سعد: إنّ لي بالكوفة عيالاً أخاف عليهم ابن زياد، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: (وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) (التوبة/ 24). هذا هو مبدأ ابن سعد الذي عليه يموت ويحيا: ضيعته وداره وأهله وعشيرته، أما الدين والضمير، أما الله ورسوله، فألفاظ يجترّها ما دامت تحفظ له الضيعة والدار والأبناء والأقارب. حارب ابن سعد حسيناً بدافع المنفعة الشخصيّة وحبّ الدنيا. وكلّ من آثر المال والأهل على طاعة الله والرسول فإنّه على مبدأ ابن سعد ودينه، وإن بكى على الحسين حتى ابيضّت عيناه، ولعن ابن سعد في اليوم ألف مرّة، ما دام لا يفعل إلا بالباعث نفسه الذي بعث ابن سعد على قتل الحسين (ع). قال النبي (ص): والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين. وإذا عطفنا هذا الحديث الشريف على الحديث الذي رواه السنّة والشيعة: "حسين مني وأنا من حسين" تكون النتيجة الطبيعية أنّ العبد لا يؤمن حتى يكون الحسين أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين. وقد وجد بين المسلمين من الرجال والنساء من أحب النبي وفداه بالأرواح والأولاد.. وتجمع الناس مع الحسين وهو سائر في طريقه إلى العراق، ولما جد الجدّ تفرّقوا عنه، كما تفرقوا عن جده في يوم أحُد إلاّ قليل القليل، ولم يبق معه إلا صفوة الصفوة من الذين أحبوا الله والرسول وآله، وآثروا الموت من أجلهم على الأهل والمال، كما قالها عابس الشاكري وحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وأبطال كربلاء المقدسة... وكان غلام مع أمّه في كربلاء قتل أبوه في المعركة، فقالت له أمّه: اخرج يا بنيّ وقاتل بين يدي الحسين. فخرج، ولما رآه الحسين (ع) قال: هذا شاب قتل أبوه، ولعلّ أمّه تكره خروجه. فقال الغلام: أمي أمرتني بذلك، فبرز وهو يقول:


أميري حسين ونعم الأمير
عليّ وفاطمة والداه
سرور فؤاد البشير النذير
فهل تعلمون له من نظير


وقاتل حتى قُتِل. فأخذت أمّه رأسه وقالت: أحسنت يا بني يا سرور قلبي ويا قرّة عيني. أرأيت إلي هذه!.. أمّ لا ترضى عن ولدها وأعز من كبدها إلا أن تراه مضرّجاً بدمائه جثة بلا رأس، ولا عجب: إنّه حبّ لله ورسوله وعترته، وليس كمثل الله ورسوله وعترته شيء. فكذلك حبهم عند المؤمنين حقاً لا يعادله شيء، حتى الأرواح والأبناء. بهذا الحبّ.. بهذا الاخلاص لأهل البيت عليهم السلام، بهذه التضحية.. بهذه الروح وحدها يستعد المؤمنون الخلّص لما بعد الموت، وبهذا الزهد في العاجل يقفون غداً مرفوعي الرؤوس أمام جبار السماوات والأرض. لقد ترك الحسين وأصحابه الدنيا وما فيها لله وفي الله، وضحّوا بالأرواح والأزواج والأبناء والأموال في حبّ الله وفي حبّ الحسين (ع)، ومودة القربى واعلاء كلمة الحق وادحاض كلمة الباطل. فكانوا مع الحسين وجدّه في الآخرة. كما كانوا معه في الدنيا. وحسن أولئك رفيقاً. قال الإمام الباقر (ع): "إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعةٍ الله عزّ وجلّ، ويبغض أهل معصيته فإنّ فيك خيراً، وإن كان يجبّ أهل معصية الله ويبغض أهل طاعته فليس فيك خير، والله يبغضك والمرء مع من أحب".


عجباً لقلبي وهو يألف حبكم
وعجبت من عيني وقد نظرت إلى
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة
لم لا يذوب بحرقة الأرزا
ماء الفرات فلم تسل في الماء
لكنّما عيني لأجلك باكية



الإمام الحسين (ع) سيد المحبّين: الأئمة الأطهار كجدّهم المختار أسوة لنا في كل شيء، نهتدي بهداهم ونسير على خطاهم ونستنير بأنوارهم القدسية، فهم القدوة في كل المكارم والفضائل، وهم الأسوة في فضيلة حبّ الله، ومولانا الحسين إمام عشّاق الله سبحانه. جاء في مقتل الخوارزمي بسنده: إنّ الحسين عليه السلام خطب أصحابه – يوم عاشوراء – فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "أيها الناس خط الموت على بني آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه، كأني أنظر إلى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات غبراً وعفراً قد ملأت مني أكراشها، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله (ص) لحمته وعترته، ولن تفارقه أعضاؤه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بها عينه، وتنجرّ له فيهم عدته". لقد ضرب الإمام الحسين (ع) أروع الأمثلة في حبّ الله وعشقه يوم عاشوراء، فإنّه قدّم كل ما يملك، قدّم الأهل والأصحاب والأقرباء، وآل الأمر إلى سبي الحرائر بنات رسول الله (ص). كل ذلك من أجل الولع والشوق والحبّ الإلهي، حتى هوى على الأرض صريعاً مفضوح الهامة قد نبت السهم المثلث في قلبه ظمآن ولسان حاله يترنّم:

تركت الخلق طرّاً في هواكا
فلو قطعتني في الحبّ إرباً
وأيتمت العيال لكي أراكا
لما مال الفؤاد إلى سواك

 

 المصدر: مجلة نور الإسلام العددان 49 و50 -السنة الخامسة
[1]- سفينة البحار/ ج2/ ص197. بحار الأنوار/ ج41/ ص295/ رواية 18. [2]- مقتل الحسين للمقرّم/ ص232. [3]- م. ن. ص241. [4]- م. ن. ص71. [5]- م. ن ص73.

ارسال التعليق

Top