يقول أحد علماء البرمجة اللغوية العصبية: «إنّ الإنسان يتلقّى أكثر من مئة ألف كلمة سلبية منذ الصغر حتى عمر العشر سنوات الأُولى من حياته». تأمّل أيّها القارئ في هذا الكمّ الهائل من التعليمات السلبية، التي ستترك أثرها الكبير في تكوين شخصية الطفل وذكائه؛ حيث يختزنها عقله الباطني، وترافقه مدى الحياة، وقد تؤدِّي به إلى العُزلة؛ لذا بدأ علماء النفس والتربية باعتماد أساليب إيجابية في تنشئة الأطفال. فالطفل يُولد على الفطرة والرعاية والمحبّة والتربية الإيجابية، التي هي مزيج من العطف والحبّ والتفاهم والحماية.
وهناك أساليب مختلفة لتلك التربية، لكنّ المفهوم يبقى نفسه؛ وهو أن تمنح الطفل حبّاً غير مشروط، وتوفّر الرعاية التي من شأنها أن تزيد من ثقته بنفسه. ففي دراسة أُجريت في أستراليا شملت ستاً وعشرين مدرسة لتقييم فعالية برنامج التربية الإيجابية بين الطلّاب، أظهرت النتائج تقلّص عدد الأطفال الذين لديهم مشاكل سلوكية، وزيادة كبيرة في مهارات التعبير عن الذات، مقارنة مع الأطفال الذين لم يشاركوا في هذا البرنامج.
ولكي تكونوا أيّها الأهل إيجابيّين، ينبغي أن تمتلكوا الثقة بالنفس، وتفهموا أطفالكم؛ فالإيجابية في التربية لا تعني أن تكونوا متساهلين، بل على العكس ينبغي أن تضعوا حدوداً لا يفترض على الطفل تجاوزها. وتتعلّموا كيفية التفاوض وإقناع أطفالكم بطريقة فعّالة، ولابدّ أن تعرفوا أنّ مهمّة التربية مهمّة صعبة، وبما أنّ لكلّ طفل خصاله الفريدة، لذا لا توجد طريقة واحدة مبسّطة للتربية، فأمر اختيار الأسلوب يعود إلى الأهل، وبمزيد من الرحمة والحبّ والعطف والاحترام ستكون النتائج مذهلة .
إستراتيجيات التربية الإيجابية:
تشكّل هذه الإستراتيجيات بدائل عملية عن اللجوء إلى العقاب، فهي وسائل تبني الشخصية المتميّزة التي يطمح لها الأهل. وهي عبارة عن خطوات عملية ومتكاملة، تصبح ضرورة في حالات الأزمات الطارئة بين الأطفال، سيّما عند لجوئهم إلى السلوكيات العنيفة والمقلقة، ومنها:
1- مكافأة السلوك الإيجابي: وهي طريقة فعّالة جدّاً للتخفيف من حالات التوتّر، لها قوّة هائلة في بناء شخصية الطفل؛ وتتحقّق إذا قام الأهل بعدم التركيز على السلوك المنسجم مع عمرهم كالحركة والاكتشاف المستمر للمحيط، وابدوا تسامحاً معهم، وكافأوا سلوكهم من خلال توجيه المدح، وتحديده بالسلوك الإيجابي، وهو ما يُسمّى بـ«المدح المخصّص»، ومثاله إسماع الطفل عبارة: «ما أجمل خطّك» أو «كم أنت طفل مبدع... وغيرها».
2- الشعور الخاصّ: هو نوع من التعبير عن المشاعر التي تربط بين الطفل ووالديه، فالمشاعر خلقها الله سبحانه لكي ننطق بها لا لنخزّنها بداخلنا، وعادة ما يكون ذلك من خلال إسماع الطفل كلمات تعبّر عن محبّتك له. وإنّ توقّف الطفل عن السلوك المزعج هو بحد ذاته نجاح ينبغي المكافأة عليه. ولكن يجب الانتباه إلى عدم المبالغة في المدح، حتى لا تؤدِّي إلى نتائج عكسية. وتذكّر أنّ الناس طيِّبون أكثر ممّا نتصوّر ونحن يمكننا إخراج أحسن ما فيهم، إذا أخرجنا أحسن ما عندنا، وأطيب الناس الأطفال.
3- الإنصات الفعّال: وهو ما يُعرف بالاستماع النشط، وهو يعني الاستماع باهتمام وبكلّ جوارحنا لما يريد الطفل التعبير عنه، وكلّما مورست هذه الطريقة، كلّما عرفت العلاقات الأُسرية انحساراً لحالات التشنّج. وهناك خمس خطوات للاستماع الفعّال:
- اربط علاقة تواصل بين عينيك وعيني طفلك، واحرص أن لا يشيح وجهك عنه؛ لأنّ ذلك يوحي له بقلّة الاهتمام وقلّة اعتبار لشخصه.
- اجعل علاقة اتّصال واحتكاك جسدي مباشر مع طفلك، وذلك من خلال لمسه، وتشابك الأيدي والعناق.
- كرِّر ما يقوله واظهر همهمات ليرى مدى تفهمّك له.
- ابتسم باستمرار وابدِ ملامح الاطمئنان لما يقوله.
- عبّر لابنك عن تفهّمك للموقف، واعد باختصار وبتعبير أدقّ ما يودّ إيصاله لك، فكلّما تحدّث الابن ووجد قبولاً واهتماماً كلّما ضعفت المقاومة السلبية لديه، وقلّ عناده.
4- الآن: وهي تعني إلغاء الأفكار والمواقف السلبية والأحاسيس المتشنّجة غضباً وتوتّراً، واستبدالها بالتفكير الإيجابي؛ فالتركيز على الأخطاء لا يحقّق الحلّ، ولا يفتح آفاقاً وبدائل؛ لذا فإنّ إستراتيجية الآن تجعلنا نتذكّر أنّ غالبية المشاكل التي نخشاها ليست نهاية المطاف، وليست مشاكل بلا حلول، وهذا الاعتقاد وحده يجعلنا في حالة استرخاء وهدوء. فمن لا يعرف هذه الخطوة فإنّه لا يعرف المتعة التي يحرم نفسه منها مع أبنائه، ويضيع جوّاً عائلياً من أروع ما يمكن تصوّره.
5- التربية بالحبّ: وهي من أهمّ إستراتيجيات التربية الإيجابية التي ينبغي الالتفات إليها. ومن الضروري أن يعيد الأهل النظر في كثير من أشكال تربيتهم لأبنائهم، ويعتمدوا التربية بالحبّ مع أولادهم من خلال الكلمات الحنونة، والنظرة الرؤوفة، واللمسة التي تشعرهم بالأمان والاطمئنان.
إنّ الإنسان لديه جملة من الحاجات العضوية، كالطعام والشراب والنوم. كما لديه جملة من الحاجات النفسية، منها الحاجة إلى الحبّ والعطف، وكلا النوعين ينبغي إشباعهما حتى يشعر بالتوازن.
ولكن هناك إشكالية تطرح عن الفرق بين حاجاتنا العضوية والنفسية:
إنّ الفرق يكمن في نقطة مهمّة، وهي أنّ عدم إشباع حاجاتنا العضوية يؤدِّي إلى الموت، بينما عدم إشباع حاجاتنا النفسية يترك أثراً خطيراً على الشخصية، وهو يظهر في سلوك الفرد ومقدار سعادته، كما قد يظهر أثناء تعامله مع الآخرين.
أساليب منافية للتربية بالحبّ:
هناك أساليب سلبيّة تبعد المربّي عن التركيز على المشكلة وإيجاد الحلول لها، وتجعل التوجّه لشخص الطفل وليس لسلوكه، ومنها:
1- أسلوب الصراخ: وهو أسلوب يلغي لغة التواصل والتفاهم بين طرفي المعادلة، فالابن هنا يدخل في حلبة الدفاع عن النفس والخوف من الصوت المرتفع، ويركّز اهتمامه على الطُّرق التي تحميه من ردود أفعال غير منتظرة.
2- التأنيب واللَّوم: كثرة التأنيب واللَّوم يقسّيان القلوب ويفكّكان العلاقات والروابط، ويقتلان المشاعر الإيجابية بين الطرفين.
3- الأوامر الكيدية: إنّ كثرة إعطاء الأوامر دون عملية إقناع ترافقها، تحوّل الابن إلى آلة لتنفيذ الأوامر، وتلغي شخصيته وتضعّفها، وتجعل منه شخصاً انقيادياً مستسلماً لا كيان له.
4- التهديدات: كثرة التهديد الذي يمارسه الأهل بكلّ أنواعه (المباشر وغير المباشر) لا يساعد ولا يسهم في حلّ المشكلة وإبعاد الطفل عن السلوك العنيف، فإنّه يوقف سلوكه مؤقّتاً بسبب الخوف، ولكن سرعان ما يعود.
5- السخرية: سلوك مرفوض ينزع الثقة من الطفل، ويقنعه بعدم قدرته على التخلّي عن سلوكياته المزعجة، إضافة الى كون السخرية تحطّم المعنويات.
6- الشتم: إنّ شتم الطفل ووصفه بنعوت سلبية، تثبت هذه الأوصاف في عقل الطفل وتقنعه بها، إضافة الى أنّ الشتم يعلّم الطفل سوء الخلق.
7- المقارنة: وهي من أسوأ الأساليب التي يتّبعها المربّي؛ لأنّها توصل الطفل إلى كره الآخر المقارن به، ممّا تجعله يشعر بفشله وينزع الثقة من نفسه ومن قدراته؛ لذا ينبغي أن تتمّ المقارنة بين سلوكين أو موقفين عند الطفل نفسه وليس بينه وبين غيره.
8- سوء الظن بالطفل: ومنه تفسير السلوك بشكل سلبي دائماً من قبل الأهل، فهو يؤكّد له عدم ثقتك به وبأخلاقه، ويؤدِّي إلى إغلاق أبواب التواصل بينكما.
9- الاتّهام: حين تقوم أيّها الأبّ بوضع ابنك في قفص الاتّهام، فأنت تقوم بدور القاضي أو المحقّق. واعلم أنّ هناك فرقاً شاسعاً بين أن تسأل ابنك لماذا تأخّرت؛ من باب الاطمئنان عليه، وبين أن تسأله ذلك من باب سوء الظن به واتّهامه. فالأوّل يفتح جسور التواصل بينكما والآخر يجعله ينغلق، وقد يدفعه إلى الكذب والتهرّب.
وأخيراً، إنّ تركيزنا على الحلول بدل المشكلة - التوتّر والانفعال - لا يفيد الصغار فحسب، بل يعدّ أسلوباً ناجعاً مع الكبار أيضاً سواء أكانوا مراهقين أم شباباً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق