د. لطفي الشربيني
◄تشير الدراسات التي أجريت في مجتمعات مختلفة في بلدان العالم في الشرق والغرب إلى وجود الأمراض النفسية بنسب متفاوتة في كل مكان ولا يكاد يخلو من أنواعها المتعددة أي مجتمع من المجتمعات، وقد أكدت ذلك دراسات متعددة للأمراض النفسية في دول الغرب المتقدمة وبعض المجتمعات البدائية، والدول التي يطلق عليها العالم الثالث، وتدل دراسات أخرى على تشابه أعراض الأمراض النفسية التي تصيب الإنسان في المجتمعات المختلفة من حيث مظاهرها الرئيسية، وإن لوحظ اختلاف في بعض التفاصيل خصوصاً المعتقدات التي ترتبط بالمرض النفسي، ومفاهيم الناس وتفسيرهم لأسبابها، والأعراض، والطرق التي يلجأ إليها الإنسان للعلاج حيث يختلف ذلك تبعاً للخلفية الثقافية والاجتماعية، وتذكر تقارير منظمة الصحة العالمية أنّ الأمراض النفسية تختلف عن غيرها من المشكلات الصحية الأخرى في أنها تتسبب في الإعاقة، وتمنع المصابين بها من أداء وظائفهم في المجتمع بصورة تفوق غيرها من الأمراض الأخرى، كما أنّ التقدم الطبي الذي أدى إلى تحسين غير مسبوق في الحالة الصحية الإنسان في بلدان العالم في السنوات الأخيرة، والذي تمثل في التخلص من كثير من الأمراض المعدية التي ظلت لوقت طويل تحصد الكثير من الأرواح لم يواكبه تطور مماثل في الصحة النفسية حيث أصبحت الأمراض النفسية تشكل تهديداً خطيراً وتحدياً للإنسانية في العصر الحالي.
طبيعة الأمراض النفسية:
تختلف طبيعة الأمراض النفسية عن غيرها من المشكلات الصحية الأخرى، وترتبط الأمراض النفسية ببعض المفاهيم والمعتقدات Concepts and beliefs في مجتمعات العالم المختلفة خصوصاً المجتمعات الشرقية حيث يحيط الكثير من الغموض بالمرض النفسي، ويدفع ذلك إلى أن يعزو الناس الإصابة بالأمراض النفسية إلى تاثير القوى الخفية مثل السحر والجن والحسد، ويرتبط ذلك بالخلفية الثقافية والاجتماعية في بلدان العالم العربي والإسلامي، كما تؤكد بعض الدراسات النفسية العربية.
وتذكر دراسات أخرى أنّ الكثير من المرضى النفسيين لا يحصلون على الرعاية والعلاج الملائم نتيجة اللجوء إلى وسائل غير طبية للعلاج لدى الدجالين وأدعياء الطب، وينشأ عن ذلك تأخر عرض حالات المرضى على الطب النفسي الحديث وتعرضهم للمضاعفات والمعاناة لفترات طويلة، ويتعلق ذلك بصورة مباشرة بحقوق المرضى النفسيين حيث يتعرض بعضهم لانتهاكات وممارسات غير أخلاقية، وبالإضافة إلى الإهمال والابتزاز والعنف والإساءة الجنسية، وقد تم دراسة ظاهرة وصمة المرض العقلي Stigma of mental illness في الثقافة العربية حيث أظهرت نتائج الأبحاث ارتباط المرض النفسي بوصمة الجنون لدى المرضى وأقاربهم، ويمتد تأثير هذه الوصمة ليشمل تخصص الطب النفسي والعلاج في المستشفيات والعيادات النفسية مما يدفع المريض النفسي وأهله إلى تجنب التعامل مع الطب النفسي، ومحاولة إخفاء الإصابة بالمرض النفسي، وذلك حتى لا يتأثر وضعهم الاجتماعي.
وقد ذكرت دراسات أخرى في بلدان العالم عموماً، وفي المجتمعات العربية أيضاً وجود اتجاهات سلبية Negative attitudes لدى عامة الناس نحو المرضى النفسيين، وتسهم هذه الاتجاهات السلبية في الإضافة إلى متاعب المرضى النفسيين وزيادة عزلتهم عن المجتمع، كما يؤثر ذلك في مشاعر المرضى النفسيين ويحول دون حصولهم على حقهم في الرعاية والاهتمام، وهو دليل على عدم تفهم طبيعة الأمراض النفسية ومعاناة المرضى النفسيين، ويشير إلى ذلك دراسات أجريت في بعض المجتمعات العربية لتحديد اتجاهات العامة وطلاب الطب والأطباء الممارسين وطلاب أقسام علم النفس بالجامعات نحو المرضى النفسيين، أظهرت نتائجها وجود اتجاه سلبي تتمثل في النفور من المرضى النفسيين وعدم قبولهم في المجتمع.
أعباء الأمراض النفسية:
بالنسبة لأعباء المرض النفسي على المريض وأسرته والمجتمع فقد تم تحديد عدة أوجه لهذه الأعباء، وقد ذكرت تقارير منظمة الصحة العالمية أربعة أنواع من أعباء الأمراض النفسية التي تتسبب في المعاناة للمرضى النفسيين وأسرهم والمجتمع، وهي:
- العبء المعرف أو المحدد Defined Burden:
ويتمثل في العجز أو الإعاقة التي تنشأ عن الإصابة بالمرضى النفسي وتأثيره على مواصفات الحياة Quality of life، وتمثل نسبة أعباء الأمراض النفسية والعصبية 10.6% من مجموع الأمراض مجتمعة، كما تتسبب بها في ضياع 28% من سنوات الحياة للمرضى الذين يعانون منها.
- العبء غير المحدد Undefined Burden:
ويتضمن الخسائر المادية والاجتماعية التي تنشأ نتيجة للإصابة بالمرض العقلي للمريض نفسه والمحيطين به من أفراد أسرته والمجتمع، ولا يمكن تقدير ذلك بالأرقام حيث يتضمن التكاليف المادية للعلاج والتأهيل، ونقص الإنتاجية، والأعباء النفسية على أفراد الأسرة وتأثر حياتهم وإنتاجيتهم.
- العبء الخفي (غير المنظور) Hidden Burden:
ويتمثل في الوصمة التي تسببها الإصابة بالمرض العقلي وانتهاك الحقوق الأساسية للمريض، ويترتب على ذلك مشاعر العزلة والإذلال والحرمان من العلاقات الاجتماعية.
- عبء المستقبل Future Burden:
وهو توقع تزايد حالات الإصابة بالإضطرابات النفسية وما يترتب عليها من إعاقة عقلية نتيجة لزيادة انتشار الأمراض النفسية، وزيادة أعداد المسنين، والتغييرات التي يشهدها العالم نتيجة للصراعات والحروب والكوارث الطبيعية، ومن شأن هذه الأعباء التاثير بصورة مباشرة أو غير مباشرة على حصول المرضى النفسيين على حقوقهم مثل حق العدالة في الرعاية والخدمات الصحية دون تفرقة، وحق الحرية للمرضى بأن لا يتم احتجازهم أو تقيد حريتهم، وحق الحماية من الانتهاك، وعدم التعرض للإساءة البدنية أو الجنسية، وحق الموافقة على العلاج دون إجبار، وحق تحكم المرضى وسيطرتهم على أموالهم وممتلكاتهم دون أن يغتصبها أحد.
وقد تم اقتراح خطوات محددة في تقارير منظمة الصحة العالمية تهدف إلى تخفيف أعباء المرضى النفسيين، ومساعدة المرضى وأسرهم في تحمل المعاناة الناجمة عن أعباء المرض النفسي.
المشكلات النفسية في أماكن العمل:
يمكن تلخيص المشكلات النفسية الرئيسية التي تحدث داخل أماكن العمل فيما يلي:
- التوتر نتيجة للضغوط التي يعاني منها الأفراد داخل وخارج نطاق العمل حيث أنّ الضغوط في المستوى المعتاد يمكن أن تكون إيجابية وتساعد على الإنجاز، وحين تزيد عن مستوى الاحتمال فإنها تؤثر في الأداء الذهني والعملي للأفراد، وبعض الأشخاص لديهم قابلية للتوتر الزائد وحساسية للتأثر بالضغوط المحيطة بهم في العمل أو خارج نطاق العمل، وتزيد حالات التوتر نتيجة للعوامل التالية:
1- زيادة الأعمال المطلوبة في وقت قليل.
2- أعمال مملة مكررة أو قلة العمل وزيادة الأفراد.
3- تدريب الأفراد أعلى من مستوى العمل أو أقل كثيراً من المطلوب.
- الاكتئاب وأهم أسبابه تعرض لأحداث ومواقف تفوق طاقة الاحتمال ووجود استعداد مسبق للإصابة بهذه الحالة، والأعراض الرئيسية للاكتئاب هي:
- أعراض نفسية مثل الحزن وإحساس التعاسة وهبوط الهمة والأفكار السلبية السوداء والشعور بالذنب والتفكير في الانتحار.
- أعراض بدنية مثل اضطراب النوم والأرق وفقدان الشهية والشعور بالتعب والإجهاد وآلام متفرقة في الجسم ونقص الوزن وهبوط الرغبة الجنسية.
- الإدمان وهو استخدام بعض المواد المخدرة سواء المواد المحظورة مثل مشتقات الأفيون والحشيش أو مواد أخرى مثل الكحول ونيكوتين السجائرن أو الإدمان على تعاطي بعض المواد التي تستخدم في الأعراض الصناعية مثل مواد الطلاء واللصق والبنزين، ويؤدي استخدام المخدرات إلى آثار نفسية سلبية في محيط العمل أهمها:
1- بالنسبة للفرد: العزلة والعصبية والغياب عن العمل ونقص الإنتاجية وتدهور العلاقات الاجتماعية والأخلاقية.
2- بالنسبة لزملاء العمل: يتأثرون بسلوك الإدمان وتعاطي المواد المحظورة نتيجة عبء زملائهم المدمنين والخلافات معهم.
3- تأثير الإدمان على جو العمل: سوء الأداء ونقص الإنتاجية وعدم الالتزام المهني وزيادة الحوادث والسلوك الإجرامي.
4- تأثير الإدمان على صاحب العمل: تدهور الإنتاجية وزيادة المشكلات في محيط العمل مثل السرقات والمشاجرات والحوادث ويؤدي ذلك إلى خسائر مادية مستمرة.
5- يؤدي الإدمان أيضاً إلى آثار سلبية على البيئة والصحة العامة وحالة الأمن في الوسط المحيط.
- التحرش والتفرقة بين الجنسين في أماكن العمل، ويحدث ذلك في صورة التفوه بألفاظ سيئة أو محاولات التحرش بين الجنسين أو التفرقة بين العاملين بما يؤدي إلى التوتر في محيط العمل.
الصحة النفسية في أماكن العمل:
يجب العمل على تحقيق أفضل المستويات والظروف الملائمة في مواقع العمل ومراعاة مواجهة المشكلات والضغوط بعد رصدها والتدخل فوراً لحل الصراعات والاضطرابات التي يعاني منها العاملين وتؤثر سلبياً على النواحي الصحية والاجتماعية والاقتصادية وهنا نعرض بعض النقاط كخطوات نوصي بها لمواجهة المشكلات التي تهدد الصحة النفسية في أماكن العمل:
1- البحث عن الأسباب التي تسبب توتر داخل وخارج مواقع العمل ومواجهتها.
2- التوعية والتثقيف للعاملين وأصحاب الأعمال حول أهمية الاكتشاف المبكر لضغوط النفسية وآثارها على حياة الأفراد وصحتهم النفسية وإرشادهم إلى الوسائل الفعالة لتجنب مخاطر الاضطرابات النفسية.
3- توضيح المؤشرات التي تدل على وجود مشكلات بمحيط العمل ومنها على سبيل المثال:
- معرفة إمكانيات الأفراد وطباعهم الشخصية وطموحاتهم والصراعات والضغوط التي تؤثر فيهم لمنع المضاعفات التي تحدث نتيجة لزيادة معدلات التوتر والقلق والاكتئاب والإدمان.
- تجنب ظاهرة الاحتراق Burnout التي تنشأ عن العمل وعدم الرغبة في العمل وتؤدي إلى السلبية ونقص الإنتاجية.
- الانتباه إلى المؤشرات التي تدل على زيادة مستويات التوتر والاكتئاب والإدمان عن طريق الخبرة في اكتشاف مؤشرات هذه الحالات قبل أن تتحول إلى مشكلات حقيقية في العمل.
4- نشر الوعي بالصحة النفسية في أماكن العمل بصفة خاصة وفي المجتمع بصفة عامة ووضعها في مقدمة الأوليات.►
المصدر: كتاب عصر القلق.. الأسباب والعلاج
ارسال التعليق