مَن يقرأ كتاب الله – عزّوجلّ – يجد أروع صور الجمال راسخة فيه نظماً ومعنىً، ومنثورةً في آياته لتلفتَ انتباه المسلم إلى الاهتمام بما أبدع الله – عزّوجلّ – في جمال ما نرى، ونتصور ونفكر.
فالجمال من خلال الحواس كبير، ولكنّه جزء يسير تجاه جمال التأمل والمعرفة التي تصل المخلوق المكرَّم بالخالق الأعظم، فالعقل الذي جاء لفظه في القرآن الكريم أكثر من أربعمئة مرة، هو النافذة الأوسع لرؤية الجمال المطلق جمال الحقّ وبهاء الجلال، فيما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر.
- الحضّ على تلمس الجمال:
يلفت القرآن الكريم النظر إلى الجمال في مجالات كثيرة بلغت حدّاً واسعاً بسبب تعدد الصور الجمالية الرائعة التي يعرضها على الأسماع والأبصار والعقول، ليتأمّل الإنسانُ في نفسه وفيما حوله من ملكوت الله – عزّوجلّ – من المخلوقات الدالة على بديع الصنع وروعة الخلق وحكمة التدبير، نذكر منها:
أوّلاً: الجمال اللغوي:
نزل القرآن الكريم حيث كان العرب قد وصلوا إلى أرقى تطور نضجهم اللغوي، فجاء القرآن آيةً في الجمال اللغوي، سواء في ألفاظه أو أسلوبه أو بيانه أو نظمه، وقد عجز العربُ عن معارضته، وهم أصحابُ ذلك الفن مع طول باعهم في الفصاحة والبلاغة، وقد قام التحدي ومازال قائماً بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء/ 88).
ثمّ تحدّاهم بأن يأتوا بعشر سور مثله، قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود/ 13).
كما تحدّاهم بأن يأتوا بسورة واحدة، قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس/ 38).
وقال سبحانه: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 23).
وبقي التحدي دليلاً على الجمال اللغوي لكتاب الله – عزّوجلّ–.
وجاء القرآن جميلاً في تلاوته، فإنّ تلاوته عذبةٌ عذوبةً لا يملها السمع مهما تكررت، ونلمس عذوبته في نظمه الصوتي البديع، بجرسه، وترتيب حروفه حين نسمع حركاتها وسكناتها، وغُنتها ومدّاتها، وفواصلها ومقاطعها، فإذا التلاوة تستدعي التلاوة، والسماعُ يتطلّب المزيدَ للذين لا يعرفون اللغة العربية.
ثانياً: جمال الحقائق:
جاء القرآن جميلاً في حقائقه التي يدعو إليها من العدل والإحسان وبرِّ الوالدين وإيتاء ذوي القربى والتعاون على البر والتقوى إلى آخر صفات الفلاح في الدنيا والآخرة، وأعظم تلك الحقائق الدعوة إلى التوحيد؛ قال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/ 1-4).
وقال سبحانه: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة/ 163).
وهذا هو جمال الحقيقة المطلقة التي يصل إليها الحس الجمالي في أرقى نضجه وتطلعاته.
ثالثاً: جمال السماوات:
يطالعنا القرآن الكريم بالجمال في مجال السماوات من خلال الزينة التي تبهج النفس؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) (الحجر/ 16).
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) (الملك/ 5).
فمشهد النجوم في السماء جميل جمالاً يأخذ بالقلوب، وهو جمالٌ متجدد، تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته، ويختلف من صباح إلى مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة المقمرة إلى الليلة المظلمة، ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب، بل إنّه ليختلف من ساعة لساعة ومن مرصد لمرصد ومن زاوية لزاوية، وكلّه جمال يأخذ الألباب.
ويوجه القرآن النفس إلى جمال السماء، لأنّ إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال الخالق؛ قال جلّ وعلا: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات/ 6).
ثمّ يلفت القرآن الكريم النظر إلى جمال الصنعة فيقول سبحانه: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (ق/ 6).
فإنّ هذه السماء صفحة من كتاب الكون تنطق بالحقّ؛ أفلم ينظروا إلى ما فيها من شموخ وثبات واستقرار، وإلى ما فيها من زينة وجمال وبراءة من الخلل والاضطراب، فإنّ الثبات والكمال والزينة صفة السماء الجميلة.
رابعاً: الجمال الكوني:
يعرض القرآن الكريم الإخراج الرباني للكون في صورة بديعة؛ قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام/ 99).
ويشير القرآن الكريم إلى السماء والأرض وما ينشأ عن علاقتهما من أسباب إيجاد اللمسة الجمالية التي تحقق البهجة للنفس البشرية وهي تنظر إلى يد القدرة الإلهية المبدعة تتصرف في الكون، قال تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل/ 60).
وفي جمال الأرض يقول سبحانه: (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (الحجر/ 19).
فالنبات وما فيه من الاخضرار المتدرج الحسن، وما يتفتق منه من الأزهار الملونة، ثمّ الثمار بأشكالها المشتبهة، كلّ ذلك يدخل البهجة والسرور إلى النفس ويهيئها للتلقي من فيض الله، يقول الله تعالى: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (ق/ 8)، ليلمس القلوب على مشهد السماء المرفوعة والأرض الراسية البهيجة، ليجعل منها وصلة بين القلب البشري وهذا الكون الهائل الجميل، هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون والتعرّف عليه أثراً في القلب البشري، وقيمة في الحياة، إنّها الوصلة التي يقيمها القرآن الكريم بين المعرفة والعلم، وبين الإنسان الذي عليه أن يعرف ويتعلم.
خامساً: جمال العلم والمعرفة:
يتخذ القرآن من الجمال مدخلاً إلى النفوس، ليثير انتباهها إلى العلم والمعرفة، فالناس جزءٌ من هذا الكون، لا تصحُّ حياتهم ولا تستقيم إلّا حين تنبض قلوبهم على نبض هذا الكون، وإلّا حين تقومُ الصلة وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون الكبير، فكلُّ معرفةٍ بنجم أو فلك من الأفلاك أو سعة المجرات أو أي خاصّة من خواص النبات والحيوان، وأي خاصّة من الكون كلّه على وجه الإجمال وما فيه من عوالم حية، كلّ حقيقة علمية يجب أن تستحيلَ فوراً إلى ارتفاع في القلب البشري، وأُلفة مؤنسة بهذا الكون، وإلى تعارف يوثق أواصر الصداقة بين الناس والأشياء والأحياء، وإلى شعور بالمحبة التي تنتهي إلى جمال هذا الكون وما في ومن فيه وصولاً إلى خالقه العظيم.
فالقرآن لا ينظر إلى الجمال الظاهري المجرد، وإنما يربط هذا الجمال بالإيقاعات العلمية المؤثرة في مشاعر الناس وحياتهم حتى يصل بهم إلى الحقائق الكبرى في هذا الكون دون أن تكون المعلومات جامدة جافة، بل يفضي إلى الأذهان بسرها الجميل.
سادساً: جمال التنسيق والترتيب:
يجعل القرآن الكريم من هذا الجمال مدخلاً إلى النفوس ليثير انتباهها إلى الخالق العظيم، يقول سبحانه: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) (ق/ 9-10).
ويقول أيضاً: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام/ 99).
وقد أحسّ الإنسانُ بجمال الترتيب والتنضيد والتناسق والتناظر منذ القدم، فإذا بحثنا عن النظرة الجمالية عند أرسطو نجده قد أرى أنّه "لا يمكن لكائن أو شيء مؤلف من أجزاء عدة أن يكون جميلاً إلّا بمقدار ما تكون أجزاؤه منسقة وفقاً لنظام ما ومتمتعة بحجم غير اعتباطي، لأنّ الجمال لا يستقيم إلّا بالنسق والمقدار"، وربنا عزّ مَن قائل: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2)، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق/ 3).
"وأفلاطون يحدِّدُ الجمال بالعدد والنظام، فجمال الكائنات في تنسيقها وقياسها"، والله الذي أودع ذلك الحس في الإنسان حرّك هذا الإحساس لدى العباد، وبيّن لهم دقة المقاييس؛ فقال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/ 49)، وقال جلّ وعلا: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس/ 5).
سابعاً: جمال التأمل:
يعرض القرآن الكريم الصور الجمالية وكأنها شريط مرئي حين يصور لحظة الشروق وما تحدثه من سعادة في استقبال يوم جديد؛ قال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير/ 15-18).
إنّها صورة الكواكب التي تجري في الكون وهي تظهر ليلاً متلألئة بأضوائها، فلا يكاد يقترب الصباحُ حتى تخنس وتكنس وتستتر في مغيبها، فتبدو روعةُ الصباح في تنفّسه كالأحياء، وهو يدلف رويداً رويداً، حتى تدب في الأرض الحياةُ والحركةُ.
أمّا الليل الذي ذهب وكان يمثل الظلام في الصورة الآنفة فإنّه يعود في صورة رائعة جميلة حين يبدأُ باستئذان النهار بحمرة الخجل التي تشوب الأفق، فالنظرة إلى الشفق الذي يأذن بدخول الليل لها أثرها في إدخال البهجة إلى النفوس؛ قال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) (الإنشقاق/ 16-18).
ثامناً: جمال منافع المخلوقات:
يعرض القرآن صورة الجمال فيما هو نافع ومفيد، ويجعل منه مدخلاً لتحريك النفوس كي تتجاوب مع التوجيه الرباني، قال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) (الأنعام/ 6).
وتتكرر هذه المعاني مرات عددية لتملأَ وجدانَ الإنسان بآلاء الله ونعمه الجميلة.
كما يوجّه الأنظارَ إلى ما أبدعه الله من الجمال في مخلوقاته من الأنعام، قال تعالى: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل/ 5-6).
وقال سبحانه: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية/ 17).
ويعرض العنصر الجمالي مع تحقيق الفائدة والمنفعة، قال تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 8).
ففي الخيل والبغال والحمير تلبية لضرورة الركوب ولحاسة الجمال أيضاً، ويخلق فيما بعدُ ما يحقّق الغايتين، مما لم يعلمه الذي تلقّوا النعمة الجمالية هي مجرد تلبية الضرورات في وقتها، بل في تلبية الأشواق الزائدة لما سينتجه العقل البشري على مدى الدهر.
ويعرض القرآن الكريم على أنظار البشر جمال الطير وحركاته الاستعراضية في التحليق والانقضاض والارتفاع والدوران، قال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (الملك/ 19).
فإنّ متابعة نوع من الطيور ومتابعة حركاته الخاصّة لا يملّه النظر، وهو متعة ومثار تفكير في صنع الله البديع يجمع الجمال في ألوانه وأصواته، والكمال في إدراكه وقدراته.
تاسعاً: جمال الإنسان:
لقد خصَّ الله تعالى الإنسان بالكمال والجمال، فقال تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 1-4).
فمن الجمال الشكلي وما منحه الله من حسن الصورة: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (غافر/ 64).
وإلى الجمال التقويمي وما فيه من إبداع عضوي مذهل، وأمثلةُ هذا الإبداع تتجلّى في الوظائف العلمية بما يؤهله ليكونَ خليفةً في الأرض، ثمّ في منحه العقل والبصيرة لتحقيق هذه الخلافة: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78).
عاشراً: جمال الصور الغيبية:
يعمل القرآن الكريم على توسعة خيال الإنسان في إدراكه للحس الجمالي من خلال الصور الغيبية للجنان وما فيها من بهجة تملأ النفس بالشوق لما أعده الله لعباده المتقين: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف/ 31).
إنّ الدعوة لإطلاق الخيال في تأمل جمال الجنة وما أعدّه الله فيها من أسباب البهجة والسرور من الأدلة على اهتمام الإسلام بالجمال واعتباره حاجة أساسية لتحريك أشواق النفس البشرية من أعماقها للتمتع به في الدنيا والآخرة.
ويبرز هذا الجمال التأملي بصورة رائعة، بقوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) (الرحمن/ 46-58).
صور الجمال هذه مدخل لبيان الجزاء الذي يقابل الاستقامة في الحياة الدنيا: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) (الرحمن/ 60).
ويكرر القرآن الكريم هذه الصور الجمالية في معرض تنزيه الله ورد الفضل لجلاله، فتبرز في التكرار أمور وتختفي أمور، وتختلف الألوان والحواشي، وتبدو الصورة جديدة كلّ الجدة رغم تجاورها في السورة، قال تعالى: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ) (الرحمن/ 62-78).
المصدر: كتاب الإعلام الإسلامي وقواعد تقويمه
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق