النساءُ في تلكَ القريةِ المستقلةِ وعاصمتُها شجرةُ السِّدرةِ الكبيرةِ، والَّتي تختلفُ عنْ باقي القُرى بكثرةِ نسائِها، وقوةِ أسنانِها، وطولِ ألسنتِها، لا تحبُ أنْ تأكلَ إلا اللحمَ الطازجَ.. ومنَ المسلخِ مباشرةً.. وهذا منْ خصوصياتهنَّ على حدّ تعبيرهنَّ. وكانَ الأطباءُ في القريةِ منْ أكثرِ الناصحينَ لهنَّ باتباعِ سُبلِ التغذيةِ المناسبةِ الصحيحةِ.. ومنْ أكثرهمْ حرصًا على مواصلةِ العطاءِ وتقديمِ النصائحِ والإرشادات والوصفاتِ الطبيةِ وطرقِ العلاجِ البديلةِ، وإعطاءِ المحاضراتِ وعقدِ الندواتِ، الدكتورُ عمرُ الزجّاجُ.. تقدمتْ منهُ إحداهنَّ ذاتَ يوم، وتدعى "لطفية"، عقبَ الانتهاءِ من سماعِ محاضرةٍ عنوانُها "خصوصيّاتٌ بشريّةٌ"، وقالتْ لهُ بازدراءٍ فاقعٍ: "يا عُميْرُ! عنْ أيِّ خصوصياتٍ تتحدثُ يا رجلُ؟! أتريدُ أنْ تُصلحَ ما أفسدَهُ الدهرُ؟ نحن نعيش اليوم في زمن العولمة.. لو أُتيحتْ لي الفرصةُ لأكلتُ لحومَ الميتةَ مع عظامِها بالمقلوبة والمنسفِ ولصنعتُ منها ألذَّ وأطيبَ الأكلاتِ الشهية".. ومنذئذٍ صارتْ من أكثرِ أعدائهِ سخطًا عليه. لكنّهُ لم يستسلمْ بلِ انبرى يقدِّمُ لهنَّ النصيحةَ تلو الأخرى، فاستلمَ المنبرَ في المسجدِ، ثم انتقلَ إلى الصُّحفِ المحليةِ، وخَصَّصتْ لهُ بعضُ المواقعِ الالكترونيةِ، ومواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ، عبر الشبكةِ العنكبوتيةِ، صفحاتٍ خاصةً، ناصحًا فيها باتباعِ حميةٍ مناسبةٍ، والتخفيفِ من تناولِ اللحومِ، والإكثارِ من أكلِ النباتاتِ والفاكهةِ، مثلما يأكل الغربُ تمامًا.. وظل ينادي بصوته المجلجل: "ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه؟". وكانَ قد حذرهنَّ منَ السمنةِ الزائدةِ ومن تناولِ الحلوياتِ بعدَ تناولِ الوجباتِ الدسمةِ ومنْ مغبةِ حدوثِ أزماتٍ قلبيةٍ ومن انتشارِ مرضِ السكري الفاسِدِ الَّذي يؤدي في أحايينَ كثيرةٍ إلى بترِ الأطرافِ السفلى، وظلَّ يحاربُ هذهِ الظاهرةِ العجيبةِ حتّى كَلَّ لسانُهُ.. ولكنَّ الأمرَ لم يرقْ لهنَّ وقد وصفنهُ بالرجلِ المعتوهِ الذي ألزمَ زوجتهُ على لبسِ الحجابِ ووضعِ النقابِ بل وحرمَها من حريةِ إظهارِ زينتها أو إبداءِ رأيها في الأمرِ، ولهذا فقد قيّدَ حريتَها وصارَ في نظرهنَّ من ألدّ أعداءِ المرأةِ التي تحررتْ من براثنِ العبوديّةِ.. وكنَّ كلّما انتشرتْ أخبارُ الناسِ التي تتعلق بالطلاق وعمّ الغمّ في بعض البيوت وترقرقت منه العيون أو قل اغرورقت، فإنهن يسارعن بشماتة إلى الكسب الحلال، ويستمتعن في تناول اللحوم الدسمة مع إضافة بعض الأملاح وكثير من البهارات المستوردة حديثًا من بلاد المشرق..
ذات مساءٍ فوجئتْ لطفيةُ بمكالمةٍ هاتفيةٍ غير معهودة أتتها من السيّد "رفعت" أحد أصدقاء زوجها الأوفياء يبشرُها بأن زوجها قد تزوَّج عليها منذ مدةٍ دونَ أنْ تعلمَ بذلك.. زمجرتْ.. وتوعدتْ.. وهدّدتْ.. وقالتْ وهي تبكي وتندبُ حظَّها: "يا ويلي كمْ نصحوني أنْ أخففَ من أكلِ اللحومِ.. لقد صَدَقَ الدكتور عمر، كان هو على حقّ وكنا نحن على باطلٍ ليتني لم أتناولْ قطعةَ لحمٍ واحدةً.. ولكن ما شأن "رفعتْ" بهذهِ المسألةِ؟ إنها من خُصوصياتنا"..
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق