• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

باقة من الورد في ذكرى مولده الشريف (ص)

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

باقة من الورد في ذكرى مولده الشريف (ص)

تمر علينا ذكرى المولد النبوي الشريف الذي ننفتح فيه على رسول الله (ص) في سيرته كلّها ورسالته كلها وفي الإيحاءات التي تتجسّد في كل زمان ومكان في حياتنا المتحركة ابداً والتي تستلهم رسول الله (ص) في سنّته وفي سيرته. لهذا يجب أن نعيش مع رسول الله (ص) دائماً ولا ننتظر مناسبة مولده أو وفاته حتى نتذكره بل أن نعيشه دائماً، لأننا كمسلمين نلتزم رسالة الله في كتابه وسنّة نبيه ونعيش مع رسول الله (ص) باعتبار أنّه كان يمثل الإسلام الحي المتحرك الذي إذا حدّقت في عينيه رأيت الإسلام في اشراقتهما، وإذا حدقت في وجهه رأيت كيف تفيض الروحانية الصافية في ملامح وجهه كلّها، وإذا انفتحت على حياته مع الناس رأيت الرسول الذي فتح قلبه لهم جميعاً، بعد أن فتح عقله لكل ما يعيشه الناس في حياتهم الخاصة والعامة.
 

- القرآن كتاب السيرة:

  أفضل كتاب تحدّث عن سيرة رسول الله (ص) في ملامحه الرسالية هو كتاب الله، فنحن قد لا نجد في كتاب الله حديثاً عن مولده كما نجد ذلك في كتب السيرة، وربما كان ذلك منطلقاً من أن مولد العظيم لا يمثل شيئاً كبيراً في تمثل الناس لشخصية العظيم، فكل عظيم يولد كما يولد الناس وإن كانت تحيط بولادته ظروف فيها شيء من الروحانية هنا والغيبية هناك، بل والإعجاز أيضاً.
فالعظيم يوجد في معنى العظمة من خلال حركة حياته التي يتمثل فيها كل عظيم في القول، وفي الموقف، وفي الفعل، لذلك لا نجد أي حديث في القرآن عن أيّة ولادة سوى عن ولادتين: فقد تحدث الله عن ولادة موسى (ع) لأنها كانت تحمل بعض مظاهر ألطاف الله سبحانه وتعالى وإعجاز في حمايته من فرعون الذي كان يذبّح أبناء قومه، وكان مهيئاً لأن يذبح موسى (ع) فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى أم موسى أن تقذفه في التابوت وتلقيه في اليم، والقى عليه محبة منه في قلب فرعون وهيأ له الظروف كلّها. لذلك لم يكن حديث الله سبحانه وتعالى عن مسألة ولادة موسى لأنّ للولادة دوراً في الاحتفال بالشخص.
ورأينا أنّ الله تحدّث عن ولادة عيسى (ع) لأنها ولادة إعجازية فيما أعطاه الله من سنّته في الخلق، لأنّه ولد من غير أب ليكون مظهراً للقدرة الإلهية التي يولد بها الإنسان من دون أب وأم كآدم وحواء، ويولد بها من أب وأم كبقية الناس، ويولد بها من أم من دون أب كعيسى (ع) ليكون آية للناس.
 

- أميّة النبي (ص):

  حدّثنا الله تعالى عن رسول الله (ص) قبل الرسالة في أنّه كان لا يقرأ ولا يكتب، ونحن عندما نقول (النبي الأمي) فلا نعتمد على كلمة الأمي ليكثر الجدل في ما يراد منها، هل هو المنتسب إلى أم القرى أو الأمي بمعنى العربي باعتبار أن أكثرية العرب كانوا من الأميين، فليست المسألة في كلمة الأمي ولكنها في كلام الله (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) (العنكبوت/ 48)، فالنبي لم يكن قارئاً ولم يكن كاتباً لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد له ذلك لا ليكون ذلك مظهر ضعف في شخصيته كما هو في شخصية كل إنسان لا يعرف القراءة والكتابة بل ليكون قوة في معنى رسالته (إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت/ 48)، أي لو كنت تتلو كتاباً لقالوا إنك جئت بالكتاب من خلال ما قرأت من كتب، ولو كنت تكتب لقيل إنك نقلت بقلمك ما كتبه الآخرون، ولكن أن تجيء بكتاب أعجز كل الذين يقرأون الكتب ويكتبونها، وأن تجيء بكتاب أعجز الناس كافة، ذلك يعني أنك لم تنطلق في بشريتك من جماعتك، وإنما انطلقت من علاقتك الغيبية بربك في معنى الرسالة. وإذاً لو كنت كذلك لارتاب المبطلون وأثاروا الكثير من الشك وقد أثار بعضهم بعد ذلك بعض الشك، ولكن الحقيقة التاريخية في حركة النبي (ص) أنها أبطلت ذلك (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا) (الفرقان/ 5)، كذلك (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل/ 103)، لذلك لم تنطلق تلك الكلمات اللامسؤولة لتخلق تياراً مضاداً يتبنّى هذه المقولات بل كانت ضائعة في الهواء.
وهكذا نجد أنّ الله حدّثنا عن تلك الفترة بقوله سبحانه وتعالى: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) (الشورى/ 52)، فالله يتحدث عنه قبل الرسالة بأنّه لم يكن يملك معرفة الكتاب، ولم يكن يملك معرفة الإيمان لا بمعنى أنّه لم يكن مؤمناً لكنه لم يكن يملك معرفة التفاصيل الإيمانية.
كان يعيش (ص) معنى الرسالة في شخصيته ولكنه كان لا يعرف تفاصيلها في حركته في الواقع، ولم يتحدث الله سبحانه وتعالى عن رسوله في الفترة السابقة لرسالته، ولهذا فقد نستوحي من هذا الأسلوب القرآني أن علينا أن لا ندقق كثيراً في التفاصيل التي سبقت رسالته إلا ما يعطي المعنى الرسالي لشخصيته بحيث أنّ الله بعثه رسولاً بعد أن استكمل له شخصيته العقلية والروحية والأخلاقية كما كان الإمام علي (ع) يتحدث عنه في أنّ الله وكَّل به ملكاً عظيماً من ملائكته يتعهده بالرعاية في كل يوم.
 

- الاحتفال بحركة الرسالة:

  في مولد الرسول (ص) نحتفل من خلال حركة الرسالة في شخصيته، لا نحتفل به من خلال خصوصية المولد، لأنّه القرآن الناطق بعد أن كان كتاب الله يمثل القرآن الصامت، فلقد كانت كلمته رسالة، وكانت حركته رسالة، وكان تقريره للواقع الذي من حوله رسالة، لذلك كان النبي كلّه رسالة ولم يكن في شخصيته أي شيء خارج نطاق الرسالة، ولذلك نحن لا نفهم أن يكون النبي (ص) معصوماً في التبليغ فقط وحسب وليس معصوماً في حركته في الحياة، لأنّ الله قد أكمل له شخصيته واصطفاه بكله والشخصية لا تتجزأ بحيث يكون الإنسان مستقيماً في جانب ومنحرفاً في جانب.
وهناك نقطة أخرى لابدّ لنا أن نتمثلها – أيها الأحبة – عندما نتحدث عن العصمة في شخصية الرسول والرسل وهي أن دور الرسول وكل رسول هو أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومعنى ذلك أن يحوّل حياة الناس إلى نور كلها: إلى نور في العقل بحيث يتحرك العقل في خط النور لينتج الفكر السليم، وان يعيش هذا النور في القلب فينفتح القلب على اشراقه للخير والمحبة في داخله، ويكون نوراً في البيت وفي الشارع وفي السوق وفي النادي وفي المجالات كلها ليعيش الناس في نور الرسالة. ومن هنا فإنّ الذي يحمل رسالة النور إلى الناس من أجل أن يزيل الظلمات كلها كيف يعيش الظلمة في عقله فيعطي للناس فكراً خاطئاً، وكيف يعيش الظلمة في قلبه فيعطي للناس عاطفة خاطئة، وكيف يمكن أن يعيش الظلمة في حياته فيعطي للناس حياة خاطئة مرتكبة. لذلك لابدّ أن يكون النبي نوراً كله وشمساً إنسانية ليس فيها شيء من الظلام كما هي الشمس الكونية التي ليس فيها أثر من الظلام.
وهكذا تنطلق مسألة هذه العصمة في شخصية النبي (ص) إلى العصمة في شخصية أوصيائه، فقد قال وهو الذي (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم/ 3-4). "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث مادار" وعندما يعطي النبي (ص) هذه الصورة للإنسان الذي ربّى له عقله من خلال عقله، وربّى له قلبه من خلال قلبه، وربّى له حياته من خلال حياته فكان نفسه في كل شيء، عندما يتحدث عنه أنه كان مع الحق وان الحق معه فمعنى ذلك أنّه ليس في علي شيء من الباطل بشهادة رسول الله (ص) وليس في علي شيء من الباطل في عقله فكل عقله حق وليس في علي شيء من الباطل في قلبه فقلبه كلّه في نبضات العاطفة كلها حق، وليس في علي شيء من الباطل في حياته، فحياته كلها حق وخير وانفتاح على الله.
وعندما يتمثل الحق في علي (ع) فكل ما يرفضه علي (ع) لا يمكن أن يكون حقاً وقد علمنا أن كل معاناة علي (ع) في حياته هي معاناة رسول الله (ص) في حياته، وكانت معاناته أنه حمل الرسالة كلّها في شخصه، وكاتب علاقاته في الناس من خلال رسالته، وهكذا كان يقول للناس "ليس أمري وأمركم واحداً إنّي أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم" وقال: "ماترك لي الحق من صديق" وسار أبناء علي (ع) بسيرة علي وكان دوره دورهم أو كان دورهم دوره، ولذلك فأنت لا تستطيع أن تجد في كل هذه السلسلة المباركة إلا الحق وإلا الخير وإلا الانفتاح على الله.
ونحن – أيها الأحبة – عندما نريد أن نقترب من رسول الله (ص) لنتمثله، فلابدّ لنا أن نتمثله في سلوكنا العملي بأن يكون فينا شيء من رسول الله في حياتنا العملية وذلك معنى أن نلتزمه، ومعنى أن نتّبعه ومعنى أن نحبه، وهذا ما يستدعينا أن نقرأ كتاب الله لنعرف سيرة رسول الله (ص) في أخلاقه وفي أسلوبه في الدعوة وفي أسلوبه في الحرب وفي أسلوبه في السلم، وفي أسلوبه مع عائلته، وفي أسلوبه مع أصحابه، لأنّ الله قال لنا (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ) (الأحزاب/ 21)، ولم يحدّد جانباً معيّناً بل في كل رسول الله.. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (الأحزاب/ 21)، لأننا عندما نرجو الله واليوم الآخر فعلينا أن نتلمّس صراط الله في رسول الله (وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21)، لأننا إذا ذكرنا الله ذكرنا رسوله لأنّه رسوله يؤدّي عنه في كل ما قاله وكل ما فعله.
 

- أخلاقية الرسول (ص) في الدعوة:

   تعالوا لنتحرك مع آيات القرآن التي تمثل لنا أسلوب رسول الله (ص) في الأخلاقية التي تتصل بأسلوب الدعوة وفي الأخلاقية التي تتصل بشخصية الإنسان في الداعية، لأن أسلوب الدعوة ليس مجرد شيء في الكلمة ولكنه عنصر في الشخصية، وهكذا ليس دور الداعية والمبلّغ والرسول والعالم والإمام أن يعطي للناس كلاماً يحدّثهم عن الفكرة ولكن أن يعطي الناس من إنسانيته ما يشعرون معه بأنّه يحتضن آلامهم كلها وآمالهم كلها وقضاياهم كلّها، وان لا يكون الداعية شخصاً جامداً أمام الآخرين ليعطيهم علمه وكلمته بطريقة جامدة، بل أن يعطيهم قلبه كلّه قبل أن يعطيهم لسانه كلّه، ولذلك فإنّ الداعية والمبلّغ والعالم والواعظ الذي لا يعيش الناس في داخل قلبه لا يمكن أن يدخل إلى قلوبهم وإلى عقولهم. وهذا ما حدّثنا الله به عن رسول وعن قلبه وإحساسه ومشاعره.
تعالوا نستمع إلى كلام الله عندما يقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) (آل عمران/ 159)، كنت الليّن في لسانك فلا يستمع الناس إلى قسوة في كلامك، وكنت الليّن في قلبك فلا يتحسس الناس إلا نبضات المحبة في قلبك فهم لا يتحسسون قلباً متحجّراً قاسياً امداً يطلّ على الناس من فوق ولكنهم يتحسسون قلباً ليّناً يعيش مع الناس في نبضاته كلّها (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159).
وهذا درس لكل العاملين في الحقل العام، ولكل العاملين في خط الرسالة وفي خط القضايا العامة سواءً كانت قضايا اجتماعية أو قضايا سياسية أو ما إلى ذلك. إنها درس في أن يفهم العامل حقيقة الإنسانية وأنّ الإنسان مهما كان انتماؤه وعقيدته يبقى إنساناً، فحتى الكافر هناك بعض الإنسانية في شخصيته، والإنسان البعيد يعيش شيئاً من الإنسانية كما هو القريب، لذلك فكل إنسان لديه إنسانية بنسبة ما، وعندما تدعو الناس وتخاطبهم كن إنساناً في قلبك ليتعرف الناس إلى إنسانيتك من خلال ما يتمثل في قلبك من ملامح وجهك وفي تعاملك مع الناس، كن إنساناً في لسانك ليكن لسانك اللين الرقيق اللطيف، لأنّك إذا قسوت على الناس بلسانك فإنّ الناس يخرجون من قسوتك، والإنسان بطبعه لا يحب القسوة في الكلمة حتى أقرب الناس إليه، فلا تعش القسوة والغلظة في قلبك لأنك عندما لا تعيش في قلبك حبّ الناس فإنّ قلوب الناس لن تنفتح عليك. وقد استوحى على (ع) هذه الفكرة من القرآن بطريقة أخرى عندما قال: "إحصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"، أي اقلع الحقد والعداوة من صدرك تقتلع الحقد والعداوة من الآخرين، لأن صدرك وقلبك الذي ينفتح على محبة الآخرين وعلى الخير لهم سوف يكون رسالة أولى أو ثانية يرسلها إلى القلب الآخر، والقلب يتقبل رسالات الحب كلّها وإن بعد حين.
وهذا يعطينا فكرة أنّ النبي (ص) نجح في الدعوة بالرغم من كل الحواجز النفسية والاجتماعية والتاريخية التي نصبها الناس أمامه، لأنّه كان لين القلب ليّن اللسان، فهل لنا أن نتعلم ذلك من رسول الله، بأن تكون لنا شخصية الخير في قلوبنا وألسنتنا، في البيت والمدرسة والنادي والمجتمع وساحة الصراع وغيرها؟!

 

- إنسانية النبي (ص):

  لننطلق مع إنسانيته التي يحتضن فيها آلام الأُمّة (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (التوبة/ 128)، لم يأت من المريخ بل جاء من عمق الإنسانية، فهو بشر كما البشر يعيش آلام البشر كما يعيش أخلاقهم، وهو بشر يسدّده الله بوحيه، ولكنه يعيش التجربة الإنسانية كأي إنسان فإذا مرض فإنّه يحسّ بآلام المرضى، وإذ حزن فإنّه يحس بآلام الحزانى، وإذا تعب فإنّه يتحسس آلام المتعبين (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) (التوبة/ 128)، وهذه الكلمة تحمل الكثير من معاني الحنان والفيض الروحي والاحتضان الإنساني مالا يملك الإنسان أن يعبّر عنه، وإني لأعترف بالعجز عن التعبير عن كل الإيحاءات التي توحيها إليّ هذه الكلمة، لأنّ هناك من إيحاءات الكلمات ما لا تحمله الكلمات، وربما كانت إيحاءات الكلمة أكبر بكثير من معاناها في القاموس.
ولذلك كنت أقول دائماً علينا أن نفهم الكلمة في إيحاءاتها كما نفهمها في معناها (عزيزٌ) أي يعزّ عليه.. ويشقّ عليه.. ويتعب قلبه.. ويتعب روحه أن يراكم تعيشون المشقة في حياتكم، وأن يرى عاملاً يتعب في عمله وهو يكدح ليجلب القوت إلى عياله، وأن يرى مريضاً يتعب من خلال آلام مرضه، وأن يرى الناس متعبين في مشاكلهم وفي تعقيدات حياتهم وأوضاعهم، ويبقى يحدّق في المجتمع وكل المشقات التي يعيشها فيعزّ عليه ذلك ويتألم ويتعب له.
(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) (التوبة/ 128)، أن لا تضيعوا، وأن لا تضلوا، وأنّ لا تتفرقوا، وأن لا تعيشوا التمزّق الروحي والنفسي فيما بينكم.
ونستحرض من خلال هذا الجو حرص الأُم على أولادها وحرص الأب على أولاده، فلقد كان رسول الله (ص) يعيش الأبوّة الروحية لكل الناس، ويعيش الأمومة الحانية في معنى حنان الأمومة للناس كلهم.
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128)، يرأف بهم ويشفق عليهم ويرحمهم بأن يرحم نقاط ضعفهم وظروفهم بل يرحم حتى انحرافهم فيدرس ظروفهم ليصحيح ويقوّم وينفتح بها على الخير. وهذا ما تمثّل فيما دثتنا السيرة به من أنّه كان يقول: "اللّهمّ أغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون"، كان يطلب من ربه أن لا يعاقبهم وأن لا يعاجلهم بالعقوبة، وكان يطلب من ربه أن لا ينقم عليهم حتى بعد أن كانوا يرمونه بالحجارة بحيث تدمي رجليه، ويرمونه بالشتائم والاتهامات التي تدمي قلبه، وكان لا يعيش الحقد على قومه وإن كانوا ضالّين، لأنّه كان يتطلّع إلى المستقبل عندما تأتي الظروف وتهيء لكل هؤلاء أن يدخلوا الإسلام كما حدث بعد فتح مكة (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) (النصر/ 1-2).
وهكذا يعطينا رسول الله (ص) في معناه الإنساني فكرة من خلال شخصه وهي أنّ الذي يحكم الرسالة لابدّ أن يكون إنساناً لا في جسده ولكن في قلبه وعقله وأسلوبه مع الناس.. فكم عندنا من نموذج هذا الإنسان؟! كم عندنا من الناس الذين يستشهدون في كل يوم في خط رسالته وإن كانوا أحياء وعندما يسمعون الكلمة غير المسؤولة والاتهام غير المسؤول وتبقى قلوبهم – رغم ذلك – تنبض بالحب وبالخير لتقول "اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون".
أيها الأحبة: يبقى رسول الله (ص) الذي نستمع إلى اسمه في كل أذان وإقامة وفي كل صلاة.. يعطينا الكثير الكثير من إيحاءاته في رسالته. ويبقى لنا منه أنّه الإمام والنبي والرسول الذي نهتدي بسيرته كما نهتدي بسنّته مثلما تهتدي بكتاب الله، وأن نكون مع رسول الله وأن نحبّه ونحبّ الله بأن نتّبعه وأن يكون فينا شيء منه (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) (آل عمران/ 31)، في كلماتي كلها وأفعالي كلّها (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31)، لأنّ الوسيلة إلى رضا الله هي ذلك.
 
- ماذا علينا في ذكرى مولده (ص):

 أيها الأحبة: في مولده الشريف علينا أن لا نقدّم له اضمامة من الورد فقط، وأن لا نكتفي بتزيين شوراعنا وبيوتنا فقط، لكن علينا أن نقدم له اضمامة من عمق الإيمان في عقولنا وقلوبنا وورد الحق في حياتنا واصالة الإسلام في وجودنا.. وأن نزيّن عقولنا بأخلاقه وقلوبنا بحنانه وعاطفته.. ويبقى رسول الله (ص) معنا في الصباح وفي المساء حتى يكون فينا شيء من رسول الله.. شيء من عقله ومن قلبه ومن سيرته لنقف غداً معه فلعله يتقبّلنا في معنى الرسالة ومعنى الشفاعة "واجعل توسلّي به شافعاً يوم القيامة نافعاً".



 المصدر: كتاب الندوة(5)/ حوارات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة

ارسال التعليق

Top