• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوقت في حسابات المسلم/ ج1

د. كامل صكر القيسي

الوقت في حسابات المسلم/ ج1

◄الوقت مسؤولية كبرى وأمانة عند المسلم هو مسؤول عنها يوم القيامة، فعن رسول الله (ص) أنّه قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه".

لذا فأولى للمسلم أن يكون أشدّ الناس حرصاً على وقته، وأكثرهم اجتهاداً في صرف وقته في ما يرجى نفعه من عمل الدنيا والآخرة.

الوقت نعمة امتن بها الله تعالى على عباده ليحسنوا استخدامها في تحقيق الخلافة وعبادة الله تعالى في الأرض. وهو الأمر الذي أكدته السنّة النبويّة المطهرة في أكثر من موضع. وقد احتل مساحةً كبيرةً في كثير من المسائل الشرعية في الفقه الإسلامي، إذ ترتبط عبادات وتكاليف عديدة بمواعيد زمنية محدّدة، كما في الصلاة، الصيام، الزكاة، الحج، الأضحية، الطلاق، العدة، الرجعة، النفقة، الحيض والنفاس، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي فرض الله تعالى التقيد بالحساب الزمني كشرط لصحّة العبادة والعمل، وذلك حتى ينطبع سلوك المسلم بالقيمة الأساسية في ضبط الوقت في مختلف الأنشطة في حياته. فالمسلم تحكمه مسؤولية استثمار وقته في العمل الصالح، حيث إنّ شغله وفراغه عبادة يتقرَّب بها إلى الله عزّوجلّ، فيقتنص كلّ لحظة ليوُظِّفها في أحسن الأعمال، لما يعتقده من أنّ الحياة إبتلاء واختبار، كما أنّ الموت نهاية بعدها حساب وجزاء.

ويمكن إدراك أهمية الوقت بالنظر إلى معنى الوقت الذي هو عمر الحياة وميدان وجود الإنسان، فالوقت أنفس وأثمن ما يملك الإنسان، وذلك لأنّه وعاءٌ لكلّ عمل، وساحة لكلّ نشاط إنساني. لذا يُعتبر الوقت هو رأس المال الحقيقي للإنسان فرداً ومجتمعاً، فهو نِعَمة كبيرة امتن الله تعالى بها على الإنسان، بل يمكن اعتباره أصلاً من أصول تلك النِّعَم.

- من الهدي النبويّ في إدارة الوقت:

يختلف الوقت عن غيره من الموارد، سواء أكانت الموارد البشرية أم الطبيعية أم المادّية، إذ لا يمكن إدخاره أو تعويضه أو تأجيله، ومادام كذلك، فإنّه يتطلَّب استخدامه الاستخدام الأمثل لتحقيق وجود الإنسان العبادي على الأرض، وهو قابل للاستثمار والاستغلال بلا حدود أو قيود معتبرة.

وفي هذا المجال ندرك عظمة التوجيهات النبويّة في استغلال الزمن وبعث الأمل حتى في اللحظات العصيبة، ومن ثمّ الاستمرار في بناء الحياة بنشاط وجد. فقد قال رسول الله (ص): "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".

لذا فإنّ المتحصل في الحياة هو اغتنام للوقت قبل الممات، وانتهاز الفرصة قبل الفوات، قال عيسى (ع): "الدهر ثلاثة أيّام: أمس لك خلت عظته، واليوم الذي أنت فيه لك، وغد لا تدري ما يكون". وقال بعض أهل الحكمة: "الأيّام ثلاثة: فأمس حكيم مؤدب أبقى فيك موعظة وترك فيك عبرة، واليوم ضيف كان عنك طويل الغيبة وهو عنك سريع الظعن، وغد لا تدري مَن صاحبه". وقد روي أنّ الحسن البصري رأى النبيّ (ص) في منامه، فقال: يا رسول الله عظني. قال: "مَن استوى يوماه فهو مغبون، ومَن كان غده شرّاً من يومه فهو ملعون، ومَن لم يتعاهد النقصان من نفسه فهو في نقصان، ومَن كان في نقصان فالموت خير له".

- نظرة موضوعية:

إنّ الزمن عبرة وفعل واستعداد واستثمار ضرورة يقتضيها العقل، وتتطلَّبها المصلحة، ويفرضها واقع الحياة. وبالعودة إلى حركة القرآن الكريم في تذكير الإنسان بمحدودية عمر الحياة، فإنّه يضعه أمام حقيقة تثير الفزع في النفس وتحرّك في داخله شعوراً قلقاً على مصيره، إذا لم يستثمر عمره في بناء الحياة استثماراً جاداً. قال الله تعالى في (سورة يونس الآية 45): (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)، وقال عزّوجلّ في (الآية 52 من سورة الإسراء): (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا قَلِيلا).

إنّ الإحساس بمحدودية العمر يشكّل هاجساً في وعي الإنسان حتى يتعامل مع الزمن بموضوعية، فلا يمرّ عليه يوم من دون أن يستثمره في نشاط وإيجابية مفرطة. قال رسول الله (ص): "ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلّا يُنادى فيه: يا ابن آدم، أنا خلقٌ جديد، وأنا في ما تعمل عليك غداً شهيد، فاعمل فيَّ خيراً أشهد لك به غداً، فإنّي لو قد مضيت لم ترني أبداً. ويقول الليل مثل ذلك".

إنّ الذات لا تستطيع المحافظة على تماسكها مهما تكن عظيمة إلّا من خلال إمساكها ببُعد المستقبل، وهو الذي يمكّنها من التجاوز إلى ما هو أحسن وأفضل. والنظر إلى المستقبل يجعل من الحاضر والماضي أداة لبناء الأجيال، ولهذا قال رسول الله (ص): "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".

وفي هذا يتجسَّد إعجاز النبوّة باختصار كلّ ما تناوله الباحثون في موضوع الإدارة، واستثمار عناصر القوّة واغتنام رأس المال من الوقت والشباب والصحّة والحياة والفراغ والغنى، لأنّ المبادرة في هذه الموجبات الخمسة المؤثرة والفاعلة لا يؤمن زوالها. ولذلك يجب استثمارها والعمل فيها قبل فوات الأوان.

- وقت الفراغ:

ليس المراد أن يكون الإنسان آلة تتحرك لا تعرف سوى الجدّ والدأب والعمل، من غير أن يكتنف ذلك راحة، أو يتخلله مرح، فتلك هي حالة بائسة ووجه كالح للحياة. لكن المطلوب أن تكون أوقات الفراغ راحة، يتجدّد بها النشاط الإنساني، وتمتلئ بها النفس رضاً وحيوية، من غير أن يكون اللهو فيها طاغياً، والهزل هو الساري، فإنّ ذلك يؤدي إلى عرقلة الحياة وشلّ حركتها. فالراحة مطلوبة ووقت الاسترخاء لازم، شرط أن يكون وقت الفراغ والراحة خاضعاً لحُكم العقل، ووفق ضوابط مرعية في المباح، وبذلك يمكن للنفس أن تتغذى، وللروح أن تنتشي، وللجسم أن يتجدد في الاسترخاء ويقوى على تحمّل الصعاب.

فعن عبدالله بن عمرو، قال: قال لي رسول الله (ص): "يا عبدالله ألم أخبر أنّك تصوم النهار وتقوم الليل؟". فقلت: بلى يا رسول الله، قال: "فلا تفعل، صم وافطر وقم ونم، فإنّ لجسدك عليك حقّاً، وإنّ لعينك عليك حقّاً، وإنّ لزوجك عليك حقّاً، وإنّ لزورك عليك حقّاً، وإنّ بحسبك أن تقوم كلّ شهر ثلاثة أيام، فإنّ لك بكلّ حسنة عشر أمثالها، فإنّ ذلك صيام الدهر كلّه". قلت يا رسول الله: إنّي أجد قوّة؟ قال: "فصم صيام نبيّ الله داود (ع) ولا تزد عليه". قلت: وما كان صيام نبيّ الله داود (ع)؟ قال: "نصف الدهر". فكان عبدالله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبيّ (ص)، فهذا عبدالله شدّد القول ولم يُعذر في عدم إعطاء أهله حقّهم وإن كان يشتغل بالعبادة والطاعة والقربة، لأنّ العبادة مفهوم شامل فلا يضيع فيه واجب على حساب الآخر لأنّ تنظيم الوقت في إدارة الأعمال يُعدّ استثماراً معتدلاً ومقبولاً لا ينقطع.

والذي يعرف قيمة الوقت ويُحسن إدارته، يعلم أنّ ما يتخلله من فراغ يُعد قيمة إضافية. والمسلم يعي ذلك جيِّداً حيث إنّ شغله وفراغه عبادة يتقرَّب بها إلى الله عزّوجلّ، وبناءً على ذلك لا يتصوَّر وجود وقت مستقطع، يذهب سُدىً في حياة المسلم، لأنّ فراغه عبادة، ووجوده عبادة، ونشاطه عبادة، وجميع أوقاته سفينة تحمل قانون الاستخلاف، الذي جعله الله عزّوجلّ للإنسان في كلّ لحظة على الأرض يؤدّي دوره ليحتسب ذلك طاعة لله عزّوجلّ وهو يقوم بعمارتها، ولهذا نظَّم الإسلام حياة المسلم، فجعل منها وقتاً للراحة، ووقتاً للعمل، وله في كلّ ذلك طاعة وقربة إلى الله.►

* باحث وواعظ ديني

ارسال التعليق

Top