◄الوحدة في الإسلام ليست كلمة عادية يؤتى بها للبيان أو التعبير عن مسألة فقهية أو دينية، بل الوحدة في وجهة نظره تعني أصلاً من الأصول التي يعتمد عليها في تعامله مع الآخرين، بمعنى أنّها تمثّل أساساً ومعياراً عملياً للتعامل مع مواضع الاختلاف الفكرية والتطبيقية على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية مع مواضع الاختلاف الفكرية والتطبيقية على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية والاجتماع و... غير ذلك.
فإذا ما واجهنا أمراً من المجالات المذكورة، وكان موضع خلاف مع الآخرين، كانت الوحدة أصلاً وأساساً في التعامل مع الآخر. وبذلك فالأصل يثبت منهجية علمية للتعامل واتخاذ المواقف، وليس غوغاء وضجّة لا طائل منها.
والقرآن الكريم يقرّر ذلك في آيات عديدة:
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/ 103-105).
و(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46).
و(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام/ 159).
ولاشكّ أنّ الاختلاف حقيقة واقعة لا يمكن نفيها، ولا يصحّ إنكارها، ولذا وضع الإسلام أصلاً في طريقة التعامل مع الاختلاف، وهو أصل الوحدة، من أجل تثبيت منهجية علمية في طريق التعامل مع الأشياء والحوادث الواقعة، وعلى الامتداد أسس وقواعد تنظيم فقهية لتكريس التعايش الفقهي والاجتماعي والتربوي بين المسلمين، ولاشكّ أنّ التعايش الفقهي أحد الضرورات للحياة الاجتماعية المرفهة.
ومن هذه القواعد على سبيل المثال لا الحصر:
1- قاعدة الإلزام والالتزام
2- قاعدة الحصانة والحرمة حيث تمنح الإنسان المسلم (على إطلاقه) حصانة وحرمة عظيمة، بل أعظم حرمة من حرمة الكعبة، كما في رواية ابن عمر: رأيت رسول الله (ص) يطوف بالكعبة ويقول:
"ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك".
وعلى الامتداد كان استقبال ولده الباقر (ع) الكعبة وقوله لها.
بل إنّ حرمة المسلم أعظم من كلّ الحرم، كما قال أمير المؤمنين (ع): "وفضّل حرمة المسلم على الحُرم كلها".
أخلاقيات الوحدة على ضوء السنّة:
لم يطرح الإسلام الوحدة في أدبياته وتعاليمه كشعار استهلاكي أو أمنية عابرة، بل طرحها كمشروع عمل وفقه حياة وأخلاق أيضاً، فللوحدة أخلاقية كما أنّ للفرقة أخلاقية ولكنّها معاكسة.
فمن أخلاقية الوحدة: المداراة، والمسامحة، واللاعصبية، بينما أخلاقية الفرقة والاختلاف: الحسد، اللجاج، المشاكسة، العناد... وهذه الأخلاق يرويها لنا دعاء الإمام زين العابدين:
"اللّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجانِ الحِرْصِ، وَسَوْرَةِ الغَضَبِ، وَغَلَبَةِ الحَسَدِ، وَضَعْفِ الصَّبْرِ، وَقِلَّةِ القَناعَةِ وَشَكاسَةِ الخُلُق؛ وَإلْحاحِ الشَّهْوَةِ؛ وَمَلَكَةِ الحَمِيَّةِ، وَمُتابَعَةِ الهَوى، وَمُخالَفَةِ الْهُدى، وَسِنَةِ الغَفْلَةِ وَتَعاطِي الكُلْفَةِ، وَإيثارِ الباطِلِ عَلَى الحَقِّ، وَالإصْرارِ عَلَى المأثمِ، وَاسْتِصْغارِ المَعْصِيَةِ، وَاسْتِكْبارِ الطّاعَةِ، وَمُباهاتِ المُكْثِرينَ، وَالإزْرآءِ بِالمُقلِّينَ، وَسُوءِ الوِلايَةِ لِمَنْ تَحْتَ أيْدينا، وَتَرْكِ الشُّكْرِ لِمَنِ اصْطَنَعَ العارِفَةَ عِنْدَنا، أوْ أنْ نَعْضُدَ ظالِماً، أو نَخْذُلَ مَلْهُوفاً، أوْ نَرُومَ ما ليْسَ لَنا بِحَقٍّ، أوْ نَقُوُلَ في العِلْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَنَعُوذُ بِكَ أنْ نَنْطَوِيَ عَلَى غِشِّ أحَدٍ، وَأنْ نُعْجِبَ بأعْمالِنا، وَنَمُدَّ في آمالِنا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سُوءِ السَّريرَةِ، وَاحْتِقارِ الصَغيرَةِ، وَأنْ يَسْتَحْوِذَ عَلَينا الشَّيْطانُ، أوْ يَنْكُبَنَا الزَّمانُ أوْ يَتَهَضَّمَنَا السُلْطانُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ تَناوُلِ الإسْرافِ وَمِنْ فِقْدانِ الكَفافِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَماتَةِ الأعْدآءِ، وَمِنَ الفَقْرِ إلى الأكْفآءِ، وَمِنْ مَعيشَةٍ في شِدَّةٍ، وَميتَةٍ عَلَى غَيْرِ عُدَّةٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ الحَسْرَةِ العُظْمى وَالمُصيبَةِ الكُبْرى، وَأشْقَى الشَقاءِ، وَسُوءِ المَآبِ وَحِرمانِ الثَّوابِ، وَحُلولِ العِقابِ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ، وَأعِذْني مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِرَحْمَتِكَ وَجَميعَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤمِناتِ يا أرْحَمَ الرّاحمينَ".
فالأخلاق الوحدوية تحضّر الأجواء للتعايش والتآلف والتفاهم بين المسلمين، وتثير فيهم نزعة الوحدة والانبعاث نحو الاتّحاد والتعاون، وعدم التهاون في شيء هو ضدّه وعكسه. وبذلك يمكن تحقيق الغاية الكبرى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92).►
المصدر: كتاب الوحدة والانسجام الإسلامي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق