• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القلوب العاقلة في القرآن الكريم

د. حسن الشرقاوي

القلوب العاقلة في القرآن الكريم
إنّ القلب ليس ذلك الجسم الصنوبري اللحمي الذي يحتل الجانب الأيسر من الصدر في الإنسان، إنما المقصود بالقلب تلك اللطيفة الربانية الروحية لهذا القلب الجسماني، وبالقلب ندرك العالم الخارجي ونتعرف على الأشياء والأفعال والأعمال، كما انّه محل الخطاب والعتاب والعقاب والطلب.

يبيِّن الله للإنسان أنّه متى استقام على الصراط المستقيم فإنّه تعالى ينقذه من الوقوع في براثن الشيطان واتباع الهوى إذ انّه تعالى قائم على قلوب عباده يوجهها  كما يشاء، فيحول بينها وبين ارتكاب المعاصي واتيان الفواحش ولذلك يقول بعض العارفين إنّ المدار على القلب، تصديقاً لقول عزّ من قائل: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 89).

فالقلب إذن هو الجزء المدرك من الإنسان والذي به يدرك الإنسان العلوم. أي انّه محل الإدراك. ويختلف القلب عن العقل في أنّ الأخير يعتمد في احكامه على المدركات الحسية ويستدل ويستنبط ويحكم بما يحكم من استمداها، فإذا لم يحظ من المدركات الحسية بما له طول وعرض وعمق لم يكن قادراً على إصدار الحكم على الأشياء، والتصور والتخيل إنما هي صور محفوظة بالذاكرة ليسترجعها أو يعيد تأليفها وتركيبها  كما يفعل الروائي أو المؤلف.

لكن العقل لا يخلق جديداً، ولا يتخيل معدوماً ولا يتصور الا ما  كان متميزاً في صورة ما، فهو لا يعقل الملائكة مثلاً لأنها مخلوقات غير متميزة، والعقل يعرف أنّ الله موجود لكنه لا يدرك كنه الله أو ماهية الله على الحقيقة.

أما القلب السليم فإنّه يعرف الله عن طريق الإيمان إذ انّه الجزء الذي يفقه من الإنسان، ويسمى هذا الفقه عند الأئمة فقه القلوب تمييزاً له عن فقه العقول.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (الحج/ 46).

فإذا ما ضلّ الإنسان، واتبع هواه وظلم نفسه، أصبح قلبه مريضاً وحرَّم نِعْمَة المعرفة وأصبح صاحبه كالانعام أو أضلّ:

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا) (الأعراف/ 179).

(صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (التوبة/ 127).

إنّ للقلب جنوداً وأعواناً وخدماً، كالعين واليد والأذن واللسان وسائر أعضاء الجسم وجميعها خادمة للقلب مسخرة له يتصرف فيها كما يشاء وهي مجبولة على طاعته لا تستطيع له رداً أو صداً أو هرباً.. وهذه الأعوان بمثابة الجواسيس ولها مراكز معينة مدسوسة في أعضاء محددة فتدرك عن طريقها وبواسطتها الموضوعات الخارجية.

كما أنّ للقلب جنوداً باطنة منها ما ينزع إلى الخير وهي من حزب الله، ومنها ما ينزع إلى طلب اللذات واتباع الأهواء وهي من حزب الشيطان، فأما الصنف الأوّل فيحددها الإمام الغزالي في العلم والحكمة والتفكير، وأما الصنف الثاني فيحددها في قوتي الغضب والشهوة، فإذا سلط على الإنسان جنود القوتين الأخيرتين أي الغضب والشهوة أصبح من الهالكين، أما إذا سخر جند الله العلم والحكمة والتفكر ارتقى الإنسان وأصبح من الصالحين...

ويشترك الحيوان مع الإنسان في جندي الغضب والشهوة حتى أنّ الشاة ترى الذئب في عينها فتعلم بقلبها انّه عدو لها فتهرب منه، لكن لا الشاة ولا الذئب ولا غيرها من الحيوان قد وهب العلم أو الحكمة أو التفكر إذ أنّ هذه القوى يختص بها الإنسان دون غيره، ومن أجل ذلك شرفه الله واستحق القرب منه تعالى.

والقلب في الإنسان يختص بالعلم والإرادة وذلك بخلاف سائر الحيوان، والطفل الصغير غير المميز تتوفر له الحواس الظاهرة والباطنة ممثلة في قوى الشهوة والغضب فحسب، فإذا ما نضج الصبي وأصبح راشداً حظي بالعلم والإرادة وهما أمران لم يتوافرا له إلّا بعد بلوغه..

ويمثّل الإمام الغزالي قوة الغضب في الإنسان بالكلب، وقوة الشهوة بالخنزير، فإذا أطاع القلب كلب الغضب في نفسه نتج عن ذلك التهور والتكبر والعجب والاغترار والنذالة والاستهزاء والاستخفاف وشهوة الظلم وغيرها.

كما أنّ الإنسان إذا أطاع خنزير الشهوة نتج عن ذلك الوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والنفاق والجشع والحسد والحقد وغيرها.

أما القلب السليم فهو الذي قهر كلب الغضب وخنزير الشهوة في نفسه وبذلك يستقر في القلب العلم والحكمة واليقين..

فالقلب بهذا المعنى مرآة للأمور كلها، فإذا كانت أموراً محمودة فإنّه يزداد أمناً وصحة وجلالاً وضياءً إذ يتلألأ فيه الحق:

يقول الرَّسول (ص): "إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه".

والقلوب العاقلة هي القلوب المشرقة بالإيمان والتي استطاعت أن تقهر الغواية الشيطانية وان تسكن غضبها وشهوتها، وان تسترسل مع الله بالذكر الدائم، فيشملها الله بعنايته ويتعطف عليها بالسكينة والأمن النفسي الدائم.

 

المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد الثالث

ارسال التعليق

Top