محمد شريف الإسكندراني*
◄تَحمل المواد النانية بين جنباتها، صفات الغرابة والعظمة في وقت واحد! هذا ما قاله لي أستاذي العالم الجليل البروفيسور "كنجي سوزوكي Prof. Kenji Suzuki" في عام 1985، حين كُنتَ شاباً يافعاً في بداية مشواري لدراسة الماجستير في علوم وتكنولوجيات النانو بمعمل هذا الرجل النابغة في جامعة طوهوكو اليابانية. ظلت هذه الكلمة عالقة في ذهني إلى الآن، ومنذ لحظة لقائي بهذا الرجل القدير في مكتبه المتواضع الكائن بأكبر مؤسسة بحثية في اليابان تهتم بالمواد المتقدمة عامة، وبمواد وتكنولوجيا النانو على وجه الخصوص. ولا أخفي على القارئ الكريم، أنني في تلك اللحظة ترددت في أن أسأله "وما سر هذه الغرابة المغموسة بالعظمة؟".
في ذلك الوقت، كان الوسط البحثي في العالم كله، مازال "يحبو مترنحاً" بين جنبات مواد وتطبيقات تكنولوجيا النانو. وكانت الآمال المنعقدة عليها كبيرة، ولكن النتائج البحثية الخاصة بها مازالت متواضعة، تتدنى عن مستوى تلك الآمال العريضة. وما زاد "الطين بلة"، هو امتزاجها – أي تكنولوجيا النانو – بالأساطير وروايات الخيال العلمي، مما جعل المجتمعات المدنية بالدول المتقدمة – وحتى حكومات تلك الدول – في تلك الفترة المبكرة من مشوار النانو مع البشرية، تعتقد أنّ النانو، مواد وتكنولوجية، ما هي إلا إرهاصات متوجة بإبداعات علمية وبحثية لمجموعة من الباحثين المتميزين من ساكني "الأبراج العاجية"، الذين لا يدركون تفاصيل المشكلات اليومية الدقيقة التي يعاني منها رجل الشارع العادي! كان هذا هو الانطباع السائد بين البشر خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
لم يُطل علي البروفيسور "سوزوكي" فترة ترددي، فأردف شارحاً في بساطة شديدة أسباب ذلك التميز المغلف بالغرابة والعظمة الذي تحتكره المواد النانونية وذلك لكونها مواد تجمع في طيات بنيتها البلورية خواص مختلفة وعديدة، تخول للمادة الواحدة منها أن تُستخدم وبكفاءة نادرة في أكثر من تطبيق. وكمثال، تجمع الحبيبات النانونية للمواد الحرارية المعروفة باسم السيراميك في صفاتها العديد من المتناقضات المُتميزة، فصلادتها وبأسها الشديدين، لم يحرماها من أن تكون مرنة وصلبة. لذا، نجد أن مواد السيراميك النانونية، مثل الزجاج والفخار، لا تنكسر بسهولة عند سقوطها أو الطرق عليها، هذا شيء غير مألوف! وكان سؤاله هذا بمنزلة أوّل توجيه يصدر عنه كي أحاول مجتهداً، خلال مرحلتي دراستي للماجستير والدكتوراه بمعمله، للإجابة عن هذا السؤال.
الكربون وتكنولوجيا النانو:
ليس من ثمة شك، فإن عنصر الكربون C، الذي يدخل في تكوين نحو 19 في المائة من كتل أوزان أجسامنا، يُعد عنصراً أساسياً ومهماً ترتبط به حياتنا على سطح هذا الكوكب، فهو يدخل في تركيب البروتينات، الكربوهيدرات، الدهون والأحماض النووية Nucleic Acids. وتوجد ذرات الكربون في كل مكان من حولنا، وفي ملايين من جزيئات المواد المختلفة التي نستخدمها بكل لحظة من لحظات حياتنا اليومية، في الغذاء الذي نتناوله، الملابس التي نرتديها، الأقلام التي نكتب بها، وأيضاً في الوقود الذي يحرك مركباتنا، في البر والبحر والجو.
وتوجد مركبات الكربون في الصور الثلاثة للمادة، فهي قد تكون في الصورة غازية مثل (غاز البروبان Propane)، السائلة (مثل البنزين) أو الصلبة (مثل الجرافيت والماس). وتتميز مركبات الكربون بتنوع خواصها وبتباين سماتها، وذلك رجوعاً إلى ثلاثة عوامل رئيسية هي:
- لذرة الكربون القدرة على الارتباط مع معظم ذرات المواد المختلفة، وذلك من خلال روابط قوية، تُعرف باسم الروابط التساهمية Covalent Bonding، والتي من خلالها ترتبط ذرة واحدة من الكربون من أربع ذرات أخرى لمادة واحدة أو مواد مختلفة.
- حين ترتبط ذرة الكربون بذرة كربون أخرى، والذرة الأخرى ترتبط بذرة ثالثة من الكربون، تتكون شبكة من ذرات الكربون Carbon Network لها بنية ماسية Diamond-like Structure.
- لكل ذرة من ذرات الكربون المؤلفة لسلاسل شبكة الكربون الحرية في أن ترتبط بأربع ذرات لمواد أخرى، ليست بالضرورة أن تكون من الكربون، لتكوين سلسلة Chain متشابكة مؤلفة من ذرات مواد مختلفة. ويؤدي هذا التعدد النوعي في الذرات المنتسبة لمواد مختلفة الخواص، إلى تكون مركبات تحمل في خواصها صفات جامعة لكل خواص وصفات ذرات المواد الداخلة في تكوينها، مما يؤدي إلى اتساع رقعة تطبيقاتها في قطاعات كثيرة ومتنوعة.
وفي إطار تلك الخواص الفريدة والمتميزة لهذا العنصر، لم يكن من الغريب أن يستأثر الكربون بشغف واهتمام علماء تكنولوجيا النانو، وأن يخصصوا له مساحة بحثية واسعة، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، وحتى يومنا هذا، خاصة بعد ما تحقق من إنجازات تكنولوجية في مجال تخليق المواد الجديدة خلال الفترة السابقة، والتي تبلورت في توظيف الكربون في إنتاج مواد شديدة القوة والبأس، مثل ألياف الكربون Carbon Fibers التي تم استخدامها كمواد مقوية وداعمة للبلمرات والمواد الفلزية، وذلك بغرض تأليف مواد متراكبة Composite Materials تجمع في خواصها الصلادة والقوة، بجانب تمتعها بالمتانة، اللدانة والقابلية للتَشَكل.
ومع تحقيق تلك الإنجازات – التي مازالت مستمرة حتى اليوم – المرتبطة بعلم المواد وتخليق مواد كربونية متقدمة تتلاءم مع المتطلبات المُلحة والكثيرة لتكنولوجيات إنتاج المعدات والأجهزة الحديثة، خرج الكربون من تلك الدائرة المُغلقة والضيقة التي ارتبط بها خلال القرون السابقة، فلم يعد فقط مصدراً من مصادر الوقود، بل وجد لنفسه وظائف مرموقة في قطاعات صناعية كثيرة مثل صناعة السيارات، الطائرات والمركبات الفضائية، صناعة الإلكترونيات، صناعة الأدوات والأجهزة الرياضية. فلم يكن غريبا اليوم أن نسمع عن استخدام الكربون، كمادة رئيسية في إنتاج العديد من الأجهزة المحمولة من الحواسب، الهواتف، وغير ذلك من الأجهزة الحديثة والمتقدمة التي تعبر عن روح هذا القرن الذي نعيش به. وأحسب أن ذرة الكربون سوف تلقى نفس الاهتمام البحثي والتقدير التطبيقي، وربما أكثر مما هو عليه الآن، خلال المراحل المتعاقبة لحقبة تكنولوجيا النانو من هذا القرن.
كريات بكي.. أسطورة العصر النانو – كربونية:
لعل قدرة الكربون على ترتيب ذراته بصور مغايرة ومختلفة Allotropes، بحيث تُشكل مجموعة متنوعة من الصور، مثل الكربون غير البلوري أو الأمور في، الجرافيت، الماس، الفولورين من أهم الأسباب التي جذبت علماء تكنولوجيا النانو نحو الكربون. وقد يتفق القارئ الكريم معي بأن اختلاف الصور والترتيب الذي توجد عليه ذرات أي مادة، يؤدي إلى هذا التنوع والتباين في الخواص والسمات الذي نلاحظه بين المواد. لذا فلم يكن غريباً، أن توافر الأشكال المختلفة التي يوجد عليها الكربون، والتي تتسق مع تنوع بنيته الهيكلية، تميزاً وانفراداً في خواصه وسلوكه، قاده إلى أن يتقلد صولجان المُلك على عرش مملكة المواد المتقدمة، وفتح المجال أمام أشكاله المتنوعة والمتباينة للاستخدام في تطبيقات متعددة وفريدة.
الفولورين:
ليس من المألوف أن يتم اكتشاف مواد جديدة تتميز بقدرتها على تغيير حياة الإنسان أو أن تكون سبباً في تفجير ثورات تكنولوجية عملاقة، بصورة متكررة خلال فترات زمنية قصيرة. وقد يستغرق الأمر لتحقيق ذلك عدة عقود، أو ربما عدة قرون. ويُمثل الفولورين Fullerene، نموذجاً لتلك المواد الفريدة، شديدة التميز التي استطاع الإنسان التوصل إليها وإنتاجها، قبل أن ينتهي القرن الماضي بخمس عشرة سنة.
والفولورين الذي يمثل الصورة الثالثة من صور الكربون بعد الجرافيت والماس يُعرف باسم "الكربون السيتيني C60، نظراً لأنّ الجزيء الواحد منه يتكون من ستين ذرة من الكربون، ترتبط كل واحدة منها بثلاث ذرات أخرى مماثلة، كما هي الحال تماماً في مادة الجرافيت. لكن الخاصية المميزة وغير المسبوقة التي ينفرد بها الفولورين، هي أن ذرات الكربون المؤلفة لجزيئه الواحد، تُكون هيكلاً هندسياً كروي الهيئة، يبلغ قطره نحو 1 نانومتر. وتساهم تلك الذرات في ترابطها لتكوين 32 وجهاً، منها 20 وجهاً سداسياً و12 خماسياً، لتتشابه في مظهرها وتعدد أوجهها، مع كرة القدم – ساحرة الملايين أو الساحرة المستديرة كما يحلو للكثيرين من معلقي البرامج الرياضية خلع هذا اللقب عليها.
وقد يأذن لي قارئ الكريم بأن أسرد عليه، وفي عجالة، قصة اكتشاف الفولورين والتوصل إلى إنتاج تلك الكريات الكربونية الضئيلة التي أذهلت العالم ومازالت بخواصها غير المسبوقة وتطبيقاتها الفريدة. ففي سبتمبر من عام 1985 أعلن ثلاثة من علماء الكيمياء البارزين، هم البروفيسور "روبرت كورل Robert F. Curl Prof"، البروفيسور السير "هارولد كروتو Sir Prof. Harold Kroto" والبروفيسور "ريتشارد سمايلي Richard E. Smalley" بجامعة رايس Rice University الأمريكية، توصلهم لاكتشاف نوع جديد من صور الكربون، أطلق عليه كما ذكرنا سلفاً اسم الكربون الستيني C60. وقد ضم هذا الفريق البحثي اثنين من طلاب الدراسات العليا بنفس الجامعة، هما، "جمس هيث James Heath" وسين أوبرين Sean O’Brien"، اللذان قاما بدور المعاونة في إجراء بعض الاختبارات المعملية.
وقد زلزل هذا الاكتشاف، بما يمثله من سبق علمي غير متوقع، ربوع الوسط العلمي، وغلقت عليه آمال عريضة، وأحلام تطبيقية كثيرة. وقد أدى هذا الكشف الكبير إلى ترسيخ قواعد تكنولوجيا النانو، وتأكيد قدرتها في تخليق مواد غير مسبوقة، لتفتح بها آفاقاً عريضة من التطبيقات الرائدة.
وقد استغرق الامر تسع سنوات، حتى يتبين الوسط العلمي من حقيقة المادة، وصحة التجارب التي قام بها الفريق البحثي بجامعة رايس، حتى تقاسم الأساتذة الثلاثة جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1996، والتي صادف تاريخها الذكرى المائة لوفاة مؤسس الجائزة العالم البروفيسور الفريد نويل Alfred Nobel. وعلى الرغم من عدم مقاسمة طالبي الدراسات العليا جمس وسين للجائزة، فإنّهما نالا الكثير من التقدير والإعجاب لمشاركتهما الفعلية في صنع هذا الإنجاز التاريخي المُدون بأحرف من نور بسجل الاكتشافات والاختراعات البشرية، منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا.
ومن الطريف أن يُذكر هنا، أنّ الفولورين Fullerenes قد سُمي بهذا الاسم، نسبة إلى اسم المهندس المعماري الشهير "ريتشارد بكمينستر فولو Richard Buckminster Fuller" الذي اشتهر وذاع صيته في تصميم القباب الجيوديسية Geodesic Domes التي تتشابه في مظهرها مع تلك الكريات الكربونية المُخلقة في المعمل. لذا فقد أطلق عليها – أي الكريات الكربونية – اسم "فولورين بكمينستر Buckminster Fullerene" بيد أن هذا الاسم لم ينل الاستحسان اللائق. وقد أجاد الفريق حين اختاروا "كريات بكي"، أو بكى بول Buckyball كاسم تدليل متداول وبسيط.
وقد أردت من سرد قصة اكتشاف "البكي بول"، أن أذكر نفسي وأذكر قارئي من الشباب العربي الواعد، بفضيلة التعاون، ليس فقط في مجال البحث العلمي وإنما في كل المجالات، فلكل منا دوره، سواء صغر هذا الدور على مسرح الحدث أو كبر.
التطبيقات الراهنة والمستقبلية لكريات بكي:
خضعت جزيئات "البكي بول" منذ اكتشافها لعديد من الاختبارات المختلفة المُجراه عليها، حيث أكدت تمتع تلك الفئة من المواد الكربونية بقائمة طويلة من الخواص الفيزيائية، الكيميائية والميكانيكية غير المسبوقة، مما كان له بالغ الأثر في ترشيحها وبقوة في كثير من المجالات التطبيقية المختلفة. وتعد القطاعات الصناعية الخاصة بإنتاج الحواسب، الأجهزة الإلكترونية، الحساسات Sensors وكذلك خلايا الوقود Fuel Cells، أهم القطاعات الإنتاجية المستفيدة من كريات بكي. وخلال السنوات القليلة الماضية، أظهرت نتائج البحوث الطبية والدوائية المجراة على البكي بول، أنها مادة واعدة بالتطبيقات المتقدمة في قطاع الطب والدواء. واكتشفت واحدة من كبرى شركات تصنيع الدواء العالمية، مدى فاعلية الفولورين عند استخدامه في إنتاج عقاقير السيطرة على الآثار التدميرية الناجمة عن اعتلال المخ بأحد الأمراض الدماغية، مثل مرض "الزهايمر Alzheimer" ومرض "اعتلال الأعصاب الحركية"، المعروف باسم "لو جيهريج Lou Gehrig’s (ALS)".
هذا في الحين الذي اكتشفت فيه شركة دوائية أخرى معروفة، تطبيقاً مهماً لتلك الكريات، التي أظهرت فاعليتها بأن تستخدم كمضادات أكسدة Antioxidants قوية، حيث برهنت نتائج التجارب التي أجرتها تلك الشركة على قدرة البكي بول في معادلة Neutralization الجذور الحرة، المعروفة باسم الشقائق Free Radicals داخل جسم الإنسان، وذلك من خلال تكوين رابطة تساهمية بين الإلكترون الحر لجزيئات وذرات تلك الشقائق وبين إحدى ذرات الكربون التي تتألف منها كريات بكي، مما يعني وقف نشاطه وتحييده عن أداء أنشطته السلبية على الوظائف الحيوية داخل الجسم. ولأن كرة بكي الواحدة تتألف من 60 ذرة من ذرات الكربون توجد على سطح الخارجي للكرة، ولأن ذرة الكربون الواحدة تستطيع أن ترتبط تساهمياً بأربع ذرات أو جزيئات في وقت واحد بخلاف ارتباطها بذرات الكربون المماثلة لها بكرة بكي، فلنا أن نتخيل مقدار العدد الضخم من الإلكترونات الخاصة بالشقائق التي لذرات الكربون الارتباط معها ووقف نشاطها.
وبالإضافة لما سبق، فمازال هناك العديد من التطبيقات الفريدة المُقترحة للبكي بول في مجالات الطب، الدواء والتكنولوجيا الحيوية، التي يتم نشرها بصورة شبه شهرية في عدد ضخم من المجلات العلمية المرموقة.
وخلال السنوات العشر الماضية وحتى اليوم، فإنّ الجهود البحثية الخاصة بتحسين خواص كريات بكي تتواصل وتسير على قدم وساق. حيث أدت زيادة عدد ذرات الكربون الموجودة بها، مما هي عليه الآن 60 ذرة إلى 70، 76، 84 ذرة، إلى اكتشافات مثيرة لصور أخرى من الكربون، مثل C84، C76، C70، تطالعنا بها الدوريات العلمية المتخصصة في كل يوم. وأرجح أن تؤدي تلك الزيادة في أعداد ذرات الكربون إلى زيادة نشاط وشراهة تلك الكريات، مما يعني الإعلان عن المزيد من الاكتشافات الجديدة، وفتح آفاق متقدمة من التطبيقات التكنولوجية الفريدة في المستقبل القريب بإذن الله.►
* مدير برنامج تكنولوجيا النانو والمواد المتقدمة – معهد الكويت للأبحاث العلمية
المصدر: مجلة العربي العلمي/ العدد الثامن عشر لسنة 2013م
ارسال التعليق