كانت في حارتنا بركة.. وُلدنا ووعينا واعتدنا على اسمها وعلى صوتها المتلجلج صيفًا "بركة العامود".. وهي كثيرة الشبه ببركة الدويري.. ولم نكن نعلم من أين جاءتها هذه التسمية. وكل ما نعلمه أن الكثير من أولاد القرية غرقوا في مياهها وانتُشلوا منها جثثًا هامدة. الأمهات طالما ظلّت تكثر من تحذير أطفالها منها كي لا يغرقوا كما غرق "شاكر" قبل سنة والذي صار حكاية يرويها جميع أبناء البلدة.. "رحمه الله". أذكر أمّه المسكينة تجلس بجانبها صائحة تلطم وتمرّغ وجهها بالتراب. لذلك كنا نخافها في طفولتنا شتاءً، حين يرتفع منسوب مياه الأمطار إلى أعلى فوهتها القريبة من الشارع ثم تفيض على جانبيها. ونخافها صيفًا حين تتبخر منها المياه الراكدة وتتقلص فلا يبقى فيها إلا الطحالب ونقيق الضفادع التي تُسمع من مسافات بعيدة. نتقافز على حوافّها كظبية الجبل، حين صرنا صبيةً، ونقذف فيها الحجارة الصغيرة مستمتعين من ارتداد الارتطام في حلقاتٍ موجيةٍ، فتتسع مساحتها شيئًا فشيئًا سرعان ما تتلاشى. في أواخر الصيف حين يوشك على الرحيل عن الدنيا، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، تتبخر المياه، فنسارع إلى سلمها الحجري وننزل في أعماقها نستمتع من ارتداد الأصوات، فنشرع في الصراخ مبتدعين حوارًا صحافيًا أو حوارًا قصصيًا يعجز عنه أطفال الأحياء الأخرى، ونظل نصرخ بأعلى أصواتنا حتى تكلّ حناجرنا.
ظلّت تجمعنا أيام الصيف، ونسهر بجانبها مع أولاد الحارة يحدّثنا الكبار فينا قصصًا خياليةً، ونطرح عليهم الأحاجي، فينبري الصغار ويندرنا بعضهم بنكتة هنا أو طرفة هناك. وصارت تجمعنا في جميع أيام السنة بعد أن شمّرنا عن سواعدنا وبنينا بجانبها سقيفة من الخشب والصفيح.
ذات مساء يوم دامس طلع علينا شابٌّ يكبرنا بخمس سنوات من حارة بعيدة، جلس بيننا وراح يحدّثنا بحكايات الجنّ والشياطين التي تحب السكن في البرك المهجورة. كان الشمعة التي تضيء فضاء السقيفة هي المتنفس الوحيد لنا في عالم الرعب الذي أدخلنا فيه ضيفنا دون أن ندري.. أسلوب خيالي أشبه بعصا سحرية عجيبة. ما كنا نحلم يومًا أن نجد حكواتيًا بارعًا مثل هذا الحكواتي. وما كنت أنا نفسي أتصور كيف استطاع تجسيد الخيال إلى الواقع.. حقًا.. كانت الجِنَّةُ تخرج من البركة زرافات ووحدانا تمرّ مطأطئة رؤوسها من جانبنا تلبس قبعات بيضاء وتتفرق في أزقة القرية. وكلّما خرج فوج التصق الواح منا بالآخر حتى صرنا متسمرين لا نستطيع أن نتزحزح من أماكننا. ليتنا هربنا مع "أيوب" الذي هرب من أوّلها وادّعى أن أمه الآن تبحث عنه. قلوبنا الرقيقة يكاد يمزّقها الخوف من هذه الجِنَّة. وماذا ستفعل بنا إن أمسكتنا واحدًا واحدًا ونحن في طريقنا إلى بيوتنا؟ كنّا نغرق في بحر الخوف أحيانًا، ونجلس على حافة الواقع أحيانًا أخرى.
ما كاد الشّاب ينهي حديثة حتى صاح صيحة وانطلق هاربًا كأنه يريد أن ينجو بنفسه ويفزعنا: "هيا اهربوا قبل أن يقضي عليكم الجن والشياطين".
بعضنا أفلت فردة حذائه، والبعض الآخر صاح يبكي بكاء الفزع وفررنا هاربين باتجاه بيوتنا. أمسكت بيد "عزمي" الصغير ابن جارنا الذي فزع أكثر من غيره، وأخذت أطمئنه وظللت أنظر خلفي حتى لا تلحقنا الجنّة.
هذه حكاية من حكايات جارتنا بركة العامود. لم يتبق منها إلا الذكرى. كم فرحنا حين أقدم المجلس المحلي على دفنها بكميات هائلة من التراب ثم أقام عليها متنزهًا صغيرًا صار أشبه بخرائب المدن بعد أن تضع الحرب أوزارها. رحم الله بركتنا وللحكايات بقية..
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق