• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دراسة: الشخصية والإبداع

نورالدين موفق

دراسة: الشخصية والإبداع
بدأت بعض مدارس الغرب، في العقود الأخيرة تعتمد، في تعليم موهوبيها، على ما أتت به الاكتشافات الحديثة، من متعلقات كانت تعتبر من الأمور العلمية البحتة، والتي كانت مجال الطب العضوي. ويرى في هذه الاكتشافات ماله الأهمية البالغة في إضاءة بعض جوانب الشخصية الإنسانية عموماً، وماله من أهمية في تفسير كثير من ظواهر الإبداع، وتحديد للمسالك الأكثر صوابية، أو أكثر نجاحاً. وهذا كان دوماً المصدر الأساسي والذي نقبله وتحتويه النظم التربوية، ومناهجها لقوة قوانينه العلمية وتأييد التجارب بسهولة لتزيل الشوائب، والتناقضات والمجهولات في النظريات والدراسات أو الفلسفات، التي كانت تعتمد عليها دون ما هو كاف من إثباتات وبراهين. ونتوخى في هذه الدراسة صوغاً لغوياً وتعبيرياً لإحدى المسائل الرئيسة في هذا المجال، بما يمكن أن تحتويه اللغة العربية الغنية، وما يمكن أن يكون تراثها ومحمولات شخصيتها الإنسانية، ونتاجها الإبداعي أكثر كشفاً وتفسيراً من هذه القواعد العلمية. بما تملك من عمق أكثر استيعاباً لها وأكثر استشراقاً لآفاقها القادمة. لم يكن التقسيم الثلاثي للشخصية وليداً لإحدى مدارس علم النفس، وبما لا شك فيه مسألة اتصاله بجذوره التاريخية. لقد كان للبطولة والإبداع ذلك الفضاء الواسع، من الكشف لقوى وفعاليات مجهولة المنشأ والأسباب، جعلت للخرافات والأساطير ذلك المجال الرحب لتخوض فيه خيالات الناس وكتاباتهم. وكان العلم دوماً هو المثبت لخطا الأدب الجامحة أو الجانحة بعيداً عن أرض الواقع ومتطلبات عقل الإنسان، في تفهم لا يبتعد عما تلمسه يده مما هو مجسد أمامه، ولا يخالف ما هو راسخٌ أمامه من قوانين علمية، كان للتجارب دورها المرافق في كونها البرهان الأفضل من كل برهان. ونحن أمام فيض من الاكتشافات الحديثة، لا نستطيع أن نخرج عن تلك القاعدة التي تجعل من الإبداع والبطولة السر الذي يضيء كشفه: معالم الشخصية الإنسانية في المستوى الذي بلغته من التطور، ويتجه بنا إلى توصيف أكثر تكاملاً لهذه الشخصية.   - منطلق الدراسة: مفهومي الدوافع العاطفية والمحددات المعرفية: نمت في أطروحات علم النفس، وقبلها في الفلسفات التي لا تعتمد على ما هو كاف من براهين علمية: مسألة "النسقين المعرفي والعاطفي للشخصية" وذلك في حوارهما داخل الشخصية من أثر كل منهما على الآخر. ثمّ أتت مؤخراً الاكتشافات والتجارب العلمية الحديثة لتؤكد علاقة البنية التشريحية للمخ بذلك إلى درجة أن يقال "من المعروف أنّ الفص الأيمن للمخ هو الفنان العاطفي الوجداني، أما الفص الأيسر فهو العالم المنطقي". ويظهر مما سبق بروز مسألة إرجاع التقسيم الثلاثي للشخصية إلى تقسيم ثنائي، له صورته العضوية في تكوين جسد الإنسان وبالتالي آثاره الوظيفية. فالقسم الأوّل يتمثل فيه الهو، وهو المسؤول عن الدوافع العاطفية، والقسم الثاني يتمثل فيه الأنا، وهو المسؤول عن المحددات المعرفية. وكان لهذه المسألة تطبيقات عديدة كما في الملاحظات والدروس، التي توجه للرسامين والموسيقيين باستخدام أطرافهم اليمنى أو اليسرى وفق ذلك، بالاستناد إلى ما هو راسخ في العلم، من مسؤولية القسم الأيمن من الدماغ عن القسم الأيسر من الجسم، ومسؤولية القسم الأيسر من الدماغ عن القسم الأيمن من الجسم. وذلك أنّ الإحساسات التي يستقبلها الجزء الأيسر من الجسم مثلاً، تذهب إلى الجزء الأيمن ليقوم بمعالجتها.. وهذه المسألة كغيرها من المسائل المشابهة، لا تخرج عن إطار الفطرية التي تجعل من الأُمّهات مثلاً يَمِلْنَ إلى وضع رؤوس أطفالهنّ في الجهة اليسرى قريباً من القلب، وتكون الهمسات أو الأغنيات التي ترددها الأُم لوليدها قريباً من أذنه اليسرى مما ينمي له عاطفته في الجهة اليمنى من المخ. لكن أين هو القسم الثالث من الشخصية الأنا الأعلى؟؟.. يمضي العلم الحديث إلى الإقرار أنّه جوهر معادلة تفاضلية لهذين الدورين السابقين "لكل من جناحي الشخصية" فهما ككفتي ميزان، وما يشير إليه الميزان بالنتيجة هو الصورة التي يظهر فيها الأنا الأعلى بحالته الراهنة، وبالتالي تظهر الشخصية بكونه قائدها وموجهها لكن يشير العلم الحديث إلى انقسام هذا الأنا بين القسمين أي بين ما لديه من ثوابت معرفية يتمسك بها، ويضعها بالمرتبة العليا في محدداته المعرفية وبين الدوافع السامية التي لا يتنازل عليها بسهولة، على أنّ الارتباط يتحقق منذ الطفولة، وخصوصاً بتجاربها، ففيها بداءة تشكيل المواقف المستقبلية فمنها الحدس الطفولي، المنطلق أساساً من الحدس الفطري الذي كان عليه الطفل منذ ولادته، وهو في حالة التوازن الفطري، أي قبل أن تتشكل لديه المحددات المعرفية، وقبل أن تأخذ الدوافع المكتسبة دورها التحريضي. هذا ويكون المبدع بأعلى درجات إحساسه المرهف، ومع ما يتطلبه من اليقظة والحذر، ساعياً باستمرار إلى المحافظة على توازن شخصيته كلما تقدمت به الدوافع. وذلك بالنظر إلى أحقيتها لما تستدعيه من محددات معرفية أعلى درجة مما سبق. تؤدي بالنتيجة إلى توازن جديد يسعى إليه هكذا – ومن هنا يظهر التحول في الشخصية، والذي يكون وليداً لآثار دوافع معينة، أدت إلى نتيجة مبدعة وفق ما كان عليه ضبط المحددات المعرفية، ومن هنا يظهر ما يميز المبدعين، فإما أن تكون النتيجة بقاء الرجحان لفعالية الجزء الأيمن من المخ أي عدم تشكل المحددات المعرفية الكافية، وهي الحالة الأكثر انتشاراً لدى المبدعين ولدى الناس عامة. ومنها يسيطر كما قيل سابقاً "الفنان العاطفي الوجداني"، ويكون النتاج الإبداعي إما رسماً (أو فناً تشكيلياً على العموم) أو يكون أدباً أو شعراً أو موسيقاً. وإما أن تكون النتيجة سيطرة للمحددات المعرفية فيكون النتاج الإبداعي كما يوصف بأنّه "فكري" قد ينساق في "ثرثرة لا طائل تحتها" إذا لم تصل إلى الدرجة العلمية بفائدتها، أي بروز "العالم المنطقي" بما هو جديد وبما هو قادر فيه على وضع الحدود لفيض الدوافع العاطفية، والتي هي بسيطرتها صفة من صفات النساء تعيب الرجولة الحقة، حيث يتصف بذلك الكثير من الرجال في هذا العصر، ومنهم ما يوصف بالأوصاف الإبداعية، وإن كانت حالة يمر بها الكثير من المبدعين بوجهٍ عام وفي ظروفهم القاسية، إلا أنهم كغيرهم من عامة الناس عليهم التنبه من طرح الكثير من الأمنيات والآمال، دون ما تتطلبه منهم مواقفهم الحياتية، من موازاة للجوانب المعرفية بدرجةٍ كافيةٍ وفعالة. وبالتالي أداء المتطلبات دون غرق في فعالية نفسية تدور في مكانها أحياناً، أو تصعد وتنزل، دون بلوغ المأرب الذي تريده، أو محاولات إسكات الدوافع المحقة بمحددات واهية ليست إلا أباطيل وأوهام، سرعان ما تنهدم لتغرق صاحبها ومن حوله، بما كان مكبوتاً، كماء وفير حجزه سدٌ ضعيف. هنا يمكن أن تظهر ببساطة ما تحدثت عنه مطولاً أطروحات علم النفس في مجال "الكبت" مثلاً غير أننا يمكن أن نلاحظ مسألة أهم وهي مسألة "فصام الشخصية" وهذه من الانقسام الحاصل بين جناحي الشخصية وعدم توافقهما. وإذا كانت هذه الحالة مما يعتري المبدع في لحظات هامة، وهي لحظات "الخلق الإبداعي" بما وصفناه من تقدم للدوافع العاطفية حتى تتشكل المحددات الموافقة. إلا أنّ هذه الفترة قد تطول مما قد يجعل ببعض المبدعين في تكاسلهم وضعفهم يُسكتون حث دوافعهم النبيلة بوجهٍ خاص بأوصاف كوصف "ذاكرة النسيان". بما يجعل منها وصفاً لتنويم ذاتي، له أثره من الفعالية، التي تجعل من المبدع يتألم، ويعبر عن الاحتراق في مشاعره وذلك من التحريض المستمر للدوافع عندما تصطدم بالإقرار المعرفي لها بأحقيتها في أن تأخذ مجراها من التحقق. وخصوصاً عندما تكون المعرفة بدرجاتها العليا. كما يرى بأمِّ عينه ما يثيره ويجد نفسه عاجزاً عن القيام بما يرضي به "ضميره" أي أناه الأعلى، وهنا يأتي الدور الكبير من القلة من المبدعين في كلّ زمانٍ ومكان، حيث يتحقق لديهم ذلك الاتزان الذي يمسك بجناحي شخصيتهم وهما يرفرفان في علوٍّ وشموخ، ليظهر دور الرأس من قلبٍ ناطق ومعبراً بلغة ثالثة تجمع العلم والأدب. لكن أين تكون فعالية هذا الأنا الأعلى أو هذه الفعالية الصافية للقلب، حين لا يعكّره أو يعتّم عليه فعّالية أحد جناحيه: لقد قيل كثيراً بالعين الثالثة بين العينين. وعن هذه العين الثالثة بين العينين، يتجه العلم إلى ما نستجمعه في الوصف التالي: إنّ هذه المنطقة هي منطقة "المهاد" من الدماغ (السرير البصري) الذي يلتقي فوقها فرعي العصبين البصريين في تصالبهما: بذهاب فرع من العصب البصري للعين اليمنى إلى القسم الأيسر من المخ، وذهاب فرع من العصب البصري للعين اليسرى إلى القسم الأيمن من المخ وهذه المنطقة بمركزها (نقطة التصالب) هي نقطة احتراق المبدع تظهر فعاليتها التي تشبّه بالنازية في عينيه، إلا أنها في سكون الاحتراق بعد الوصول إلى النتيجة الإبداعية. أو بالأحرى مرافقاً لها نرى أو بالأحرى نحسُّ بضياء خافت ولكنه أكثر إشعاعاً وأبعد مجالاً، وهذا ما يلحظ لما يسمى بالفيض المغناطيسي للجسد الإنساني الذي بدأ الحديث عنه كثيراً في الآونة الأخيرة. هذا مترافقاً مع دور الاتصالات العصبية بين قسمي المخ، والتي تكون لدى المرأة أكثر من الرجل مما يعنيه هيمنةً للدوافع وصعوبة في الوصول إلى التوازن بعيداً عن صورة الرجل القدوة أو المثل. إلا أنها تساهم في تكوين الصورة لما هو مأمول به (النتيجة المبدعة) بما تسمو به من دوافع، وبما يضع ضوابطه المقابلة ذلك الرجل المبدع. وهذا بالطبع يكون تاثراً بفعاليات نفسية (لها آثارها الكهرومغناطيسية أيضاً). ويكون في أرقى أشكاله حيث يتوافر الحوار بالنتاجات الإبداعية والأعمال البطولية من كلا الجنسين. غير أننا إذا أردنا التركيز على نتاج الشخصية حين تقف وتساق من أناها الأعلى، فهو كما تمت تسميته باللغة الثالثة أي اللغة التي تكون حين تنبض المقولات المتوازنة والحكيمة في سموها، بعد المرور بحالة "التحول في الشخصية" عند اكتمال رشدها، بعد مسيرة طويلة من جيشان الدوافع العاطفية من مرحلة الطفولة التي يبقى صاحبها متمسكاً بها لما تصعده في نفسه من إثارة مستمرة حتى يبلغ ما كان حدسه سابقاً إليه من قبل. وأخيراً.. ماذا يمكن أن نقدم من ملاحظات لمبدعينا في طريقنا لفهم أفضل للدوافع العاطفية والمحددات المعرفية والعلاقة المستمرة فيما بينها: 1- عدم الخلط بين العقل والمحددات المعرفية، كما وعدم الخلط بين القلب والدوافع العاطفية.. إذ يقصد بالعقل معنى التمام (في الضبط والتحصين) وتوفيقه بالصوابية (العلمية المناسبة). كما لا يكون القلب معنياً بما يوصف به من فعالية له (مجردة عن أي شوائب أو عيوب) إلا في حالة تلبية هذا العقل لمتطلبات دوافعه المحقة. وهذا ما يكون غير دقيق في تعابير الشعر والأغنيات باتخاذها سبل المجاز.. وغير دقيق أيضاً في الكتابات الفكرية حين تبقى بعيدة عن الحقائق.. 2- الابتعاد عن النتاجات الإبداعية في غير مكانها أو زمانها كما عندما تزيد النتاجات الشعرية مع العناية بالصور والزخارف اللفظية.. دون العناية بالمضامين التي تدل الحاجة إليها أو المواقف التي تتطلبها. 3- تحديد التجاه الإبداعي بشكل أفضل بما لا يهمل القدرات الإبداعية.. التي يمكن أن يمتلكها المبدع في المستقبل وبشكل مترافق مع تطور شخصيته. 4- "ولادة الإبداع" تتحقق بتلبية نوع من المعرفة أو أكثر لدافع أو أكثر من الدوافع أما "ولادة المبدع" فلا يحققها إلا النوع الثالث من المبدعين لأنّها عملية إجمالية توافقها الشخصية في تحولها. ويبقى باقي المبدعين في اضطرابهم أو في الزعراض المرضية للشخصية الإنسانية.. كما يبرز ذلك في النوع الأوّل "انفلاتاً عاطفياً" وفي النوع الثاني "قيوداً مبالغاً فيها". 5- أن لا يغرنا الكم والتعداد لمكتشفات أو اختراعات علمية للاعتقاد بالإمساك بذرى العلم والمعرفة، فهذا لا تتمكن منه الشخصية الإنسانية إلا بعمقها أو لا، والذي يكون بعيداً عن الجريان وراء الآلية التي تضخ متطلبات وحاجات سطحية. وهذا العمق هو المولد للحدس العلمي – الرائد للمعرفة في بلوغ مبتغاها. 6- قارب الشعر – الحكمة لدى الإنسان العربي المبدع أكثر من غيره من أبناء الأُمم الأخرى.. مما يدل على تقارب عمق عاطفته مع سمو – معرفته. واستحق أن يصير لديه البعيدين بعداً واحداً يفيض جوداً وكرماً في مجتمعه الإنساني. 7- من الضرورة التفصيل في مسألة غاية في الأهمية وهي حالة عدم القدرة على ضبط الدوافع العاطفية والتي تكثر لدى المبدعين والطلبة بشكل خاص والشباب منهم بشكل أكثر خصوصية. فالمبدع بإمكانه أن يكتب خياراته وتصوراته بشكلها الأدبي كما أدت إليه دوافعه العاطفية (بمعرفة أضعف).. لكنه لم يكون ناجحاً مثلما لو استثمر هذه الدوافع في بناء شيء على أرض الواقع (في ذاته أو في محيطه الاجتماعي وهذا لن يكون إلا بتكامل شخصيته مع جانبه المعرفي والذي له دوره في الإحساس والوعي بما هو مجسد أمامه أو معطى وممكن لديه. هذا بالنسبة للمبدع الذي كما ذكر يمكن أن يحقق بعض النجاح (في وقت ما) بما ينتجه من شعر أو أدب أو فن. ولكن كيف الحالة بالنسبة لمن لا زالوا في طور اليفاعة ولا يملكون القدرة على تصويب أنفسهم في اتجاهات إبداعية تتطلب منهم تحصيلاً علمياً.. هؤلاء ككثير من الطلب الذين نلمس ضعفهم وتكاسلهم لزوال القدرة على وضع الحدود لفيض دوافعهم وجنوحها والغرق بها بعيداً عن ما تتطلبه منهم حياتهم الواقعية (أو بالعكس عندما تكون المعرفة المكتسبة مقيدة لدخول دوافع إيجابية مرافقة في فعاليتها).. مما يؤدي بالكثير منهم في الحالتين إلى الفشل الدراسي والفشل في تلبية احتياجاتهم الذاتية والاجتماعية. فهؤلاء بحاجة إلى تفهم مناسب لدوافعهم والتي تكون لها أكبر الأثر عندما تصوب وفق المعايير المعرفية والمدركة للحاجات الواقعية.. هؤلاء الطلاب بحاجة إلى تدريب واعتياد على المقابلة بين الدوافع والمحددات المعرفية التي يجب السعي إلى تكوينها في الذات الإنسانية.. وهذا لا يكون بالطبع إلا بجو من الحرية والرعاية الموضوعية والتي تكون من الأهل والمعلمين وغيرهم من الفئات الاجتماعية التي يكون جوهر الرابطة فيها المحبة. أما الحب فهو الذي يتوج نشاط المبدع وتوجهه.. لكن الحب لا يكون إلا بتكاملية الشخصية ولا يكون ذلك بالطبع إلا بقيادتها من الأنا الأعلى وقبوله بمعطيات هذا الحب بكل ما يتطلبه من مواقف (وهذا من بساطة فكرة أنّ الحب لا يكون إلا بالقلب، إلا أن من يعبر عنه هو الضمير أو الأنا الأعلى حسب الوصف السابق. إلا أنّ القلب الذي يبقى متطلباً فيه الصفاء في النواحي الإيمانية يكون كذلك كلما كان الحب أرقى وأسمى حتى ينال أوصاف الحب الروحي أو الإلهي). أما نراه بشكل شائع هو الانقياد والاستسلام للتأثير التحريضي وغير المنظم للعواطف أو اتباع الحواس وفق ما هو ظاهر وملموس بكل سطحي في المحيط الواقعي بناء على معرفة محدودة تحتمل الصواب والخطأ ولكن المشكلة الأساسية هي في صعوبة تغييرها أو نموها بعد ذلك إذ تقوم هذه المعرفة المحدودة في أخطائها بصدد الدوافع المرتقبة أن تأخذ مجراها من التحريض بالاعتلاج الداخلي في الشخصية.. فالشاب هنا بحاجة إلى المعرفة السليمة لمتطلباته الحياتية، كما المبدع بوجه خاص بحاجة إلى معرفة خاصة لمتطلبات نتاجه الإبداعي الذي يريد.. والمحب تلزمه المعرفة.. المعرفة لواقعه وأين تسير به تأثيرات هذا الحب عندما تعصف به عواطفه مرتبطة بأحلام الشاب وأمنياته وبكل ما كان عميقاً في الشخصية منذ الطفولة. مما يوقعه في خطورة تعترض موافقه اللاحقة من إمكانه لتحقيق توازن مناسب فيها أو فشله بذلك، بما يظهر جلياً بتطور الشخصية وتطور نتاجها الإبداعي. وكذلك المبدع.. كما في الحالات التي نراها في وقتنا الراهن.. إذ نجد كثيراً من المبدعين يضعون تصورات واسعة لما هو مأمول، ويستفيضون في تزيين صورهم وزخرفتها.. بينما الذين سينجحون في تحقيق تصور معين والمساهمة في بناء صورته الحقيقية على أرض الواقع.. هم قلة قليلة من المبدعين، وهؤلاء لم يصلوا إلا ذلك إلا بما يملكونه من مخزون معرفي عالي المستوى ومتقدم في علميته، مترافقاً مع العاطفية العميقة في جيشانها. مما يؤدي إلى تثبيت الخطى الواقعية للنتاج الإبداعي المأمول، والذي يكون معبراً عن موقفهم في الحياة. 8- يأخذ النقد الإبداعي معاييره من خصائص الشخصية الإنسانية وتحولاتها الإبداعية وخصوصاً في مسألة اللغة الإبداعية وخصوصاً في مسألة اللغة الإبداعية ومقاييسها التعبيرية، كما يكون ذلك شكل ومضمون أي منتج إبداعي.   - الخاتمة: الإبداع هو نتاج تكوين موضوعي توافرت عوامله في الشخصية الإنسانية وفي محيطها المكاني وحولاتها عبر الزمن. نأخذ مثالاً "الشخصية العربية" تلك التي عاشت في أرض كانت مهبط للرسالات السماوية، وعاشت عبر تاريخها ظروفاً قاسية، وتحولات عميقة إنجازات بارزة. هي بما لا زالت تتمسك به من أخلاقيات، لها أثرها الكبير بما لا يمكن أن تفقده من عوامل هامة ورئيسة للإبداع "في أهم ما يتجه إليه من تلبية لحاجات أساسية": لا زال المجتمع الإنساني ينشدها، ولا فكاك له من أن يعود ليتلمس مصادرها الغنية، من تلك الأرض، ومما لا زالت تحمله شخصية الإنسان العربي، ذلك الذي كان معطاء وفياً لرسالته الإنسانية ودوره الحضاري رغم كل ما يعانيه، فسرعان ما يعود ليخرج من مواقفه، كما النبع الغزير بعد طول انحسار، وكما الفجر من بعد اشتداد الظلمة، فلا زالت الحاجة أم الاختراع، وليس هناك إبداع عظيم دون حاجة عظيمة. ولعل الإنسان العربي في تلك الشخصية التي يملكها ولا تقبل أخلاقياتها الاستسلام أو القنوط.. لا زال في أشد ما يعانيه في قضاياه التي هي القضايا المركزية في هذا العالم (مهما تقاربت أو تباعدت أشتاته).. لا زال هذا الإنسان العربي يملك مقومات ما هو مأمول لديه، وما هو حق وعدل، مهما كان من تعتيم جار من حوله، فهو كما الماضي يعود ليشق طريقه من ضباب أيامه، في عطاءات جديدة من أوعية يملك فيها أكثر من غيره: مواده الخام ووسائل صناعته وإبداعه، لينتج ما يحتاجه هو أكثر من غيره، وما كان من آثار لابدّ أن تنتشر فيما حوله، ودائماً كان الإنسان هو منطلق أي تطور وكان بالنتيجة غاية هذا التطور.   - الحواشي: 1- الأنا والهو والأنا الأعلى (المدرسة التحليلية لعلم النفس – فرويد). 2- بأوصاف كالسحر وغيره. 3- (من الشائع هذه الأيام التفريق بين علماء النفس الذين يرون أنّ العمليات النفسية تقوم أساساً على تكوين الترابطات بين المنبهات والاستجابات، وبين أولئك الذين يتركز اهتمامهم بصورة رئيسة على الطرق التي يتلقى فيها الناس المعلومات وينظمونها ويختزلونها وفي النهاية ينتجونها كمعلومات يمكن الاحتفاظ بها بسهولة وتذكرها بسرعة): آ. ج. كروبلي: "سيكولوجية الإدراك" من كتاب "الإبداع" لـ. ب. ي. فرنون: "نصوص مختارة" ترجمة: عبدالكريم ناصيف. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1981. 4- راجع على سبيل المثال الدراسات التي ينشرها معهد جونز هوبكنز الطبي الأمريكي وجامعة مينسوتا، وكلية هارفارد الطبية الأمريكية، وجامعة ويسكونس – ماديسيون الأميركية. مع ملاحظة ما تتميز به الدراسات العلمية الحديثة من التشتت بصدورها من أماكن مختلف وكم هي بحاجة إلى عمق النظرة التي هي مولد القدرة الموسوعية التي تميز بها المبدعون العرب عبر تاريخهم. 5- الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية العالمية للطب النفسي في تعليقه على دراسة حديثة لجامعة مينسوتا. 6- محتوى هذه المعلومة وماله من تشعبات كثيرة نقطة أساسية في تعليم الناشئة بدءاً من محاولات فردية منذ أواخر القرن الماضي. 7- أي من الناحيتين المورفولوجية والفيزيولوجية (المورفولوجيا: علم تشكيل الكائنات الحية. والفيزيولوجية: علم وظائف الأعضاء. انظر مصطلحات الفلسفة باللغات الفرنسية والإنكليزية والعربية إصدار المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية "القاهرة" عن دار مطابع الشعب). 8- تكون الأذن اليمنى هنا قريبة من القلب، مما سيتم الإشارة إليه من ترجيح تتطلبه الشخصية الإنسانة لفعالية (الأنا الأعلى المرتبطة بالقلب وهي الفعالية الإيجابية للضمير) وذلك بالمحددات. وقريب من هذا ما يقوم به المسلم في صلاته من وضعه لليد اليمنى واليسرى مع ما تتطلبه الصلاة من صفاء للقلب. ومنها يظهر مدلولات الحالات الثلاثة التي وضعها القرآن الكريم للشخصية الإنسانية وهي: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والسباقون: (من سورة الواقعة) وهي من الفعاليات الثلاث للنفس الإنسان. النفس اللوامة – النفس الأمارة بالسوء – النفس المطمئنة.. وهذا مما شابه ما ذكرته المدرسة التحليلية: النفس العاقلة – النفس الشهوانية – النفس الفاضلة. 9- انظر: كمثال على الفلسفة العربية في هذا المجال: كتاب "المعرفة" لـ: محي الدين بن عربي عن دار التكوين في دمشق، تحقيق محمد أمين أبي جوهر، عام 2003. حيث يتجه إلى الخروج عن الحس والعقل معاً لظهور دور وتأثر هذا القسم من الشخصية الإنسانية (هذا كما في الصوفية بشكل عام بتعبيرها عن سمو الشخصية). 10- يمكن إبراز بعض مشتملات جناحي الشخصية أو كتفي ميزانها بما هو مرتبط بكل من الدوافع والمحددات بالجدول التالي (هذا في غير ما ألمحت إليه الدراسة ولا مجال للتفصيل فيه).   المحددات المعرفية الدوافع العاطفية الذاتية النظرة إلى الأفق (الوعي المحيطي) الحب بفرديته الموضوعية النظرة العميقة (الاعتلاج الداخلي) المحبة بعمومها   11- مع أنّه يوصف برأس الطير أو الميزان. وهذا الوصف لما يسمى بطائر الشخصية أو ميزانها له العديد من التطبيقات والاختزالات لصورة الشخصية في حركيتها، بين الدوافع العاطفية التي تسبق والمحددات المعرفية التي تعود بضبطها لتلحق بالدوافع، فتكون بمجاراتها موازية لها، أو تسبقها، وخصوصاً لدى الرجل، والرجل العالم بوجه أكثر خصوصية، إلا أنّه بهذه العملية، وعندما يدخل كمية كبيرة من المعلومات، كما الذي يوصف بكثرة المطالعة للكتب المعرفية. أو التي توصف منها بالفكرية بوجه خاص، دون بلوغها الدرجة العليا، بالوصول إلى القواعد القانونية، وخصوصاً استنباط ما هو جديد.. تكون قد صنعت سجناً له بحاجة إلى فكه بإثارة دوافع جديدة. 12- هذه الصفة يحتاجها الرجل حتى في علاقته مع المرأة، فالرجل يتميز برجحان الضبط المعرفي، أو التوازن المستقر نسبياً في مستوى عالٍ ومتقدم، وهو الوصف الذي يشمل كل أوصاف الرجال الذين يتميزون بقوة قلوبهم بما فيها من محبة، ويشمل: رجال الدين والسياسة والحكمة ويشمل أيضاً الأنبياء والأولياء والشهداء (في درجة إحساسهم والتزامهم بموقف يمليه ضميرهم من نقاء قلبهم الذي يستشرف للقيم العليا فتحاً ونصراً وإضاءة لدروب قادمة). أما المرأة فهي تتميز برجحان دوافعها العاطفية المحرضة للرجل بالاتجاهين الإيجابي والسلبي وهي التي تحتاج إلى مساندة ضبط الرجل ليسمو معها بقدرته المعرفية الأكبر. 13- لاحظ مثالاً أطروحات اليوغا وممارساتها. وتسمى هذه العين أيضاً العين الشرقية لأنّ الفلسفات الشرقية أكثر من تناولها بتعمق شديد. وكان للعرب نصيب كبير من هذه الفلسفة ولكن برزت أكثر ما يكون بما لديهم من تسمية (البصيرة)، وفي فلسفتهم يظهر أكثر من غيرهم الاتجاه بالمعنى والمدلول إلى ما نقصده وهو أنّ هذه هي المنطقة التي تلتقي فيها فعالية القلب بفعالية كل من جناحي الشخصية أو تعبر بسلام في الحالة المثالية (كلما حافظت فيها الشخصية على توازنها الفطري المتوافق مع الطبيعة ونظامها) ليتشكل في جميع الأحوال ما يسمى بالضمير (الأنا الأعلى)، على أنّه كانت الديانات السماوية المرجع والحكم الأكبر لكل ما أتت به فلسفاتهم والطرائق التي اتبعوها أو في العلوم التي حصلوها في طريقهم إلى ذلك. 14- هذا ما يمكن أن نسميه بجميلتنا النائمة عند استيقاظها. غير أنّ لهذه الفعالية النفسية فعالية كهرومغناطيسية مرافقة من أثر سريان الأمواج الكهربائية في العصبين البصريين، وهي تكون بشدة عالية من إثارة الدوافع قبل السيطرة عليها، لتحقق عند السيطرة عليها والتوازن مع احتوائها دون التنازل عنها أو هدرها (عندما تكون المعرفة بلغت حدودها العليا وفق المتطلبات الواقعية للشخصية المبدعة) – تحقيق حالة من صدور الموجات الكهرومغناطيسية خفيفة الشدة، وهي موجات أطول من الأولى، وهذا يمكن تشبيهه بلغتنا التراثية بكون "العقل حصن للقلب" من دور المحددات المعرفية في قدرتها العالية على صون الدوافع العاطفية الإيجابية، ووصف العقل في ذات الوقت بأنّه "نور في القلب" لما يولده ضبط المحددات المعرفية من فعاليات نفسية توافق وفي وصفها الأوصاف التي يوصف بها نتاجها الإبداعي وتجمع أيضاً بين العلم والأدب. 15- لابدّ من الإقرار بمسألة ترافق "الفعالية العضوية (البنيوية)" مع الفعالية الكهرومغناطيسية. إذ في كل واحد منهما كشف للآخر.. وهذا كان مجال "الحس العميق" للإنسان عبر مسيرته الطويلة، وهو "الحدس" الذي يرافق الحكمة التي يتميز بها المبدعون الذين يحافظون على توازنهم. ويقاربونه عندما يقاربون هذا التوازن بنسبية بين البشر تحتمل الخطأ والصواب. 16- يتمسك المبدعون عامة بطفولتهم لما يعتبرونه محرضاً لإبداعهم يصل في أحدهم إلى درجة القول: "مصيبتنا في العالم العربي أننا نقتل الطفل الموجود في اعماقنا رغم أنّه يمتلك ذكاء وفطنة نستطيع بهما اختراق العالم": رضا الباهي (مخرج تونسي). إلا أن حالة التحول هنا هي الحالة المثالية المتطلبة في المبدع، ولا يبلغها إلا ما وصف بالنوع الثالث من المبدعين والذين يملكون إمكانات الحالات السابقة للإبداع "النوعين السابقين". وهي الصورة المنشودة لحالة التوازن بين "الدوافع المعرفية" و"المحددات المعرفية" لدى الإنسان. ويرى الحاجة إلى إبرازها بهذا الاختزال بعيداً عن التعقيدات والإسهاب والتطويل. 17- هذا في حالة كون أنواع الإبداع هذه ناجعة وكافية بحد ذاتها. 18- إنّ ما يلعب الدور الأساسي في تصويب مسار الشخصية هنا هو حدسه الفطري ومن ثمّ حدسه الطفولي القريب منه المتشكل من بداءة الأنا الأعلى للشخصية، والذي يصفه المبدعون بالطفل الذي في أعماقهم والذي يعطونه المجال الواسع من حرية الحركة والتأثير في شخصيتهم حتى أعمار متأخرة، دون أخذ بعين الاعتبار مسألة تكامل الشخصية أو حتى ضرورة الانتقال من اتجاه إبداعي إلى آخر تفرضه الحاجة الإبداعية. ولذا يرى ضرورة تنحية الحدث الطفولي تباعاً عن قيادة الشخصية (مع نضج الشباب) لصالح الاستمرار بالحدس الفطري ليأخذ الشخصية مترافقة مع دورها الموضوعي ويضعها في إطارها الكوني الأرحب. 19- هذا مع عدم رفض مشاركة الحدس في ذلك بل الارتكاز إليه دفعاً لطغيان أحد الجناحين في بناء الموقف، إذ إنّ هذا الحدس هو المعبر عن لغة القبوب ومواقفها في صلاتها الموضوعية حين يستشرف المستقبل وتتجه نحوه مع ارتباط ذلك بما تعتقد وتؤمن به هذه الشخصية. 20- الجسد والأرض.   المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 495 لسنة 2004م   * كاتب سوري

ارسال التعليق

Top