لعب المثقفون طوال التاريخ دوراً هاماً ومميزاً في قيادة مجتمعاتهم من الوجهة الثقافية، وعملوا على تجديد بنائها وقيمها الثقافية مع التطورات التي جرت في أنحاء المعمورة. فقد ساهم الكثيرون منهم في التأثير على العديد من المجاميع الشعبية وأحياناً الأطراف الرسمية، ووجهوها إلى وجهات لم تدرك أهميتها من قبل.
وتعد الأيديولوجيا والمذاهب الفلسفية الشمولية الأرضية التي كانت يستند عليها المثقفون في إنتاج أفكارهم وتطويرها. فطبيعة المجتمعات التي أنتجتها حضارة العصر الحديث كانت تقوم على أفكار ساهم الفلاسفة والمفكرون في صياغتها، وكانت المادة الأساسية التي استند عليها المثقفون في إبداعاتهم الثقافية بحيث كان المثقفون، والمبدعون أيضاً، إن جاز التعبير، الجسر الذي من خلاله استطاعوا إيصال الأفكار الأيديولوجية المجردة إلى الإنسان العادي، عبر الفنون واللغة المبسطة وإعطاء قضاياه الصبغة الثقافية أو الأيديولوجية. فقد كان المثقفون يمثلون السلطة الثقافية الفعلية في المجتمع وكان تأثيرهم واضحاً عليهم، سواء من جهة تعرضهم للقمع أو الاضطهاد أو من جهة تعرضهم للإغراءات التي لا حدود لها في سبيل استمالتهم من قبل الحكّام أو قوى النفوذ في المجتمع.
لقد تراجع الدور القيادي مع تراجع الأيديولوجيا والفكر بشكل عام، ولم يعد المثقف يستند على أسس فكرية، وإن استند البعض عليها الآن فأكثرهم أصبح يعيش في عالم الأفكار المجردة وتكاد صلته أن تنقطع مع الوقت ومع العامة، خصوصاً بعد التقدم التكنولوجي والعلمي الهائل الذي دخل في جوانب عدة في حياة الأفراد وهمش دور المثقف.
وفي ظل غياب الثقافة القائمة على الفكر والأيديولوجيا، برزت الثقافة الاستهلاكية كبديل لها، واستطاعت أن تنتشر بسرعة فائقة في معظم أنحاء المعمورة. والثقافة الاستهلاكية جاءت نتيجة للتحولات الاقتصادية التي قادها الاقتصاديون الذين رفعوا شعار "اقتصاد السوق" وأخضعوا جميع مظاهر المجتمع إلى الاستهلاك، وطال اقتصاد السوق الثقافة ومظاهرها الإبداعية وتحولت إلى سلعة تجارية تخضع لمعايير العرض والطلب والتسويق التجاري الذي يفضّل إنتاجه على مستوى تفكير العامة وثقافتهم الدارجة.
وأحدث ذلك إنقلاباً فعلياً في دور المثقف والمبدع على مستوى المجتمع، فقد كان دور المثقف قيادة مجاميع مختلفة منه؛ لكن أصبح الأمر معكوساً، إذ أصبح المثقف ينقاد وراء ما يريد العامة ويتشكل حسب أذواقهم وأفكارهم، أي بدلاً من أن يؤثر في الآخرين أصبح الآخرون يؤثرون فيه وفي اهتماماته، وهناك مثقفون انساقوا وراء هذه الموجة وأصبحوا رهينة لما تريده العامة. أمّا مَن لم ينخرط في هذا الدرب، فآثر الاعتزال أو فرض عليه الواقع العزلة، وساهم ذلك في انحسار دور المثقف القيادي وتأثيره الفعلي في المجتمع.
* التكنولوجيا وإنتاج الثقافة
أثرت التكنولوجيا في العقدين الأخيرين وبشكل عميق على المثقف ودوره في المجتمع من جوانب عدة وساهمت في تهميش تأثيره على العامة، فقد خلقت واقعاً ثقافياً جديداً اعتمد على التكنولوجيا كأساس، حيث ترك بصمات واضحة على الثقافة التقليدية التي كانت تحتضن المثقف وتهيئ له سبل الانتشار والتأثير.
فمع ظهور اللاقط الهوائي وشبكة الإنترنت والتطورات الحالية في أجهزة المحمول من نقل للمعلومات المختلفة، يمكن تحديد بعض النقاط التي تمثل تحولاً واضحاً في طبيعة الثقافة الدارجة في مجتمعات باتت تستخدم التكنولوجيا إلى حد كبير. فلو نظرنا للاقط الهوائي على سبيل المثال سنجد بأنه أثّر بشكل كبير على القراءة، الوسيلة التي كان يوصل فيها المثقف أفكاره للناس إمّا عبر الكتب أو الدوريات أو الصحافة. فتعدد القنوات وتفرع مضمونها أصبح يغني عن القراءة بما فيها الأخبار والأحداث السياسية التي تنقلها القنوات الفضائية أولاً بأول، وبمختلف اللغات.
أمّا بالنسبة للشبكة العنكبوتية، وكذلك الأجهزة المحمولة، فهي تحتوي بدون شك على مادة ضخمة من المعلومات المقروءة والمصورة؛ لكن طبيعة القراءة فيها تعتمد في الأغلب على موضوعات محدودة أشبه بالكتابة الصحفية، وكذلك الرسائل النصية القصيرة، ولا تعتمد على القراءة الممنهجة كما يطرحها المثقف والتي تتناول موضوعاً أو مشكلة ما من أبعاد مختلفة، وفي نفس الوقت فتح المجال للهواة للكتابة وأقام البعض منهم مواقع على الشبكة العنكبوتية ولا يملك العديد منهم مستوى ثقافياً معقولاً.
أمّا التحول الأساسي الذي خلقته التكنولوجيا في الثقافة، فهو تحويلها من ثقافة الفكرة الممنهجة إلى ثقافة الصورة. صحيح بأنّ الأفكار التي يعبر عنها لغوياً تنتهي بالنهاية إلى لغة تصويرية؛ لكن ميزتها تأتي من إبداع عقلي يمزج بين الفكر والواقع بطريقة منهجية، يغلب عليها الاتساق وشمولية الرؤية لا التقطع أو التشظي كما هو الحال في الصورة التكنولوجية.
قد عبدت التكنولوجيا الطريق للوسائل الإعلامية لكي تكون أحد اللاعبين إن لم تكن اللاعب الرئيس في تشكيل العديد من أوجه الثقافة في المجتمع. وأدى ذلك إلى دخول أطراف أخرى من غير المثقفين لتوجيه العامة أفعالهم وقيمهم وفق مصالحهم وتوجهاتهم، فهناك الأنظمة والقوى السياسية وأصحاب المصالح الاقتصادية يجبرون الوسائل الإعلامية لخدمة مصالحهم، ومن ثم الدفع في خلق ثقافة تتماشى مع تلك المصالح.
وهناك تأثير آخر جاءت به التكنولوجيا والتطورات العلمية تمثل في تراجع الجوانب النظرية سواء في المعرفة أو الثقافة وتغليب جوانب الممارسة العملية والمهارات عليها. فإذا كان المجال الغالب للمثقف هو الجانب الثقافي الفكري والنظري، فإنّ هذا الجانب بلا شك قد تقلص إلى حد كبير في واقع اليوم. فمن ينظر للمكتبات سيجد بأنّ الكتب التي تتحدث عن الممارسات والمهارات تأخذ حصة الأسد سواء في العرض أو الشراء، ومعظمها يسعى إلى أهداف شخصية لا عامة ويغلب على العديد منها الجانب المادي والوصول للثراء السريع بأقصى سرعة.
وأخذت التكنولوجيا منحى جديداً عبر تقليص دور الإنسان في عملية الإبداع والتطوير، فإذا كان العلم والتكنولوجيا يصنعان حاجيات الإنسان في السابق، فقد وصل الأمر اليوم إلى تصنيع الثقافة والنجومية في نفس الوقت، إذ أخذت تصادر دور الإنسان الفعلي في الإبداع والتجديد والتطوير والذي كان فيه للمبدع المثقف دور هام وريادي في السابق.
فلو ننظر إلى الفنون سنجد بأنّ المهارات الإبداعية الفردية عند المبدعين قد تراجعت بشكل كبير وأصبحت الآلة تحل محل الفرد المبدع، وتحول مثلاً، الطرب والمطريبن إلى صناعة بحيث تلعب الأجهزة دوراً أساسياً في صناعة الصوت والموسيقى ومن ثم النجومية، التي لا يملكها حقيقة الكثير ممن يصنع منهم إعلام اليوم نجوماً بالمقارنة مع الأجيال السابقة التي خلفت أزهى عصور الفن على وجه الخصوص والثقافة بشكل عام.
لقد تحولت الثقافة في عالم اليوم من المثقفين إلى التقنيين الذين أصبحوا يتحكمون في مفاصل كثيرة في الثقافة العامة للمجتمع، والتقني بعقليته العلمية والهندسية لا يقيم وزناً يذكر لأوجه الثقافة وقيمها، إمّا بسبب تخصصه العلمي، أو لجهله لما ينتج عن عمله من مؤثرات ثقافية تحدث تغييراً في ثقافة المجتمع وتوجهاتها. فما نعيشه حالياً هو عصر تحولات عميقة في واقع الإنسان تقوده التكنولوجيا بالدرجة الأولى، وعلى المثقف أن يدرس هذه التحولات جيداً ويرى كيف يمكن أن يعود لدوره الذي كان يقوم به سابقاً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
محمد رموز
الجسم الثقافي يعرف تدهورا وضعفا في إنتاج الأفكار والمشاريع الثقافية وهو ما يسمى بموت الثقافة والمثقف بسبب سيطرة التكنولوجيا على مجالات الحياة.