العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
◄قيمة الذكر والأنثى بالعمل الصالح:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل/ 97). ليس في الإسلام فرق بين الرجل والمرأة لجهة تقييم الأعمال وتقدير النتائج على مستوى الثواب والعقاب، وليس لأيّ منهما خصوصيةٌ في حساب المسؤولية إلا عمله وما يمثله من خلفيّات روحيّة فكرية، وما يتضمنه من جهدٍ وعناء. وبذلك كانت إنسانية المرأة في امتدادها الروحي والعملي، أمام الله، مساوية لإنسانية الرجل، فهما سواء في عبوديتهما لله، وفي مسؤوليتهما أمامه. ولكلِّ منهما بعد ذلك خصوصية دور تمليه خصائصه التكوينية وما فيها من إمكانيات العطاء للحياة.
وللعمل الصالح قيمته الخاصة عند الله، عندما يرتكز على قاعدة العقيدة التي تجعل منه شيئاً ثابتاً في النفس، وحركةً فاعلةً في العقل والروح والشعور، لتصبح طبيعته ممتدةً بامتداد الروح الذي أوحى به، والفكر الذي انطلق منه، والآفاق التي عاش فيها، لأنّ هناك فرقاً بين العمل الذي ينطلق من عادةٍ ذاتيّة أو من تقليدٍ اجتماعيٍّ، أو من مزاجٍ شخصيّ، أو من حالةٍ فكريةٍ طارئةٍ لا عمق روحي لها في شخصية الإنسان الفكرية، وبين العمل الذي ينطلق من قاعدةٍ فكريةٍ واسعةٍ شاملةٍ، تتكامل فيها الأعمال، وتتوزّع فيها الأدوار وتغذي بعضها بالمعاني التي يحملها البعض الآخر.
ولهذا أكّدت الآية على ارتباط قيمة العمل الصالح بالإيمان بالله، لأنّ هذا الارتباط بالله يخرج العمل عن بعده الذاتي الخاص بشخص معيّن، ويجعل منه تجلياً عملياً لحقيقة ذاك الارتباط، على أساس حاجة الحياة إليه، لا على أساس حاجة العامل إلى نتائجه المادية. حتى أنّ الإنسان قد يقوم بالعمل الصالح على خلاف رغبته الخاصة، انطلاقاً من محبة الله للعمل، لأنّ الإيمان يجعله يفضل ما يحبه الله على ما تحبه نفسه. وهذا ما يمنح العمل امتداداً في حياة الإنسان، بحيث لا يخضع لاختلاف حالته المزاجية له، أو لاختلاف الظروف المحيطة بحياته.
إضافة إلى أنّ الله يريد للحياة أن تتحرك من خلال عبوديتها له وتوحيدها إيّاه، في حركة الطاعة، مما يفرض وجود علاقةٍ عميقةٍ بين الإيمان بالله وماهية العمل، يستحق الإنسان على أساسها الأجر من الله، لأنّه إذا كان قد عمل لغير الله أو لحالةٍ مزاجية، فليس له أي حقِّ في الأجر، إذا لا علاقة لله بالعمل، ليستحق مقابله شيئاً عنده.
وفي ضوء ذلك، جاءت الآية لتؤكد على شخصية العامل المؤمن بالله، بالإضافة إلى طبيعة العمل، بحيث تتصل الصفة الذاتية للعقيدة في فكره، بالصفة الموضوعية للعمل الصالح، فليس للكافر على الله شيء، وإن كان عمله جيداً في نفسه. وربما كان للعمل الصالح في نفسه بعض الآثار والنتائج المادية التي قد تكون بمثابة الأجر التكويني الذي يجعله الله للعمل، ليستمر في وجوده الفاعل من موقع الخصائص الذاتية له، إذا لم تكن له دوافع إيمانية وروحية تتصل بالله.
الحياة الطيبة:
أما مسألة الحياة الطيبة، ما هي؟
هل هي في الدنيا، أو في الآخرة؟ وإذا كانت في الدنيا، فكيف نفسر المشاكل والصعوبات المادية والمعنوية التي تجعل من الحياة سجناً للمؤمن في مقابل الرفاهية والنعيم والغنى والقوّة التي يعيشها الكافر لتكون الدنيا جنّة له؟ على ما ورد: "إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
ذكر بعضهم أنّ المقصود بالحياة ليست هي الحياة المادية التي يعيشها الإنسان بموازين الحس والغريزة، بل هي الحياة الروحية المعنوية، ففي الحياة أشياء كثيرة غير المال تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الحياة.. وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله.
ويؤكد صاحب الميزان هذا المعنى، بطريقةٍ أخرى فيقول: "الجملة بلفظها دالة على أنّ الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحاً بحياةٍ جديدةٍ غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، ولو كان كذلك لقيل: فلنطيبن حياته. فالآية نظير قوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام/ 122)، وتفيد ما يفيده من تكوين حياةٍ ابتدائية جديدة". ويرى أنّ الله يعطيه من العلم والقدرة ما ليس لغيره وهما "يمهدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليها فيقسِّمها قسمين: حق باقٍ، وباطل فانٍ، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارّة الفتّانة ويعتز بعزة الله، فلا يستذله الشيطان بوساوسه ولا النفس بأهوائها وهوساتها ولا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها وفناء نعمتها.
ويتعلّق قلبه بربه الحقّ الذي هو يحقّ كلّ حقِّ بكلماته، فلا يريد إلا وجهه ولا يحب إلا قربه، ولا يخاف إلا سخطه وبعده، يرى لنفسه حياةً طاهرةً دائمةً مخلّدة لا يدبِّر أمرها إلا ربّه الغفور الودود ولا يواجهها في طول مسيرها إلا الحسن الميل، فقد أحسن كل شيءٍ خلقه، ولا قبيح إلا ما قبحه الله من معصيته. فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما لا يقدّر بقدر، وكيف لا، وهو مستغرق في حياة دائمةٍ لا زوال لها ونعمةٍ باقيةٍ لا نفاد لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدرها، وخير وسعادة لا شقاء معها".
وهذا تفسير جميل، وتحليل جيد للمعاني الروحية التي يختزنها الإيمان في نفس المؤمن العامل بالصالحات ويثيرها في مشاعره وأجوائه، ولكن المسألة هي التقاء هذا التحليل مع سياق الآية التي وردت لبيان الجزاء الذي يمنحه الله للإنسان الذي يعمل الصالحات وهو مؤمن، مما يوحي بأنّ هذه الحياة التي يمنحها الله له مفصولةٌ عن الواقع الذي يعيشه الآن، وليست حالةً وجدانيّةً أو عملية في دائرته. وقد نلاحظ أنّ ما ذكره هذان المفسران الجليلان وغيرهما، هو من آثار الإيمان، بينما تعتبر الآية أنّ الحياة الطيبة جزاء العمل الذي ينطلق من الإنسان المؤمن، والله العالم، ولعل الأقرب، هو أن يكون المراد منها الدار الآخرة، أو الجنة، أو ما أشبه ذلك.
(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97)، وقد تقدم الحديث عما يماثل تفسير هذه الفقرة في الآية السابقة. وقد يخطر بالبال أنّ المراد بالأحسن ليس ما يقابل الحسن، بل ما يقابل السيء، وذلك في ما نلاحظه دائماً في مجال الحديث عن الثواب والعقاب، وفي الحديث عن الحسنة في مقابل السيئة، مما يوحي بأنّ المراد من الأحسن، هو الحسنة، كما قد نلاحظ ذلك في قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) (الإسراء/ 53)، فإنّ المراد به – كما يظهر – الكلمة الحسنة الطيبة مقابل الكلمة السيئة الخبيثة التي يوحي ويعبث من خلالها الشيطان، لا في مقابل الكلمة الحسنة، والله العالم. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق