• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

النهضة الحسينية عبر أهدافها التاريخية

أسرة

النهضة الحسينية عبر أهدافها التاريخية

النهضة الحسينية كانت نهضة حضارية شاملة، تتمحور حول خلاص الإنسان وتحقيق كرامته، وإعادة حقوقه المغتصبة، وتوفير حريته الممتهنة، فكانت المنظومة التشريعية الإسلامية التي شاء الله تعالى من خلالها قيام حياة حرة كريمة، تسود فيها العدالة الإلهية في الأرض «القسط»، وتتكافأ فيها الفرص، لبني الإنسان، وتستبعد فيها حالة استعباد الإنسان للإنسان، وليسود فيها الشرع، والقانون الإلهي فحسب، ويتحوّل الحكم فيها إلى عقد اجتماعي بين الأمة والحاكم، لكي يحقق مصالح الناس، وفق الشريعة الربانية الهادية...
وهكذا شاء الحسين بن علي سبط رسول الله (ص) أن يحقق ذلك من خلال حركته المباركة، إلاّ أنه (ع) أراد أن تتحقق أهداف هذه النهضة الكريمة من خلال الإنسان نفسه وقناعته، ورضاه، دون فرض، أو إكراه، كما تبين ذلك من خلال رسائله، وحواره مع الناس، وتجاوبه مع دعوة جماهير الكوفة له، وإرساله القائد سفيره مسلم بن عقيل (ع) لدراسة الموقف عن كثب...
وإذا شئنا أن نقرأ بوضوح، وشفافية، أهداف الحسين السبط (ع) لالتقينا مع الحقائق التالية:
1ـ إحياء الهوية الثقافية للأمة: تعرضت الهوية الثقافية للأمة إلى أضرار بالغة وأميتت السنّة وعادت أهواء الجاهلية وعاداتها، مما حدا ببعض الصحابة أن يصرح فيقول: «أخرج البخاري، والترمذي عن أنس أبن مالك أنه قال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله (ص)! قيل: الصلاة! قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها»، وتحدث أبو الدرداء الصحابي مثل ذلك فقال: «والله لا أعرف فيهم من أمر محمد (ص) شيئاً إلاّ أنهم يصلون جميعاً».
وهذه الحالة امتدت للسلوك الفردي، والعلاقات الاجتماعية، والنظرة للخالق والنبي (ص)، وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك... ولقد افتعلت أحكام ومفاهيم، وقيم لم يكن للرسالة الإسلامية فيها علاقة من قريب أو بعيد، فظن المتعبدون، والمخلصون من بسطاء الناس إنها دين، فدانوا لله تعالى بها بعد أن ألقاها الرواة، والوعاظ إلى الناس كمسلمات، وحقائق شرعية!! وهي ليست كذلك..
وهذه الوقائع كان يراها سبط رسول الله (ص): الحسين بن علي (ع) بعينه، فيعاني منها ما يعاني، ولكن الظروف العامة ليست مؤاتية لتحرك واسع يباشره الإمام السبط (ع)، فكان يباشر عمله الإصلاحي في حدود من حوله من الناس..  بعدها تحركت جماهير الأمة في الكوفة، والبصرة، وبدرجة أقل في مكة المكرّمة، رأى الإمام السبط (ع): ان فرصاً أرحب أتيحت له للحركة والتأثير كمسؤولية تاريخية لابدّ من النهوض بها من قبل رجل كالحسين (ع) يمتلك موقع الوريث الأول للنبوّة، والنبي (ص) في عصره...
وهكذا كان تجديد هوية المسلمين، وإحياء قيمها، ومفاهيمها في وعي الناس وعقولهم، أهم أهداف الإمام الحسين (ع) في هذه الحركة التي باشر قيادتها... وهلّم نستمع إليه، وهو يتحدث عن هذه القضية، ويرسخ أقدامها في حياة الناس: «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين».
ويصارح الناس بانهيار الهوية الثقافية للمسلمين، وإن هذه المأساة تتطلب التضحية، والفداء:
«أمّا بعد، فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وإنّ الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الأناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه،ليرغب المؤمن في لقاء الله! فإنِّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما».
2ـ الإصلاح السياسي لمسيرة الحكم: ومن الأمور المركزية التي عمل الإمام المصلح من أجلها: إصلاح المنهج السياسي عند الناس، وإعادة القيم الإسلامية الخاصة بالحاكم إلى دنيا المسلمين التي تؤكد إن الحاكم في الإسلام: أمين الأمة، ووكيل عنها في إجراء الدستور، وإقامة العدل بين الناس، وهو الذي يحفظ هوية الأمة التي رضيت به حكماً، فلا يخالف قيم الرسالة، ولا مصالح الجماهير، ولا يفتئت عليها، وليس للحاكم في الإسلام حقوق إضافية، في مال، أو جاه، أو مكانة على حساب الأمة، وفوق حقوقها المفترضة، مادية كانت أو معنوية..
«.. ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات لله..».
ولا يكتفي الإمام السبط (ع) بتحديد صفات الحاكم المسلم، ليميز الناس على ضوئها بين الحاكم الذي حددت الشريعة الإسلامية صفاته، ومزاياه والحاكم الذي تبتلي الأمة بسوء حاله، وسوء إدارته، وبعده عن قيم الإسلام الحنيف، ومصالح الجماهير، وإنما راح يضع النقاط على الحروف، ويراعي حقوق الإنسان: «أيُّها الناس! إن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله».
3- مقاومة الظلم ونهب الثروات، وسوء التوزيع: كان من أبرز معالم هذا الدين تأكيده على العدل، والانصاف، وإشاعة الحب، وحماية حقوق الناس:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ...) (النحل/ 90).
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..) (المائدة/ 8).
«الناس صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..».
ورغم صراحة هذه المبادئ التي أرسى الإسلام قواعدها، وأقام النبي (ص) صروحها في الحياة العملية وعاش الناس في ظلالها زمناً، إلاّ أن الحكام الأمويين أصروا على نبذها ودفنها، وإقامة المنكر، والظلم، والنظام الاقطاعي، ونهب الثروات، وإشاعة البغضاء بين الناس بدلاً لها ـ مما ذكرنا طرفاً منها ـ حتى صارت ثروة الأمة العامة، بستاناً لقريش!! وإن أموال الأمة، ونفوسها ملكاً للطاغية، يحيي من يشاء، أو يزهق نفس من يشاء، ويمنع العطاء عمن يشاء، ويعطي من يشاء «إنّما المال مالنا، والفيء فيؤنا، فمن شئنا أعطيناه، ومن شئنا حرمناه»، كما عبّر معاوية عن هذه السياسة بوضوح!!
أمّا العدالة، والمحبة والانصاف فقد أصبحت حسرة في نفوس طالبيها من المستضعفين، والمظلومين، وأوساط الأمة المختلفة، الأمر الذي يحرص الإمام السبط (ع) على بلورتها في ذهن الأمة، ووعي الناس، وأشعارهم بحجم المأساة الحضارية التي حلت بالأمة بسبب التفاف الحكام الظالمين على قيم الأمة وتزييفها في العدالة، والحرية وإنصاف الناس، وتوفير العزة لهم:
«نحن أهل بيت محمد (ص) أولى بولاية هذا الأمر، من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين بالجور، والعدوان..».
«ألا إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله..».
وبهذه الحركة الواعية هزّ الإمام السبط (ع) موات الأمة، وأثار الحياة من حول الناس، حتى يشعروا بقيمتهم، ومظلوميتهم؛ حتى راح يرفع شعارات صريحة، موقظة من قبيل:
«كونوا أحراراً في دنياكم».
«لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد..».
«هيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك». 

ارسال التعليق

Top