في الوطن السعيد، كنا لا نأكل إلا بعد أن نسقط على طعامنا قطرات عرق تقدسه وتضفي عليه طعماً خاصاً. شيء ما في ذاك الوطن كنا نشتمّه في التراب ونسمعه يغني في العاصفة.. كنا نشعر به يقود الريح ويرتسم على السحاب ويرقص بيننا مبعثرًا انفعالاته وضحكاته في الأزقة والأحياء وفي أروقة البيوت وأعلى الأسقف والجدران.
شيء ما، كان يجعلنا نعرق كثيراً ونخزن عرقنا في قارورات زجاجية؛ متقنة الصنع كنوع من الطيب الخالص الذي يعتصر من منتهى عزيمتنا لنتوج به عزيمة الأرض.
بعد أن كنا نسقي الأرض من عرقنا صرنا نمزج دموعنا بماء البحر.
ترسبت آلاف الدمعات الثقيلة التي عانقت أحلام الشباب الطائش في قعر البحر الأبيض المتوسط، وتجمدت آلاف القلوب التي كانت ملتهبة بنيران الألم الصفيق، وتبعثر آخر ما تبقى من ذاك الاندفاع نحو البر المبهم.
هذا هو الكلام الذي لم يفهمه الشاب ذو الخامسة والعشرين. لم يكن ليفهمه لولا بحر الضياع السرمدي.
تذكّر كيف قلبت الأمواج المندفعة مركبهم ورمتهم جميعاً وفرقتهم وكيف بدوا ضعفاءً. عاملهم البحر بخزي.
كان يعتريهم الذعر من أن يصيروا أرقاماً منقوشة على لائحة لا تشبع موتاً. كانوا خائفين من فكرة أن لا يصلوا أبدا إلى برّ الأمان وأن لا يسامحهم الله أبداً على ذنب اقترفوه في لحظة سهو. أن يموتوا دون أن تدفنهم أيدي أحبائهم.
أربعة عشر كيلومترا، كان ليجريها المرء ولكن كان عليهم الصبر، هناك.. كان يجدر بهم الخوف من زورقهم ومن ساعاتهم.. ومن غدر البحر.
وحده.. بعد أن تشتت الغرباء ولاقى كلّ واحد قدره.. كان يفكر بالقدر.. أسيشفق القدر وينقذني بعد جنوني وانهزامي؟
اكتسى الليل حلّة رهيبة، وبدا وهو يعمّ الأرجاء كطيف مخلّد يجوب أزقة الموت دون تأثر، والريح تعدو يمنة ويسرة دون عياء. في ما يشبه الارتباك، أخذ كلّ شيء في السكون كأنّ هناك يداً خفية هدّأت من روعه. والشاب المحبط الضعيف يحضن لحظات ماضيه بيأس وخيبة ملقيا على لوحه الخشبيّ آخر ما تبقى من قواه الخائرة.
استقرت بين عينيه صور مشتتة لأصحابه وهم يصارعون معه الموج بيأس من النجاة ورغبة جامحة في العيش. بينما ظل تفكيره شارداً بما سيؤول إليه مصيره، تلاشت الصور فجأة ليحل محلها مشهد مرعب للبحر وقد كساه الليل هيبة.. لم يجد لنفسه من مؤنس سوى الماضي وذاك الإحساس المزيف أنه يشتمّ تراب بلاده في مكان ما أو يسمع صوت الآذان أو نداء والدته. بين الفينة والأخرى توقظه الأمواج بعنف فيستفيق بهلع مما يبدو له حلماً ليجد نفسه فقاعة من اللاشيء ضائعة في عرض بحر هائج.
لم يكن للأمل معنى هناك. كلّ الأمل ظل بمدينة البيضاء خلف الضفة، على الجانب الأيمن من المحيط. متعة العرق ولذّة التعب كانت الأمل. صوت والدته وشكاوي والده وصياح بائع الخردة.. كانت الأمل، كلّ روائح بلاده، هواءها، بخورها، مشاويها العابرة وروائح الأقدام والأيام والأوهام.. جميعها أمل وهناك في عرض البحر لم يكن لديه شيء، مجرد فكرة حمقاء أنّ أوروبا وطن سعيد تلتصق به ويغسلها الموج.
لقد سرق اللصوص بلاده وجعلوا الأمر يبدو كهجرة سرية.
يعلمون أنه لن يجد أرخص من تذكرة الموت يانصيبَ ثراء. فهم الذين أوصدوا باب الرزق وفتحوا حدود الهجرة، وهم الذين اكتنزوا وهم النصر وباعوا الحلم في الظلمات، أظهروا له الوطن كاللظى يغتسل منه بماء الهلاك. هم طردوه وجعلوه يتناسى الثأر. يدمن دخان البؤس ويخيط الأزقة بلا وعي.. فقط كي يحظوا بحياة مزيفة..
اللصوص في كلِّ مكان، منهم من يسرق رغيفك ومنهم من يسرق إدراكك ومنهم من يسرق الإثنين معا.. حتى الروح.
من مدينة البيضاء حتى طنجة. كان الطريق شبه مفعم بالضمير، كان مترددا. ثم بعد طنجة أيام سهر وترقب. كان الخوف من أن يكون متجرداً تماماً من الضمير ومنغمساً في القرار الأعوج. وتمضية بضعة ليال مع غرباء يجمعهم بؤس وحلم طائش.
وفي البحر الجائع، لم يكن سواه.. ظل ضائعا لأيام عجز عن حسابها. فالليل يمرّ قروناً من الزمان والشمس الحارة تحترق في مهجته فتحرقها وتستمرّ في ذلك إلى أن يخيّل له أنّ النهار لعنة لن تزول.
شيء محبط أن يكون الماء في كلِّ مكان، وأنت، في قمة العطش. يلبسك دون أن تروي عطشك.. أن تغسل المياه المالحة دمعك ولا تمسحه حقا، حتى يجف البحر بما فيه.. شيء محبط حقا أن تشتاق لأوجه البشر ولوجهك ولا ترى أحدا.
شعر أنها ليلته الأخيرة وأنه لم يعد يطاق. ثم بعد أن استسلم لأنفاس الموت ترآى له ضوء نجمة عند الأفق ثم انطفأ.. ثم ظهر مرة أخرى وانطفأ. تبين له أنها ليست نجمة وإنما منارة: منارة ما وراء الحدود.
أرض الأماني المحبطة بدأت تتجلى له أقرب من نفسه، ولكنها في الوقت ذاته مرعبة.. فبدا بائساً وهو يجدف بكلتا يديه ويقابل صفعات الموج على جبينه بصرخات موجعة تحترق حسرات.
توقف.. وبعثر بعض الأوراق في ذهنه ثم أعاد ترتيبها ملتقطاً نفسا مؤلماً مغمضاً عينيه.
قائلا:
ـ" أيها القدر ارأف بي واجعلني استثناءً تافهاً وعد بي إلي حيث ولدت. اجعلني أستفيق من الكابوس على صوت والدتي، تنهرني وتأمرني بالبحث عن عمل. أقسم أني إن رأيتها سأقبّل كلتا رجليها وأبكي عندهما. سأقبل بأي عمل شريف.. حمّالا.. منظف طرقات.. بائع جرائد وقطع الحلوى للمارة.. سأفعل أي شيء. أرجوك اجعلني أفتح عينيّ فأرى النور".
ظل هنيهة مترددا؛ أيفتح عينيه أم يظل في روحانية نفسه.
فتح عينيه ثم رأى المنارة المزيفة تظهر ثم تختفي. كان من المحزن جداً رؤية ذاك الضوء الباهت دون جدوى..
عشية اليوم التالي عثر خفر السواحل الإسباني على جثة لفظها البحر على الشاطئ .. ثم أعادوها إلى المغرب بعد أن حددوا جنسية صاحبها.. وهناك دُفنت.
*قاصة مغربية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق