الإنسان في ديننا الإسلامي هو الكائن الذي اختصه الله بالوعي دون باقي المخلوقات، بما أودع فيه من قوى المعرفة والإدراك باعتباره كائن الأمانة المتمثّلة في إعمار الكون مِصداقاً لقوله عزّوجلّ في كتابه العزيز: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود/ 61).. بهذا التكليف الأرضي اكتسب الإنسان شرفاً وكرامةً، فأصبح مفضَّلاً على بقية المخلوقات الأُخرى، والتفضيل بهذا المعنى يُراد به تشريف الإنسان فوق غيره؛ لأنّ الله فضَّله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه ودفع الضرر عنه وبأنواع المعارف والعلوم.
إنّ الإسلام دين يُعنى بكرامة الإنسان؛ فجعله نفسياً غير مبذول ولا ذليل، وهو تكريم يستحقه الإنسان في ذاته بحكم إنسانيّته القائمة على ثنائية المادّة والروح. ومن عظمة الإسلام أنّه وضع مقاييس جديدة لم يألفها الناس قبل ظهوره، فمن ذلك أنّه جعل كلّ إنسان مكرّماً بوصفه من بني آدم فبصفته الإنسانية تلك لا يجوز بحال من الأحوال أن تتسلط عليه قوّة فتسلبه كرامته، أو تحرمه منها كلاً أو جزءاً، هذا فضلاً عن أنّ الإسلام قد ربط المسلمين برباط الأخوّة التي تزول معها جميع الفوارق من نسب عريق، ومال وفير، وجاه عريض.
غاية الإسلام من وراء حرصه على كرامة الإنسان، وبالتالي على حقوقه هي بناء المجتمع الآمن الذي يشعر فيه الفرد بالطمأنينة على ماله، وعلى عرضه، وعلى نفسه، وإقامة حياة ترتكز على الفضيلة، يسودها التعاون بدل التناكر، والإخاء مكان العداوة والبغضاء، والسماحة والاعتدال بدل التطرّف، والسلام بدلاً عن الصراعات والحروب.. إنّ الإسلام هو دين الكرامة الإنسانية بحقّ لقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء/ 70). تكريم الإنسان وإعطاؤه المكانة التي تليق به وتفضيله على كثير من المخلوقات ظاهرة متميّزة في الآيات القرآنية، وقد اكتسب الإنسان هذه المكانة لكونه تحمّل المسؤولية، وخصّه الله بصورة مميّزة في خلقته، وفي قدراته العقلية والنفسية، التي مكنته من استيعاب حقيقة الرسالات السماوية، ومن أداء واجبه الديني والعملي والإصلاحي بوعي تامّ.
وكان الخطاب في الآيات البيّنات للناس جميعاً بدون تمييز بين جنسهم ولونهم ولغتهم ووضعهم الاجتماعي، فكلّهم مطالبون بالالتزام بما جاء فيها، يعبدون الله وحده ويقرّون بما أنعم عليهم من نِعَم ظاهرة وخفية، وبما رزقهم من الطيبات. وهذه الإشارات لها دلالة قوية في كون الإنسان مخلوقاً مكرَّماً ومفضَّلاً، فقد صوَّره الله في أحسن صورة وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه فسيح جنّاته قبل أن ينزل إلى هذه الأرض، وجعل له عقلاً، وسخَّر له كلّ ما في الأرض من طيبات وأرسل له الرُّسل، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الأعراف/ 10). والسجود لآدم هنا ليس عبادة له، وإنّما هو تكريم وتبجيل لمخلوق له خصائص فكرية وبيولوجية ونفسية لا تُوجد في مخلوقات أُخرى، وحينما امتنع إبليس عن السجود فلأنّه لم يدرك الخصائص التي ركّبها الله في الإنسان معتبراً نفسه أفضل ممّن خلق من طين. ويظهر تكريم الإنسان في أسمى تجلياته وكماله في أنّ الله جلّ جلاله جعل المخلوقات مسخَّرة لخدمته ولتوفير حاجياته وتخفيف المشاق عنه، فالنجوم والأقمار والشمس والسُّحب والأرض والجبال والبحار والأنهار والنباتات والحيوانات الأليفة وغير الأليفة وُجِدت لتوفّر للإنسان التوازن المطلوب لاستمرار حياته على هذه الأرض بشكل طبيعي، قال الله تعالى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 32-34).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق