◄ينظر الناس باستمرار إلى المثقّف أنّه حالة مختلفة منهم من رآه فوق الناس وافتتن به واعتبره الأسمى الذي قصرت أفهام الناس عن إدراكه والارتقاء لمستواه ومنهم من استراب في أمره وشك فيه واتهمه بالجنون أو بالزيغ والضلال عن الهدى والخروج على أفكار الجماعة وقيمها. فهو عند البعض نبيّ هادٍ يلاقي العنت والرفض لعدم قدرة الناس على استيعاب ما يبشر به وهو عند الآخرين في أدنى المنازل مرتبة لأنّه في نظرهم متمرد على الأعراف خارج على قيم المجتمع يسعى للخلاص من المواريث القديمة وربما السعي لهدمها وتدميرها. وهو لدى فريق ثالث مستراب في أمره محير في سلوكه غامضة أفكاره. والمثقف بدوره يجد نفسه في وسط هذا التجاذب في حرج من أمره فهو مع نفسه مبشر بأفكار وقيم يراها ضرورية لإحداث التطور في المجتمع والارتقاء به وهو داعية للتغيير وتجاوز الموروث والمعاش إلى الجديد الذي يتصور أنّه لابدّ منه لإنعاش الحياة من جمودها وإحداث الحيوية فيها لأنّ الزمن قد تجاوز تلك الأنماط القائمة وينبغي الانتقال لأنماط أخرى أكثر ملائمة. والناس بطبعهم يخافون الجديد ويخشون من المستحدث الذي قد يعصف بقيمهم وطرائق حياتهم وأساليب تفكيرهم التي ألفوها وارتضوها. ولعل من المثقفين من يبالغون في طروحاتهم وقد يتجاوز بعضهم الحدود إلى نقاط شائكة وحرجة تصدم الناس في مشاعرهم وتؤذي ضمائرهم وقناعاتهم. ولكن الأمر ليس كلّه كذلك فكثير من الأفكار الجديدة التي يتم طرحها وإن كانت غريبة على المجتمع إلّا أنّها ضرورية بالفعل للتحديث والتطور ولمواكبة الانتقال من مرحلة زمنية إلى أخرى وإذا كان بعض المثقفين يشطحون بعيداً في أفكارهم التي ينادون بها فإنّ الأكثرية منهم ليست كذلك ولكن الناس كما قيل قديماً – أعداء ما جهلوا – لهذا تهب الأعاصير وتثور الاحتجاجات في وجه أولئك المنادين بالجديد من الأفكار والقيم وقد كان ذلك حالة شائعة في مختلف العصور والأزمنة منذ سقراط أبي الفلاسفة الذي حُكم عليه بشرب السم لأنّ أفكاره تفسد شباب أثينا كما زعموا وعللوا وحتى جاليليو الذي أُحرق بالنار لأنّه قال بكروية الأرض. وهكذا دائماً يواجه الجديد بالرفض لأنّ الناس يرون فيه خروجاً وتمرداً على ما ألفوه ومضت عليه أعرافهم وورثوه عن أسلافهم واستقر في وجدانهم وأصبح من الثوابت في وعيهم ولكن الجديد دائماً هو الغالب والمنتصر وإن طال الزمن واشتد الرفض والمقاومة ذلك أنّ الجديد هو الغد المقبل والقديم هو الأمس الآفل والحياة دوماً صباح جديد تشرق شمسه ماحية ليلة الأمس بكلّ ما اكتنفها من ظلام وسكون إذا قدرنا أنّ الليل هو الظلام والسكون والنهار هو الحركة والنشاط. تلك هي سنة الدهر وذلك هو دأبه ومنهجه منذ أن كان الكون وبدأت الحياة. ولكن الحياة لا تولد جديدة مع ذلك الغد الآتي وإنما هي استمرار لليلة الأمس بأسلوب مختلف وطريقة أخرى "فلولا ظلام الليل ما طلع الفجر" كما قال القائل قديماً. لولا ليلة الأمس ما كان هنا هذا الصباح المشرق. الحياة نعم تحمل بذور تغيير نفسها في نفسها وإن كنا في الغالب لا نحس ذلك التغيير ولا نشعر به ولكن الحياة في تغيرها لا تنفصل جذرياً عن أمسها الذي انقضى وإنما تأخذ بذرة التغيير من ذلك الأمس مهما اختلفت أوراق الشجرة وألوان الزهور وطعم الثمار يحصل التغير عنيفاً حاداً في بعض الأحيان كالزلازل القوية والبراكين العاتية ولكن سر الاتصال بين حياة أزالها التغيير ودك معالمها وبين حياة تنشأ من أنقاض براكين ذلك التغيير وعواصفه يبقى مستمراً وثابتاً في خيوطه الدقيقة التي لا مجال لإدراكها إلّا بالفطنة والحدس. الحياة هي الحياة والناس هم الناس مهما كانت قوة التغير والتبدّل. الحياة إذاً تستمر وتمضي وخيوطه الاتصال بين حلقاتها ممتدة وإن دقّت وتوارت في عتمة الاستتار وشبكة تعقد الخيوط. والصراع أيضاً يظل قائماً بين جديد يوشك أن يظهر وقديم يتشبث بمكانه قبل المغيب وحياة ترسخت وغاصت بجذورها في الأعماق وحياة تريد أن تبدأ بصورة مختلفة وطريقة مغايرة لتسود وتنهي تلك التي قبلها. والمثقف هو الأداة التي من خلالها ينبت الانتقال بين حياة جامدة ثابتة وبين حياة متحركة قادمة وهو لسان الدعوة لهذا الجديد المقبل يروّج له ويبشر بما فيه والمثقفون بين البشر صنوف مثلهم مثل غيرهم من صنوف البشر الآخرين وهم يختلفون في نظراتهم للأشياء وفي معالجتهم للأمور بحسب ثقافتهم ونشأتهم وأحياناً حسب نفسيتهم الذاتية أيضاً فهذا شديد الانفعال ملتهب الإحساس وذاك شديد الأناة بطيء التأمل بارد الحركة لا يكاد يثيره شيء وهناك المتوسط الذي لا هو بالمتأني الجامد ولا هو بالمتطرف المستثار لأوّل وهلة. والنشأة العلمية والثقافية تفعل فعلها الأكبر في النظر إلى الأشياء والتنظير لها. فهذا يرى في الموروث أساساً طيّباً للانطلاق منه نحو الغد القادم. وصاحبه يرى أنّ ذلك الغد لا يمكن الوصول إليه إلّا بفكر جديد كامل الجدة بعيداً عن الأمس بكلّ ما فيه إذا كنا بصدد غدٍ نريده مختلفاً عن أمسنا المنصرم يقودنا نحو حياة جديدة حية. وآخر يتوسط بينهما بدعوة للجديد من غير انقطاع عن الماضي وربما كان هناك من يدعو إلى الجديد ولكن بحذر ومن يدعو للاستفادة من القديم ولكن بحذر. وبمثل النظرة فيما بين القديم والجديد تكون النظرة كذلك إلى الآخر – الأمم الأخرى والثقافات الأخرى – إلى أي مدى ينبغي الأخذ مما لدى الآخر وإلى أي مسافة ينبغي الاقتراب منه لاسيّما في هذا الزمن الذي اختلطت فيه الأمم وتداخلت أفكارها وقيمها. بل إنّ هذه هي المشكلة الأكبر التي تشغل فكر مثقفينا وتحرك رؤاهم ومنطلقاتهم ودعواتهم باعتبارها القضية التي على الأُمّة التعامل معها خضوعاً لها أو نزوعاً عنها أو قبول بعضها والإعراض عن بعض. وكما تأرق أهل الفكر وذوو التنظير عندنا في التعاطي مع هذه القضية النازلة تأرق لها كذلك نظراؤهم في كثير من الأُمم الأخرى وإن بدرجات متفاوتة بحسب نصيب كلّ أُمّة من التحضير والتطور. وكما هو الشأن في كلّ معضلة كبرى تعددت الرؤى وتباينت الاجتهادات واختلفت النظرات بين الدعوة للاندماج الكلي في حضارة العصر بحسبانها المنقذ والخلاص والمستقبل ولا مجال ولا خيار سوى ذلك لمن يريد التطور والتقدم بل لمن يريد الحياة ذاتها. وبين الدعوة الوسط التي ترى أنّه لا غنى عن حضارة العصر بل لا مجال إلّا الدخول فيها ولكن مع الحفاظ على الصالح من تراثنا. ويقوى الجدل ويشتد مع طغيان القوة والهيمنة في الجانب المقابل ومع الضعف والانحطاط في جانبنا. ويظل صوت المثقف مرتفعاً وقلمه متدفقاً يدعو إلى ما يدعو إليه من فكر يراه الأصوب والأدعى لأن يخرج بالأُمّة من حيرتها واضطرابها ولكنها دعوة تواجه بالاسترابة والتوجس وينظر إليها بالشك والحذر. فريق من الأُمّة يراها دعوة للاغتراب عن الذات والتخلي عن الأصالة والخصوصية ويدعو لمحاربتها ونبذها وفريق يتفق معها ويقبل أفكارها – مع شيء من الحيرة فيها – ولكنه لا يجد الوسيلة والقوة لملامستها وتجريبها والتيقن من صلاحيتها أما ولاة الأمور فيرون في دعوة المثقف مزايدة لا طائل منها إنّه يتحدث عن أشياء غابت خفاياها عنه ولا يعلم أسرارها وغوامضها وأسبابها وبالتالي هو يقحم نفسه فيما لا يدريه وهكذا تتوالى معاناة المثقف في وسط مجتمعه بين الرفض والاسترابة والحيرة وقليل من المناصرين والمؤمنين ولكن المثقف الصادق في دعوته يبقى ثابتاً على المبدأ لا تحركه الهزات ولا تزلزله المتغيرات يدعو إلى ما يدعو إليه عن قناعة ووعي وإيمان راسخ وإن ارتاب المرتابون ورفض الرافضون واستبدت الحيرة بمن لم يتمكن من الإدراك بيقين فهو يعلم أنّ صرخته لن تذهب عبثاً في طبقات الجوّ بل إنّ صداها سيتعالى وينطلق ويبلغ أقصى الأقاصي وأنّ بذرته التي ألقاها في الأرض ستنمو وتشب وتعلو أغصانها مورقة مزهرة مثمرة وأنّ كلمته التي قالها أو كتبها ستمضي في سبيلها لتستقر في عقول وأذهان كثيرة إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد مائة ومئات من السنين يكون منها الفكر القوي العميق المبشر بالخير وصانع الغد الجديد الأكثر إشراقاً وضرورة للحياة. إنّه المثقف الصادق المنبثق من ضمير أُمّته وليس المتصنع الذي يتقلب كيفما تتقلب الرياح فهذا هو الصدق وذاك هو الزيف وشتان ما بين هذا وذاك وإن توهّم الواهمون.►
المصدر: كتاب حول الثقافة
ارسال التعليق