• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبد الزاهد حقّاً

عمار كاظم

العبد الزاهد حقّاً

يدعونا الله تعالى إلى تربية النفس على عدم التعلّق بشيء من هذه الدُّنيا، وعدم الاستغراق فيها إلى درجة الخروج عن الطبيعة، بحيث يعيش الإنسان العجب والكبر في نفسه. حیث تشیر الآيات الكريمة إلى التزهيد في الدُّنيا الفانية وما فيها من زخارف، منها قوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) (النِّساء/ 77) وقوله تعالى: (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ) (الحديد/ 20). يقول أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) في كلامٍ له: «أيّها الناس، الزُّهادة قِصَر الأمل، والشُّكر عند النِّعَم، والتورع عن محارم الله، فإن عَزَب ذلك عنكم، فلا يغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النِّعَم شُكركم، فقد أعذر الله إليكم بحجج مسفرة ظاهرة، وكُتب بارزة العذر واضحة». ويقول أيضاً (عليه السلام): «وإنّما الدُّنيا منتهى بصر الأعمى».

الإسلام حثّ على هذا الزُّهد في متاع الحياة الدُّنيا ورَغّب فيه لأنّه تربية للإنسان على طريق السمو والتكامل، ومدح الصفوة المؤمنة من الأنصار التي جسَّدت أروع صور الإيثار في المدينة، فقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9). الجانب الذي يذمّه الدِّين هو العمى، عدم امتداد النظر إلى ما وراء حجب الطبيعة، انحصار الفكر بالمادّة. يقول القرآن الكريم: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (النجم/ 29-30). إنّ حبّ الدُّنيا وحبّ النِّساء والأولاد والأموال والجاه مسألة فطرية أودعها الله في ذات الإنسان من أجل استمرار الحياة، ولو سلبت منه لنسفت حياته في الدُّنيا وحياته في الآخرة. إنّ حركة الحياة والتكامل تتوقف على تلك الميول الفطرية، ولكنّ الانقطاع إليها والاكتفاء بها سيوقف الإنسان في حدود حيوانيّته وسيمنعه من السير في طريق التكامل.

إذن فمن هو التارك للدُّنيا الزاهد فيها؟

إنّه الإنسان الذي سخّر الدُّنيا من أجل الوصول إلى هدفه السامي في الآخرة. وإنّ الانقطاع إلى الدُّنيا لا يؤدِّي إلى توقف حياة الإنسان بل إلى تدميرها، فهل يعني هذا أنّ الحرص يتمكن من إدارة الدُّنيا؟ أو أنّ الطمع قادر على تسيير الحياة؟ أو أنّ الغضب والشهوة يمكنها من منح العالم قدراً من النظام؟ وهل أنّ عبادة البطن أو المرأة أو المال أو الجاه أو كلّ ما يعبر عن الاكتفاء بالدُّنيا والاستغراق فيها قادر على منح السعادة للإنسان؟ إنّ الإنسان لا يمكنه أن يدير الدُّنيا أو يصنع مدينته الفاضلة، ويحيى حرّاً إلّا إذا سخّر الدُّنيا لإرادته ولم يصبح أسيراً لها تتقاذفه أمواجها المتلاطمة.

إنّ جميع الرذائل كالكذب والرياء والتملق والظلم إنّما تنشأ من عبادة الدُّنيا، وفي مقابل ذلك فإنّ جميع الفضائل إنّما تنتج عن الزهد في الدُّنيا وعدم الاكتفاء بها. إنّ الإنسان لا يمكنه أن يصبح شجاعاً إذا كان غارقاً في حبّ الدُّنيا وعبادتها كما لا يمكنه أن يكون عفيفاً أو أن يعيش حياته حرّاً كريماً. إنّ الزاهد هو مَن تتوفّر فيه هذه الخصال لا الإنسان المنزوي الذي يعيش على هامش الحياة ضعيفاً سلبياً متطفلاً خاضعاً لعبيد الدُّنيا. الزاهد هو مَن يسمو على أولئك العبيد بفكرة لا يخشى فراق الحياة وتقلّباتها، شجاع جريء حرّ عفيف كريم وتملأ نفسه روح التضحية والفداء. إنّ أوّل خصلة في أولئك الذين يضحّون بأنفُسهم هي الزهد في الدُّنيا بكلّ ما للزهد من معاني، فهذا الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو خلاصة جميع الفضائل الإنسانية من عدالة وتقوى وشجاعة وحرّية وسخاء وكرم ومروءة، لقد حاز جميع هذه الصفات لأنّه رأى نفسه أسمى وأشرف من الدُّنيا وما فيها، قال في وصيته لولده الحسن: «وأكرم نفس عن كلّ دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً، وما خير لا ينال إلّا بشرّ» وقال (عليه السلام): «الدُّنيا دار ممر لا دار مقر، والناس رجلان، رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها».

ارسال التعليق

Top