قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13). الصراعات والنزاعات الدائمة، لا تنشأ من وجود الاختلاف والتنوّع، وإنّما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها. والحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان، من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية من دونها. كما وإنّ التزام الأدب وحُسن الخلق عموماً، والتواضع على وجه الخصوص له دور كبير في إقناع الطرف الآخر، وقبوله للحقّ وإذعانه للصواب، فكلّ مَن يرى من محاوره توقيراً وتواضعاً، ويلمس خلقاً كريماً، ويسمع كلاماً طيِّباً، فإنّه لا يملك إلّا أن يحترم محاوره، ويفتح قلبه لاستماع رأيه.
وعليه فإنّ الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الديني أو الثقافي أو السياسي، وإنّما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً ومعاً في النظر إلى الأُمور. والدِّين الإسلامي أوْلى العناية والاهتمام بقيمة الحوار والدعوة والمجادلة بالتي هي أحسن، وذلك لأنّه لا دين بالفرض والقهر والإكراه (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256). وقال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصّلت/ 34).
يفتح الحوار بين الأديان والتعبيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، آفاق التعاون، ويُبلور أُطر التضامن، ويُدخل الجميع في قافلة الدفاع عن المقدّسات ومواجهة التحدّيات. وبالحوار يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، فلا يثير في داخل البشر شعوراً سلبياً لا داعي لإثارته، ولا يُواجههم بأفكار سريعة تحتاج في وصولها إلى أفكارهم لمقدّمات طويلة، تُهيّئ الجو النفسي، وتمهّد الأرضية الفكرية لذلك. ولا يحطم مشاعرهم بالقسوة في الكلمة والحركة والأسلوب. بل يعمل على أن يلامسها باللطف واللين والحكمة، لتكون المدخل الطبيعي للثقة والعاطفة المتبادلة التي تمنح الفكر حالة الهدوء، والشعور حالة الطمأنينة، وهما المدخل الطبيعي لتكوين القناعات والوصول إلى روحية الإيمان.
ولعلنا لا نبالغ عند القول: إنّ التكليف الربّاني الأوّل للإنسان على وجه هذه المعمورة وهو خلافة الإنسان، كان الباري عزّوجلّ يحاور ملائكته ويوضح لهم دواعي اختياره. ويختم الباري عزّوجلّ حوارهم عند حدود المعرفة التي يملكونها بقوله (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30)، وأضحى الحوار بعد ذلك هو أسلوب الأنبياء والأوصياء والصالحين عبر التاريخ.
إنّ عظمة أي ثقافة هي في انفتاحها، وقدرتها على تأصيل مفهوم الحوار والنقد في مسيرتها، فثمة أشياء ومعارف عديدة يتم الاستفادة منها من جراء الانفتاح والتواصل والحوار. والثقافة التي تصطنع الانفصال والانغلاق تبتر التاريخ وتقف موقفاً مضاداً من الوعي التاريخي. وإنّ الثقافة الحوارية، هي المهاد الضروري إلى التقدّم الاجتماعي والسياسي والحضاري. فالحوار يعيدنا جميعاً إلى اكتشاف ذواتنا، ويقوّي خيارات التواصل والتعارف، ويدفعنا جميعاً إلى التخلي عن تلك الخيارات العُنفية، التي تمارس النبذ والإقصاء.
إذن الحوار أساس التواصل والانفتاح على الآخر، إنّها كلمة جميلة رقيقة.. تدل على التفاهم والتفاوض والتجانس. نعم، فما أجمل الحوار إذا ما انطلق من أساس الرغبة في التفاهم.. الرغبة إلى الوصول إلى الحقيقة، وأدب الحوار يعني أدب تجاذب الحديث بشكل عام. إذن الحوار لغة سلسلة ومفيدة بين البشر لا يمكن التخلي عنها لتحقيق هدف أسمى.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق