• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثقافتنا بين الثقافات

أحمد الفلاحي

ثقافتنا بين الثقافات

◄"الطريق إلى الوعي هو المعرفة. والمعرفة هي القوة والحق معاً وفي نفس الوقت"

 محمد حسنين هيكل

نتحدث كثيراً عن الثقافة وعن الغزو الثقافي وخطورته وضرورة مواجهته ونتحدث عن مصادر ثقافتنا التي ينبغي أن نلوذ بها وأن نعلي من شأنها وأن نبرز عناصرها في وجه الثقافات الوافدة التي تنهمر نحونا من كل حدب وصوب من خلال شتى الوسائل..

ترى ما هو هذا الغزو الثقافي الذي يواجه ثقافتنا وهل يمكن أن تكون الثقافة غزواً؟ الثقافة دائماً نعرفها فكراً وحضارة ومدنية فكيف تكون غزواً والغزو ضد التمدن والتحضر. الغزو هدم والثقافة بناء فكيف يلتقيان بل كيف تصبح الثقافة ذاتها غزواً؟ لعل هذا المصطلح من المصطلحات الخاطئة التي تشيع كثيراً في الألسن ويجري تداولها كما لو كانت حقيقة الحقائق وكثيرة هي تلك المصطلحات التي أصبحنا نرددها  كلّ حين دون انتباه وتفطن لعدم صحتها أو دقة عبارتها إذاً فمصطلح الغزو الثقافي عبارة غير دقيقة في التعبير عن المعنى الذي استهدفته وطالما الأمر كذلك فهل ثقافتنا آمنة من الأخطار ولا خشية عليها من شيء يؤذيها أو يؤثر عليها أو يخلخل قيمها؟ أظن أنّ الجواب بالسلب هنا أقرب إلى الدقة من الجواب بالإيجاب ذلك أن ثقافتنا تتعرض بالفعل لمؤثرات كثيرة متعددة متباينة الأصول والاتجاهات ومن غير شك يجب النظر بعيون يقظة تجاه تلك المؤثرات الزاحفة من قارات الدنيا ما هو العمل الذي علينا القيام به لوقاية ثقافتنا مما قد يحيط بها من أخطار؟ وما هي الكيفية التي يجب الأخذ بها؟ وما هي قدراتنا وإمكانياتنا لذلك الفعل الذي ينبغي اتخاذه إن كان من الضروري أن يتخذ؟ التساؤلات كثيرة والجواب القاطع ليس سهلاً ولا ممكناً بل إنّ هناك من لا يرى أي خطر على الإطلاق ولعل التساؤلات لا نهاية لها لو شئنا استقصاءها ومعرفة نهايتها بيد أنّ الامر ليس شراً  كله وإن كان ليس خيراً  كله كذلك. وثقافتنا نحن ذاتها هل هي خير كلها مبرَّأة من كل العيوب سليمة من النقائص؟ لا أظن أحداً يقول بهذا إن فيها ما نزعم أنّه نقي تمام النقاء لا شبهة في ذلك وفيها السيئ وفيها الخليط المازج بين الجيد وضده وأحسب أنّ الثقافات الأخرى كذلك بنسب متقاربة أو متفاوتة والثقافات إنّ هي إلا موروثات الأقوام الدينية والعقائدية والفكرية والعملية والاجتماعية ومكتسباتهم التي تضيفها تجارب الحياة على العصور وخبرات الأجيال التي تتراكم وتتزايد جيلاً بعد جيل. الدين والتاريخ والآداب والعادات والتقاليد والأعراف والاعتقادات والفولكلور وصور الحياة المختلفة القديمة والمتجددة كلّ هذه الأمور وغيرها هي التي تشكل الثقافة لأُمّة من الأمم ومع كل عصر وجيل تضاف إضافات جديدة وربما توارى شيء من القديم ليحل محله شيء من الجديد بفعل تطورات الحياة وحركتها والثقافات تحمل خصائص البيئة التي تنشأ فيها وتعكس حال الناس الذين انبعثت عنهم ولهذا  كان لكل أمة من الأمم ثقافتها بل ثقافاتها لأن لكل إقليم أو مدينة أو قرية وأحياناً حتى لكل حي خصوصية ما وإن كانت يسيرة تمثل شيئاً من الثقافة الخاصة التي تصب فيما بعد في النهر الكبير. هكذا هي الثقافة العربية تتراءى للناظر ثقافة واحدة وهي كذلك في عناصرها ومكنوناتها من حيث الدين واللغة وكثير من الموروث المشترك مع خصوصيات قطرية وإقليمية لا يمكن إغفالها هنا بادية وهنا بحر وهناك ريف وهناك جبل وهذه مدينة وتلك قرية هناك مؤثرات خارجية آسيوية وإفريقية وهنا مؤثرات خارجية أخرى أوروبية أو غيرها وهنا أو هناك بحكم الجوار أو التواصل مع أمم أخرى حصلت تأثيرات متبادلة تركت أثرها في هذا الطرف أو ذاك. وهكذا هي الثقافة ليست جداراً مصمتاً ولكنها تفاعل الناس مع بعضهم في محيطهم الصغير أو فيما هو أبعد وأوسع مع الخصوصية الذاتية لكل أمة من الأمم فالهند لها ثقافتها وفارس لها ثقافتها الصين واليابان والملايو وأمريكا الجنوبية والأُمم الأوروبية من ألمانيا إلى فرنسا إلى إنجلترا  كلّ بثقافته وإن تقاربت في بعض الأشياء تظل مستقلة بعناصرها ومساراتها العامة والتأثير والتأثر مستمران منذ أقدم العصور هذه تأخذ من تلك وتلك ترد لها العطاء في دورة أخرى من دورات التاريخ والتأثير كان يأتي من الغالب أحياناً ومن المغلوب في أحيان أخرى وفق الحالة التي كان عليها  كل منهما ويأتي من الاحتكاك والاتصال أو من المجاورة أو من خلال العقيدة الواحدة ومع ذلك ظلت الثقافات مستقلة كلّ واحدة بذاتها حتى وإن تداخلت التأثيرات بينها ولعل اللغات هي الوعاء المهم الذي حفظ للأمم جوهر ثقافاتها وأحاطها بسياج قوي منع عنها التخلخل والذوبان وأكد عنصر توحّدها وائتلافها وروح انسجامها ولكن هذا كان في عصور خلت حيث لم تكن للناس والحياة هذه المتغيرات المذهلة التي أحدثها العلم في عصرنا هذا فكانت أشبه بالمعجزات فاليوم وبفضل هذه المخترعات والوسائل أصبح الأطفال يعرفون عن أبعد مكان في العالم ما لم نكن نحن نعرفه عن أقرب قرية من قريتنا الأقمار الصناعية والكمبيوتر غدت قوة رهيبة عاتية بحد ذاتها لمن يستطيع تسخير استخدامها والإفادة منها وتوجيهها لصالحه وبما أنّنا لسنا من صناع الكمبيوتر ولا من أهل برمجته وبيننا وبين الأقمار الصناعية مسافة واسعة ليست أقل من المسافة بين الفضاء الذي تدور فيه هذه الأقمار وبين الأرض التي نجلس عليها؛ فإننا بالتأكيد سنكون الأكثر خسراناً في عملية التبادل الثقافي إن كان ثمة تبادل ولا أعتقد، فالذي يعطي هو الذي لديه ما يعطيه والوسيلة التي ينتقل بها عطاؤه ولسنا فيما أعتقد ممن يستطيع العطاء بل وللأسف ليس باستطاعتنا حتى أن نرفض ما يعطى لنا  كالعطشان يشرب الماء وإن امتلأ بالطين والتراب كيف لنا بالرفض ونحن الذين نحيا عالة على ما يصنعه الآخرون وكدت أقول على ما يقررونه أيضاً؟ إنّ الذي يصنع المصانع والذي يصنع ما تنتجه المصانع من الدقيق إلى الجليل هو غيرنا ونحن قصارى جهدنا أن نستطيع استخدام تلك المنتجات والمخترعات ولعلنا لا نستطيع استخدام بعضها الأكثر تطوراً إلا بعد التعلم والتدريب في مواطن صنع هذه المنتجات والذي يصنع الصناعات ويبعث بها إلى سوقنا لنستخدمها ولا خيار لنا في ذلك هو نفسه الذي يصنع الأفكار والفلسفات ويصوغ قوالبها فهل ترانا على ضعفنا نستطيع التصدي لتلك الأفكار وإغلاق أبوابنا دونها وإلى أي مدى نستطيع ذلك والتيارات تهب علينا من كل جنب؟ إن إغلاق الأبواب غير ممكن ومستحيل في عصر محطات الفضاء وأجهزة الإلكترون والمنافسة اليوم في المقام الأوّل ليست بالضرورة منافسة عسكرية ولكنها منافسة في امتلاك ناصية التقدم وأسرار المعرفة.. والثقافة وهي أساس المعرفة وقوامها تبدو صلابتها بقدر ما تستطيع من إظهار مكانتها بين ثقافات الأُمم في عصر الكمبيوتر والمعلومات معيار قوتها يظهر في مقدار التوازن بين ما تأخذ وما تعطي مع غيرها من الثقافات. إنّ ثقافتنا أصيلة وعريقة من غير شك وفيها من الجوانب الروحية والفكرية ما يمكن أن يغني البشرية ويضيف إلى رصيدها المهم ولكنها ثقافة بعيدة عن التأثير أضعفها المرض الشديد الذي حل بالأُمّة فغدت كأنها شبح لا روح فيه ضعيفة لا تستطيع أن تقدم شيئاً بل لا تستطيع حتى الرفض لما لا يناسبها جسد عليل تتناهشه الميكروبات ولا يقدر على دفعها.

إنّ الثقافة من العناصر المهمة لأي أمة من الأمم ولهذا توليها الأُمم جلّ عنايتها واهتمامها وترصد لها الموازنات الضخمة وتيسِّر لها كل السبل إدراكاً للدور الذي تنهض به في حياة المجتمعات والرقي الذي تحدثه في أوساط الناس فهي أمر لابدّ منه لتطوير المجتمع وازدهاره.►

 

المصدر: كتاب حول الثقافة

ارسال التعليق

Top